مائدة من السماء
العدد 267 | 25 أيلول 2021
محمود عبد الدايم


أخبرته الطبيبة أن عقله «يتآكل» و«التذكر» سلاحه الوحيد في المواجهة، بعدما حدّثها عن الأعراض التي بدأت تنتابه منذ عدة أشهر، نسيان موعد «دواء الضغط»، توهانه في صالة البيت، بعد أن ضل طريقه إلى الحمام. خروجه من البيت لأكثر من مرة بملابس النوم. البقاء أكثر من 10 دقائق حبيساً في المصعد بعد فشله في تذكر الدور الذي يسكن فيه.. ذكر لها ما استطاعت الذاكرة أن تحفظه عن مرات فشله في التعرف على نفسه، أو العودة إلى عالمه وممارسة كل شيء كما اعتاد ببلادة وبلا أي حماس.

كتب: «كنا عشرة أشقاء».. تأمل الكلمات الثلاث طويلًا، ثبت عيناه على «أشقاء» لثوانٍ تسع، مزَّق الورقة بحقد لم يستطع إخفاءه وألقاها في سلة المهملات، التقط ورقة جديدة، وكتب: «كنا عشرة أخوة، تسعة ذكور وأنثى وحيدة، لا أذكر مواقف عدة تربطني وبقية أشقائي، فعددنا الكبير لم يتح لنا يومًا أن تجمعنا طاولة طعام واحدة».

أعاد قراءة ما كتبه، أشعل سيجارة ثالثة وسحب نفسًا واحدًا منها وتركها تموت في هدوء في المنفضة، وكتب: «والدي تغلب على الكثرة التي كنا عليها باقتراح: (من يأتى أولًا سيجلس على طاولتي، والمتأخر سيكون إلى جوار أمه)، قبلنا اقتراح رب البيت، كنا نركض عند موعد كل وجبة، نتعارك، يسقط واحد، يقفز الثاني على كتف الثالث، رابعنا كان أكثر دهاءً، ففي كل مرة تبدأ معركة (مائدة الأب) كان ينسل خفيفًا بين الصفوف ويلتصق بفخذ أبيه، أبينا، غير أنني في كل مرة كنت أتكاسل، أسقط بعد الخطوة الأولى، أتظاهر بالألم، وعندما أطمئن إلى أن مائدة أبي اكتملت يكون قلبي قد حجز مكانه قبل جسدي إلى جوار أمي».

هذه معركتك الأخيرة.. هل تريد أن تخسرها؟ متعمدة ألقت الطبيبة بسؤالها وهي تركز في عينيه.. كل معاركك السابقة أصبحت مهددة، مكاسبك.. فتوحاتك.. كل شيء في مهب الريح حالياً، هل تريد هزيمة جديدة؟! أم أنك ستسعى لاستكمال طريق نسيان هزائمك جميعها.. صدقني.. وقتها ستتمنى لو كنت قررت خوض هذه المعركة.. ستتمنى لو ربحتها.. لو جرحت.. نزفت.. أصبح بينك وبين الموت خطوة.. لكنك ربحتها.. صدقني.. خط النهاية على مرمى البصر.. لا تجتازه إلا وأنت الرابح.. فالخاسر لن يعبر.. الخاسر لن يعبر!

أكمل الكتابة: أشقائي لم يدركوا روعة الجلوس إلى مائدة أمي، كنت ألمحهم خلال اللحظات التي تلتقط فيها أمي أنفاسها، جالسين صامتين معتدلين، يمضغون صمتهم مع اللقيمات الصغيرة التى تسمح لهم بها نظرات أبي الصارمة بأن يحصلوا عليها من الطبق الرئيسي، كنت أشفق عليهم، وأظنهم كانوا يشفقون عليّ. كانوا يقولون «مطرود من مائدة رب البيت»، وكنت أقول «محرومون من حكايات سيدة الدنيا»، مائدة أمي كانت ممتعة، الطعام له مذاق آخر.. مُدهش.. الحكايات التي ترويها أمي طوال دقائق تحررها من صوت أبي كانت تستحق الألم الذي أصطنعه وأنا أدّعي الهزيمة في معركة الفوز بالجلوس على مائدة أبي، الشعور بالغربة الذي كان يتملكني للحظات بعدما يوليني ظهره بعد كل وجبة، منتقماً مني لأنني لم أفز مرة في الصراع مع أشقائي لأجلس إلى جواره.. طيب أبي.. بل ساذج.. مؤكد أنه لم يجرب يومًا أن يجلس إلى مائدة أمي.. مؤكد أنه لم يعبر الخط الذي كنت أعبره مع كل وجبة».

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وصحافي من مصر.