محاولة أخيرة لإطفاء حريق
العدد 209 | 04 نيسان 2017
فتحية الصقري


 أشياءُ تسحبُني للأعلى

 أشياءُ للأسفل

 لليمينِ لليسار ..

 لا أستطيعُ فكَّ الاشتباك

 أستطيعُ أن أتصوَّرَ فقط

 كيف سيبدو شكلُ الأشياء

 بعد هذا الشجارِ العنيف

 بين الريحِ والنار

 ثلاثةُ أسابيعَ ونصفٍ كافيةٌ لتحطيم

 عيونِ تمثالِكَ الفولاذيَّ

 لترى كلَّ شيءٍ على حقيقتِه

 صوتُكَ عربةٌ بحمولةٍ زائدةٍ تجرُّها كائناتٌ برمائيَّة

 ذراعاكَ أغصانٌ متشابكةٌ تمنعُ شجرةً من الطيران

 والنجومُ المتساقطةُ حولكَ طلقاتٌ عشوائيَّةٌ مَطليَّةٌ بالذهب.

لماذا لا توقفُ سيارتَكَ المسرعةَ على جانبِ هذا الطريقِ المهجورِ، وتفكرُ في نفسِك؟

 انظرْ في المرآة

 أنتَ لستَ على ما يرام

 ولن تعرفَ أبدًا موقعَ الألمِ في جسدِك

 وفي أيِّ منطقةٍ يسكنُ بالضبط

 فكِّرْ في نفسِك

 هناك أشياءُ كثيرة

 يمكنُها أن تخففَّ من حدَّةِ انطلاقِك

 تربيةُ السلاحفِ مثلًا

 أعتقدُ أنه مشروعٌ جيِّد

 المتابعةُ، التأمُّلُ، الدقَّة

 المشيُ اليوميُ في ممراتِ حياةٍ هادئةٍ تعملُ ببطء

 تعذيبُ الشغفِ، ومساءلةُ الصمت

 سلاحفُ صغيرةٌ، سلاحفُ كبيرةٌ تملأ البيت

 سيدفعُكَ كلُّ هذا لإنشاءِ حساباتٍ، مثلَ انستحرام، وسناب شات

 سيدفعُكَ للبحثِ المستمرِّ عن طرقٍ لزيادةِ المتابعينَ واللايكات

 سيدفعُكَ لالتقاطِ سيلفي مبتسمٍ مع السلاحفِ، كلَّ نصفِ ساعة

 وأنتَ مستلقٍ، وأنتَ تجهِّزُ الطعام، وأنتَ تستعدُّ للنوم، وأنتَ تركضُ، تمشي، تتنزَّه، تتسوَّقُ، إلخ…

 وبدلًا من أن تقضيَ وقتًا لتهدئةِ الكلابِ المسعورةِ التي تنهشُك

 ستقضي يومَكَ في متابعةِ الفولو والأنفولو، وتغييرِ بروفايلك كلَّ ثلاثِ دقائق

 لن تعيشَ قصَّةَ التايتنك، ولا تسونامي

 الهلعُ، الغرقُ، التدافعُ الجماعيّ

 ولن تقفَ وحدَكَ لمواجهةِ قطيعِ الثيرانِ الغاضبةِ التي تهمُّ بتحطيمِ كلِّ شيءٍ تقابلُه

 وربما لن تكونَ مضطرًا لتقمُّصِ الأدوار

 طبيبٌ، مهرَّجٌ، أمّ، أو أسعدُ رجلٍ في العالم

 حتمًا ستتغيَّرُ عاداتُك

 ستجلسُ مع الذين يكافَأونَ شهريًّا وسنويًّا على تقاعسِهم ولامبالاتِهم مع المُفتتنينِ بسحقِ النملِ بأحذيةٍ غاليةٍ وجديدة

 مع الذين يستلمونَ رواتبَهم لقاءَ قضاءِ 90% من أوقاتهم في تربيةِ الكسلِ والمللِ والتثاؤب،

 مثلَ تلميذٍ بليدٍ يُصغي دائمًا، من دون مقاطعة.

 ستحضرُ بانتظام؛

 حتى تتحوَّلَ إلى بحيرةٍ متجمدةٍ في القطبِ الجنوبيِّ، لا يتكسَّرُ سطحُها، ولا يذوب.

 حتى تتعوَّدَ على غمسِ روحِكَ يوميًّا في بيئةٍ مليئةٍ ببكتريا المجاملاتِ ومراقبةِ ذلكَ عن قربٍ لتتأكَّدَ من أنَّ كلَّ الأطرافِ مبتلَّة،

 لتضمنَ إصابتَكَ بالعدوى، خلالَ ثلاثةِ أيام.

 ستجدُ نفسَكَ تفعلُ ما يفعلُه الباردونَ جدًّا، بطيئو الحركةِ الذين يحملونَ ألقابَهم وأسرَّتَهم معهم في كلِّ مكان

 تذهبُ للعملِ، وتعتقدُ أنَّك ذاهبٌ للاستجمام،

 تشربُ الشايَ، تتثاءبُ كلَّ دقيقتين، تقرأُ الجريدةَ التي لا تقرأها عادة

 وتراقبُ دورانَ الساعة،

 الواحدةَ، الواحدةَ والنصفِ، الثانية

 الثانيةَ والنصف…

 لن تعودَ من الحرب

 خائرَ القوى

 تقضي أيَّامًا طويلةً محاولًا إطفاءَ حريقٍ ضخمٍ، ومعالجةِ أضرارٍ لن تختفيَ أبدًا

 لن تكونَ هناكَ حربٌ أصلا

 لن تتحطمَ يوميًّا، دفعةً واحدةً، مثلَ واجهاتٍ زجاجيَّةٍ ملوَّثةٍ بالرَّماد.

 تدخلُ من البابِ الذي يفتحُ لك

 تلزمُ مقعدَكَ هادئًا مطيعًا ومهذَّبًا

 تصفِّقُ بقوَّةٍ، حتى إن شعرتَ بالألمِ من شدَّةِ التصفيق لن تصرخ

 ستلاحظُ بعدَ عدَّةِ أيامٍ أنَّ تلكَ القوَّةَ الغامضةَ التي تعصفُ بكَ تختفي تدريجيًّا..

 “أعتقدُ أنّه من الضروريّ تربيةُ الأجيالِ الجديدةِ على قيمةِ الهزيمة.

 على تدبُّرِها.

 على الإنسانيّةِ المتولّدةِ منها.

 على بناءِ هُويّةٍ قادرةٍ على الإحساسِ بتشارُكيِّةِ المصير،

 حيث الإخفاقُ والانطلاقُ من جديدٍ ممكنان، دونَ أن تتأذّى القيمةُ، أو الكرامة.

 على عدم الاستقواءِ الاجتماعيِّ، على عدم الدَّوْسِ على أجسادِ الآخرينَ للوصولِ أوّلاً.

 في عالمِ المنتصرينِ السوقيِّينَ والمخادعينَ هذا، الظالمينَ المزيَّفينَ والانتهازيِّين”*

______________________________

*من حوار مع المخرج الإيطالي بيير باولو بازوليني (أسبوعيّة Vie Nuoveuh عام 1961) بعنوان “قيمة الهزيمة” ترجمه عن الإيطالية مصطفى قصقصي.

*****

خاص بأوكسجين

 

 

 

 


شاعرة من عُمان. صدر لها: "جمهور الضحك"" 2016، و""أعيادي السرية"" 2014، و""قلب لا يصلح للحرب"" 2014، و""نجمة في الظل"" 2011."