ليلى
العدد 234 | 01 آب 2018
شادي سامي


بعد لحظة ما تبدأ كل الأحداث في الوقوع. عند نقطة ما يتكشف كل شيء. الطريق الذي يبدو قبل هذه اللحظة- النقطة عسير على الولوج، يصبح فجأةً طريقًا ممهدًا، واضح المعالم، واضح الابتداء والانتهاء. فقط لا تعرف: كيف ستخوض الطريق؟ أو كم من الوقت ستستغرق لتصل إلى نهايته. المنتهى. منتهاك.

 

ليس عليك سوى أن تحدق في ذاتك جيدا لتعرف ما تريد أن تعرفه عن الآخرين. الانسان مرآة العالم. الكل:. الناجح – الساقط – القديس – الطاهر- الحق – والباطل…
من لا يملك فكرة ما عن هذه المتناقضات بداخله يعيش نصف أعمى.

 

ولدنا جميعا نتيجة خطأ ما. نتيجة لذة خاطفة وسريعة، ولدت رغبة في الهرب من المعاناة والألم، بضع لحظات قليلة، قبلة، وانتشاء لا يدوم سوى للحظات، كلفنا حياتنا هذه. لماذا أعود إلى هذه النقطة الآن؟ لأنها ربما تساعك وتساعدني فيما أرغب أن أفعله بك. تحرر أيها الحقير من وهم الكائن الأسمى. نحن وليدوا صدفة. محض خطأ تقوم اللعبة برمتها عليه!

يدايّ تتعرقان، ولا أحب الكتابة على الحواسيب الالكترونية. منذ أن وعيت وأنا أردد: أنا رجل يعيش على أفكار قديمة. لكن لا أحد يصيغ السمع، لذا فأنا مجبر على التكرار.

لا شأن لي بإحساسك بالملل من عدمه. لا شأن لي بك أيها القارئ المسكين الأحمق الذي تهدر وقتك معي الآن في انتظار شيء ما: عزاء، تسلية، مشاركة! الحقيقة لا أعرف ماذا تنتظر بالضبط. لكن أعرف جيدا أنك لن تنال مني شيئا غير اللعنات والشتيمة كلما قفزت إلى ذاكرتي. ها أنت تعرف دورك في اللعبة، فلتستمر إذا كانت هذه هي رغبتك، وأنا بدوري أعرف أنك ستفعل. أرغب في التوقف الآن. والاستمناء قليلا. لا شيء يضاهي لذة خروج الملاعين الصغار من عالم المجهول إلى عالم العدم. مباشرة. دون محطات انتظار. دون تسمية. دون شكل، ودون ذاكرة حمقاء لا تجلب سوى المشقة. لا شيء يضاهي استمناء جيد. أغمض عينيك، واتبعني. لا اغمض عين واحدة، وراقبني بالأخرى.

 

ثمة فتاة صغيرة بالكاد بدأ جسدها في النمو. أرجح أنها ما بين الثالثة عشر والخامسة عشر من عمرها. تلعب على الشاطئ، في براءة نادرة، غير عابئة بذلك الذي يجلس على بعد أمتار قليلة -في سرواله الأسود الضيق- مراقبا إياها.

لم تتولد الرغبة بعد. ما من إثارة في المشهد المحدود الأفق. لكن ثمة إحساس يتولد بالنظر إلى هذه الصغيرة. إحساس بالحنين. الحنين إلى النضارة.

ثمة فتاة واحدة على الشاطئ. الصغيرة ذات الأربعة عشر عاما تقريبا، لكن ثمة أيضا الكثيرات اللواتي يتقافزن من الذاكرة. خيال مشوش. ذاكرة تنفجر. تحتضر.

الواحدة تلو الأخرى. تخرج من رأسي وتقفز إلى البحر. بلا عودة. الكثيرات. الواحدة تلو الأخرى. صاحبة الشعر الأحمر. صاحبة الشعر القصير. المحجبة. السمينة. السمراء. صاحبة الملامح الحادة. وتلك التي كانت تكشف عن نهديها ببطء مصاحب باثارة بالغة. كثيرات. كثيرات. وواحدة فقط بينهن كانت تتكرر في الظهور. من المقعد المعتاد على الطاولة رقم 5 في المقهى، تنظر بوجهها الذي أعرفه عن ظهر قلب، وتضحك، تضحك، ويرن صوت ضحكتها عميقا في قلبي، جارحا إياه، كانت تضحك كلما قفزت واحدة من الكثيرات الى الماء.

أقطع بنفسي حبل الذكريات الميتة، وأعود لأركز ببصري على الماثلة أمامي في لباس أسود طويل يغطي الجسد بالكامل. لم ينج من هذا الظلام سوى وجهها الصغير، والقليل من لحم الرقبة. يمكن القول بأنها سمراء، ولها شفتين ورديتين. تضع لونًا أسود على أظافرها المقصوصة بعناية رقيقة. كان يمكنك أن تدرك بمجرد النظر اليها جهلها بعوالم الكبار. كان يمكنك أن تحس ببرودة جسدها الذي لم يتذوق ولو لمرة دفء النشوة. آه، براءة نادرة.

اللباس الأسود لم يكن يكشف عن شيء اطلاقا، لكنه كان ما أن يلامس الماء يزداد التصاقا بالجسد المخنوق. يرسم صورة ما، مشوشة، وربما مخادعة عن هذا الجسد المختبئ بفعل أفكار تتوارثها الأجيال بعد ألف سنة.

اسمها ليلى. كانت تنظر للشيء المنتصب وتضحك. حين تراقب جسد ليلى فانك تلقائيا تتوق الى النضارة. ترغب في منح النضارة الحب الكافي لتبقى وقتا أطول، ولتلتمع. ترغب في انضاجها على نارك الخاصة. منحها الحكمة التي افقدتك نضارتك في وقت سابق. لا. ليس منحها، بل غرسها في هذا الجسد الأرض البكر. حين تراقب جسد ليلى، فانك ترغب في لمس النضارة، معانقتها من جديد، لعقها، وتذوقها جيدا، ترغب في صوتها، التأوه الأول. الرعشة الأولى. الانتشاء البكر السريع والغزير البلل. الانفجار. الخوف. ترغب في الأول من كل شيء.

عرق الجسد حينذاك يذكرك برائحة الطين، يقودك إلى حتفك: الوادي، حيث نشأت التفاصيل الأولى، وحيث ذبحت طفولتك. الحمرة على الخدين المتعرقين، حمرة الحلمات المنتصبة تذكرك بالدم. لون الموت. الحروب التي قصفت هدأتك. الموت الذي لاحقك في الأم، والصديق، والبيت. فجأة تدرك أنك متورط لا محالة في ذاتك، فجأة تدرك المصير: لا فرار. الجنس يستحيل إلى ذاكرة، لا تجلب المتعة والتسلية بقدر ما تجلب الألم.

 

دماء تصعد الآن إلى رأسه. دماء تملأ أوردته. غضب عارم. تحديق بعينين مفتوحتين على رعب التاريخ الإنساني بأكمله. أشلاء ذكريات. دماء. دماء تصعد إلى الرأس بغزارة. تتولد الرغبة الآن. الرغبة في الانتهاء. القذف. القذف سريعا في البحر. الرغبة في ابتلاع البحر لكل شيء. اختفاء أخير. ووداع مفاجئ لألم شديد الصلابة.

قبل أن ينزل إلى البحر، تعمد إثارة الشكوك، سمح لقلمه الحبر الأحمر بالانفجار، مخلفا وراء انفجاره، نقاط حمراء متفرقة، على أرضية الغرفة، على الوسادة البيضاء، على منشفته المعلقة فوق كرسي المكتب، على غطاء المكتب القماشي الذي يعود لأيام أمه، على المناديل الورقية أمام المرآة، على بنطاله الأزرق الغامق، وسجادة الصلاة… نقاط متفرقة من الأحمر، هنا، وهناك، تملأ الغرفة، وكأنها تشي بنزيف ما.
حين انفجر القلم في وجهه، ضحك كثيرا، كان قد تعلم أن يؤمن بالعلامات الصغيرة، لذا فلقد قرر أن يترك كل على حاله. الموت بالنزيف لا يرافقه عادة إحساس بالذنب.

 

ابتسم قليلا وهو في طريقه إلى الخارج، كان معجبا بمصير الملاعين الصغار، وأراد أن يجرب ولو لمرة، معانقة العدم. اشتم رائحة أمه، رأي يد صديقه تشاور في البعيد، ورأى الأفق وقد تلون بخضرة زاهية، أهل، أصدقاء، شعراء. ماذا يفعل هنا؟ مجددا دماء تصعد للرأس المنتفخ، قرر أن يقذف بتعبه إلى البحر. همس للبحر بسره، وليلى لا تصدق، ها هو يقترب، وليلى تصرخ من الألم، انتهى. انتهى. والسماء بكاملها ترتعش في عين ليلى الغارقة في بحر من الدمع والدم والسائل الذي كان ثمرة الحب المستحيل.

 

*****

خاص بأوكسجين

 


كاتب من مصر.

مساهمات أخرى للكاتب/ة: