مآلات النصيحة الأدبية “اكتب عما تعرف” 1-2
العدد 228 | 10 آذار 2018
ليتراري هب


هل عليك أن تكتب عمّا تعرف؟ 31 كاتباً يدلون بدلوهم في هذا الشأن. من توني موريسون إلى ويليام تي فولمان، سؤال قديم قِدم الكتابة يلقى جوابه.

اكتب عمّا تعرف. لا يوجد من تلقّى في حياته درساً في الكتابة أو قرأ كتاباً عن الفن إلا وسمع بهذه النصيحة، حتى وإن ورد ذكرها بقصد دحضها فقط. لكن أهي نصيحة في محلها؟ أعليك فعلاً أن تكتب عما تعرف؟ ليس على كتّابنا الأغرار ان يقلقوا بعد الآن، فعذاب الشك الذي يزرعه هذا السؤال في نفوسهم على وشك الانقضاء. أسرُد في ما يلي أجوبة عن هذا السؤال المؤرق جمعتها من 31 من أشهر الكتّاب، من أورسولا كي لو غوين وأرنست همنغواي إلى كازوو إيشيغورو. اختر جواباً وسِر على هديه، أو خذ برأي الأكثرية. واعلم أنه في النهاية، أياً كان الجواب الذي تختاره، وكما هو الحال مع كل النصائح المتعلقة بالكتابة، لك أن تأخذ به أو أن تتركه وراءك.

 

ناثان إنغلاندر: اكتب عمّا تعرفه (من مشاعر)

 

“أظن أن أكثر نصيحة تتردد في عالم الكتابة هي “أكتب عما تعرف.” وأنا أعتقد، أعتقد بصدق، أنها أفضل نصيحة يمكن أن يأخذ بها الكاتب، لكنها في الوقت نفسه أكثر نصيحة أُسيء تفسيرها وفهمها وإفهامها. الأمر في غاية البساطة والوضوح. لطالما أرعبتني عبارة “اكتب عما تعرف”. كنت أحلم وأنا في منزلي القائم في ضواحي المدينة بأن أصبح كاتباً، وكنت أقول لنفسي: ماذا سأفعل حيال مبدأ “أكتب عما تعرف”؟ فمنذ أيام طفولتي لم أعرف شيئاً سوى الجلوس على الأريكة ومشاهدة التلفاز. إذا أردت أن أتبع هذه النصيحة حرفاً بحرف سيكون عليّ ببساطة أن أعيد كتابة مواسم كاملة من المسلسلات الكوميدية، أو أن أؤلف كتاباً اسمه “ماذا يحدث؟” وبعده آخر بعنوان “المنزل الصغير في المرج يُعرض عند الخامسة صباحاً”. أعتقد أن هذه النصيحة تدور في فلك الشعور… ما الذي يجعلنا نحب كتباً بعينها دون سواها؟ لماذا تلمس هذه الكتب قلوبنا؟ لماذا تحمل لنا الكثير من المعاني؟ هذا لأنها أقرب إلى الحقيقة من الحقيقة ذاتها، لأنها تضم بين صفحاتها الكثير من المعرفة، وأعتقد أن المعنى الكامن في عبارة “اكتب عمّا تعرف” هو الكتابة عما تعرفه من مشاعر: هل عرفت السعادة من قبل؟ هل سبق وأصابك حزن قاتل؟ هل حدث أن شعرت بتوق جارف إلى شيء ما؟ وهنا مربط الفرس، إذا سبق لك أن تقت إلى الحصول على لعبة أتاري 2600، كما حدث معي عندما كنت في الثانية عشرة، إذ لم تكن نفسي تطلب شيئاً من هذا العالم سوى هذه اللعبة، إذا سبق لك أن شعرت بهذا التوق الجارف، الذي قد يكون توقاً إلى حب ضائع أو تحرير وطن من نير الطغيان أو السفر إلى المريخ، يمكنك حينها أن تكتب عنه. هذه هي العبرة من عبارة “أكتب عمّا تعرف.”

 

كازوو إيشيغورو: لا تكتب عمّا تعرف

 

“اكتب عمّا تعرف” هي أغبى عبارة سمعتها في حياتي… هذه نصيحة تشجع الكتّاب على ارتكاب سيَر ذاتية مضجرة. إنها نقيض الإبداع، وتكبح خيال الكاتب وتشلّ إمكانياته.

 

باولا فوكس، ما الذي تعرفه أنت على أي حال…

 

“ثمة حقيقة جوهرية، إذا ما توصلت إليها، وتمكنت من معرفة توجهات الناس، فإن البقية ستأتي بالتأكيد. تحدّث هنري جيمس عن هذا في كتابه “فن الخيال”. يحكي جيمس عن كاتبة كان على معرفة بها تصعد درجات سلم منزل صغير في باريس، وفي طريقها تمر بغرفة بابها مفتوح وفي داخلها يُعقد اجتماع عن الهوغنوتيين، أو المسيحيين الفرنسيين الإصلاحيين، حدث هذا في القرن التاسع عشر، وكان الحاضرون في الاجتماع يدخنون السجائر ويتناقشون. توقفت لبرهة… لبثت هناك نصف دقيقة فقط، ثم تابعت طريقها. بعد ذلك بسنتين أو ثلاث ألفت كتاباً عن الهوغنوتيين، وكل ما ورد في هذا الكتاب، على حد زعم هنري جيمس، كان صحيحاً لا تشوبه شائبة. لقد انطلَقت من تلك اللحظة الوجيزة التي عاشتها. الآن أصبحتُ حريصة جداً ألا أوجه طلابي ليكتبوا فقط عما يعرفونه، لأنني لم أستطع أن أحدد ما الذي يعرفونه بالضبط. عند هذه النقطة يبدأ السؤال فعلياً. كيف يمكنك أن تحدد ما الذي تعرفه أنت، وتلك المرأة استطاعت أن تعرف في لحظات وجيزة كل شيء تحتاج إليه لارتكاب كتاب كامل؟ 

 

أورسولا كي لو غوين: أكتب عمّا تعرف، لكن تذكّر أن التنانين قد تكون من ضمن ما تعرفه

 

“كثيرون هم من نصحوني بأن “اكتب عما أعرف” عندما كنت كاتبة ناشئة. أعتقد أنه مبدأ جيد ولطالما كنت من المؤمنين به. أكتُب عن بلدان خيالية، عن مجتمعات من كائنات فضائية تقطن كواكب أخرى، عن تنانين ومشعوذين… عن وادي نابا في العام 22002. أنا على معرفة بهذه الأشياء. أعرفها أكثر مما يعرفها أي شخص آخر، ومن واجبي أن أسرد ما أعرفه عنها. استقيت معرفتي بها، كما استقيت كل ما أعرفه في حياتي، من قلوب الناس وعقولهم، ومن خلال الخيال الذي أشحذه بقوة الملاحظة، وأنا في ذلك مثلي مثل غيري من الروائيين. كل ما يحتاجه هذا المبدأ هو تعريف جيد لكلمة “أعرف”. الأخوات برونتي خير مثال عن المعرفة المتخيلة، لأنهن أظهرن بوضوح جلي الأهمية النسبية لكل من الخيال والتجربة. باتريك أوبراين مثال آخر، فلا أعتقد أنه قد أبحر قط على متن سفينة بثلاثة أشرعة.”

 

بريت أنتوني جونستون: لا تكتب عمّا تعرف

 

“أُشرف على حلقة دراسية عن الأدب التمهيدي في جامعة هارفرد، وفي اليوم الأول من كل دورة أسلّم الطلاب ورقة تضم قائمة من النقاط المهمة عمّا يجب عليهم تجنّب الوقوع فيه… النقطة الأخيرة في هذه القائمة هي: لا تكتب عمّا تعرف. تلك الفكرة ترعب الطلاب لسببين. السبب الأول، وكما هو الحال بالنسبة إلى كل الكتّاب، يتعلق بحقيقة أنه قد تم حثهم، بصراحة أو بمواربة، على أن يكتبوا عمّا يعرفونه بمقدار ما تسعفهم الذاكرة، وهكذا تصبح إمكانية التخلي عن هذا النهج أمراً مربكاً للغاية. والسبب الثاني هو أنهم يعرفون الكثير، وربما أكثر من اللازم. في الحلقات الأخيرة التي قمت بتدريسها، كان من ضمن طلابي جنود شاركوا في حرب العراق، ورياضيون محترفون، وأحد الوزراء، ومهرج في سيرك، وامرأة تربي فرخ فيل، وثلة من العباقرة المعروفين. هؤلاء أشخاص يشتعلون بالإثارة، وحياتهم تعج بتجارب ساحرة وفريدة، كما أنهم مقتنعون إلى حد كبير بأن هذه التجارب هي ما يمدهم بما يحتاجون إليه ليصبحوا كتّاباً. حثّهم على عدم الكتابة عمّا يعرفونه يبدو منافياً للمنطق ويعكس عناداً شبيهاً بعناد مدرب يقول لظهيره الربعي الذي يمتاز بذراع قوية كمدفع أن يجلس على دكّة الاحتياط. هذه النصيحة بالنسبة إليهم محيرة ومؤلمة، وقد تصل إلى الحد الذي تكون فيه مهينة أيضاً. بالنسبة إلي تجسد هذه النصيحة الفرق بين الأدب الذي يلمس فقط هؤلاء الذين يعرفون كاتبه، وبين الأدب الذي يلمس كل من تقع عليه عينه.”

 

زوي هيلر: اكتب عمّا تعرف “بالفعل”

 

“الخطأ الأول الذي ارتكبته كطالبة، بعد أن قيل لي أن كتب عمّا أعرف، كان الافتراض بأن ذلك يعني أن أكتب فقط عن تلك الأشياء التي حدثت معي ومرت في حياتي. في واقع الأمر كانت “أعرف” هي الأمر الملزم الوحيد، أما كيفية التوصل إلى معرفة ما أعرفه فقد كانت متروكة لي. يمكنك أن تنقّب في تفاصيل حياتك والأحداث التي شهدتها، لكن يمكنك أيضاً أن تراقب تجارب الآخرين وأن تتعاطف معها لتتماهى بها. يمكنك أن تقرأ وتبحث. ويمكنك أيضاً أن تلجأ إلى خيالك. ما يعرفه الكتّاب عن المواضيع التي يكتبون عنها يكون مستقى عادة من خليط معين من هذه الموارد. يمكنني القول بأمانة إنني في قصتي عن قاطع الطرق لم أستقِ ما أعرفه من أي من هذه الموارد. لم يعنِ شيئاً بالضرورة أنه لم يسبق لي أن سطوت على حنطور ينقل ركاباً على طريق مهجورة. لكن عنى الشيء الكثير أنه لم يسبق لي أن أتعبت نفسي لأكتشف العواقب الناتجة عن فعل السطو على حنطور، أو تخيل ذلك على الأقل.  الخطأ الآخر، الأكثر مضاضة، الذي ارتكبته، واستمررت في ارتكابه لوقت طويل بعد ذلك، كان افتراض أن ترجمة تلك المعرفة المتأتية من التجربة إلى أدب هو عمل بسيط ومباشر، وربما مبتذل إلى حد ما. بالنسبة إلى معظم الكتّاب، يتطلب الوصول إلى مرحلة يمكنهم فيها استخلاص الجوانب المثيرة وذات القيمة من سيَرهم الذاتية الكثير من العمل المضني والبدايات الخائبة… معظم الكتّاب، لأسباب لها علاقة بالخجل أو الغرور أو الخوف من كشف أسرارهم، يقومون بصورة غير واعية بممارسة الرقابة على ذواتهم فيضحّون بقمح ذواتهم وتجاربهم ويبقون على زوانها. في هذا السياق، تستمر مقولة أكتب عمّا تعرف – عمّا تعرف بالفعل، وليس النسخة المهذبة والمخصية والمنقحة من هذه النصيحة، في أن تكون نصيحة سديدة ووثيقة الصلة وملائمة لكل الكتّاب على اختلاف أعمارهم، وليس مجرد نصيحة تأخذ بها طالبة عمرها 11 عاماً. 

 

محسن حميد: اكتب عمّا تعرف، ولكن…

 

“ربما يكون الحمض النووي للأدب، تماماً كما هو حمضنا النووي، من النوع الحلزوني، أو وحش ثنائي المعايير. واحدة من الجديلتين اللتان تشكلان الحلزون تولد مما يختبره الكتّاب، والثانية مما يتمنون أن يختبروه… فتكون الكتابة في هذا الحال هي السبيل إلى المعرفة. في نهاية المطاف، ما نعرفه ليس أمراً ثابتاً، بل يتغير عندما تتم الكتابة عنه. رواية القصة تغيّر الراوي. والقصة تتغيّر عندما تُروى. النفس البشرية قوامها القصص. جزء من هذه القصص يأتي من التجربة، والجزء الآخر يعيش في الخيال. تأتي قوة الأدب من قدرته على النظر عميقاً في الظروف الغريبة التي تحيط بوجودنا ليتيح لنا أن نلهو بهذا اللغز الذي صنعناه من أنفسنا ونحن نشق طريقنا على المسار الذي رُسم لنا في الحياة. أجسادنا هي عبارة عن آلات بيولوجية معقدة، وطالما هي على قيد الحياة تستمر في خلق القصص لتبقى قادرة على العمل. ندعو هذه القصة “النفس”. نؤمن بواقعية هذه القصة. نؤمن بأن القصة تتحكم بالآلة. لكن بالرغم من ذلك يتم تذكيرنا دائماً بأن الأمر ليس بهذه البساطة. نفعل أشياءَ لا تتماشى مع قصصنا، أشياء فظيعة أحياناً، وعندها نقول: “لم أكن أنا نفسي.” الكتابة هي فرصة للقصص التي تشكلنا لتصل إلى حالة من التوافق مع أدبها المتأصل فيها. لذا أكتب عمّا تعرف، ولكن اعرف أنك تُكتب أيضاً.”

 

توني موريسون: أنت لا تعرف شيئاً  

 

“قد أكون مخطئة في رأيي هذا، لكن يبدو وكأن الكثير من الأدب، خاصة أدب الكتّاب الشبّان، يدور بشكل كبير حول أنفسهم. لا يتحدثون عن الحب والموت وغيرها من المواضيع الكبرى، بل حبي أنا، موتي أنا، حياتي انا، عذابي أنا… كل ما هو خارج كيانهم حضوره ثانوي في أدبهم. عندما كنت أدرّس الكتابة الإبداعية في جامعة برينستون، كان طلابي قد لُقنوا أن يكتبوا عما يعرفونه طوال حياتهم. كنت دائماً أبدأ المقرر بالقول: “لا تلقوا بالاً إلى ذلك.” أولاً، لأنكم لا تعرفون شيئاً، وثانياً لأنني لا أريد أن أسمع شيئاً عن قصص حبكم، وأمهاتكم، وآبائكم، وأصدقائكم. فكروا في شخص لا تعرفونه، مثل نادلة مكسيكية في “الريو جراندي” بالكاد تتحدث الإنجليزية، أو ربما امرأة من علية القوم في باريس… فكروا في تفاصيل وأشخاص لا ينتمون إلى عالمكم. تخيلوا، ثم اخلقوا واقعاً من هذا الخيال. لا تدوّنوا أحداثاً مررتم بها في حياتكم لتقوموا بتحريف وقائعها بعد ذلك. لطالما أذهلتني النتائج الإيجابية لهذا النهج. كانوا دائماً يخرجون عن المألوف ويغردون خارج السرب عندما يُمنحون الإذن بتخيل كل ما هو خارج دائرة وجودهم. بالنسبة إلي كان هذا مراناً جيداً لهم. حتى لو انتهى بهم الحال إلى كتابة سيرتهم الذاتية فقط، سيكون بإمكانهم على الأقل أن يتحدثوا عن أنفسهم كغرباء”.

 

ميغ وليتزر: اكتب عمّا يستحوذ عليك

 

“أحاول أن أعمل على أفكار تستميلني وتربكني وتأسرني. يقولون لك “اكتب عمّا تعرف”، أما أنا فأقول: “اكتب عمّا يستحوذ عليك.”

 

ميل ميلوي: لا تكتب “فقط” عمّا تعرف

 

“أعتقد أنه عليك أن تجد رابطاً عاطفياً مع القصة لتجعلها تثير اهتمام من يقرأها، لكنني أجد الكتابة عمّا أعرفه أمراً يحدني. كل القصص التي رويتها من قبل أتت من شظايا القصص التي رواها الآخرون على مسامعي، عن مقالب تحدث عبر هاتف مصنع الطاقة مثلاً، أو عن التوريث في الأرجنتين. أبدأ من هذه التفاصيل التي تبدو لي حقيقية وتعد بالكثير، وأشرع بالكتابة في إطارها. أميل إلى الكتابة عما يبدو قصة عاطفية بين الشخصيات أولاً، ومن ثم أتحقق من الأجزاء التي أخطأت فيها، وأضيف المزيد من التفاصيل بعد ذلك. كنت أفكر مؤخراً في كتابة رواية تتطلب بحثاً موسّعاً أكثر من أي شيء كتبته من قبل، ولا أدري كيف سيتأثر هذا النهج إذا ما بادرت إلى ذلك.”

 

ميغان آبوت: اكتب عمّا لا تعرف

 

“ما هي أسوأ نصيحة يمكن أن يقدمها الروائيون للكتّاب الأغرار؟ “اكتب عمّا تعرف.” لا يمكنني أن أفهم هذه العبارة. لطالما كان الصواب عندي أن تكتب عمّا لا تعرف… أن تسعى لتعرف أكثر.” 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(يتبع في العدد المقبل)

عن موقع literary Hub

*****

خاص بأوكسجين