لقطات من حياتي
العدد 249 | 14 تشرين الثاني 2019
توماس مان


 

ولِدتُ في مدينة لوبيك سنة 1875، كنت الابن الثاني ليوهان هاينريش مان، وهو تاجر غِـلال وسيناتور في مجلس مدينة لوبيك الحرّة، وزوجته يوليا دي سيلفا برونز. ينتمي أبي وجدي وأسلافي إلى مدينة لوبيك منذ عهد بعيد، إلا أن أمي وُلدت في مدينة ريو دي جانيرو لأب ألماني يعمل مزارعًا، وأم ذات أصول برتغالية/برازيلية. حطّت أمي قدميّها للمرة الأولى في ألمانيا حينما بلغت السابعة من عُمرها، وكانت امرأة ذات طباع لاتينية لا تخطئها العين، تتمتّع بجمال أخاذ، وتتحلّى بمواهب موسيقية لا تُبارى.

حينما أسأل نفسي عن المكوّنات الوراثية التي طبعت شخصيتي، سرعان ما أستعيد بيتًا شعريًا صغيرًا لجيته، فأقول في نفسي إنني ورثتُ عن أبي ما يسمى بجدّية حياة القائد، بينما ورثتُ عن أمي مزاجها المشرق، والطبع الفني الحسي، فضلًا عن ميلها الجارف للحكي وسرد القصص.

عشت طفولة سعيدة منعزلة. كنا خمسة أطفال: ثلاثة ذكور وفتاتيْن. عشنا في منزل واسع فاخر  بناه أبي بنفسه، أقصد أنه لم يشترِه من أحد، وكما نملك منزلًا ثانيًا، هو المسكن القديم للعائلة، وكان يقع إلى جوار كنيسة القديسة مريم، وكانت تسكنه جدتي لأبي، وهو يعرف اليوم بمنزل بودينبروك [*هو حاليًا مبنى تذكاري ومؤسسة ثقافية تُعرف باسم مركز هاينريش وتوماس مان في لوبيك، 4 مينج شتراسِه].

كانت أشد لحظات شبابي تألقًا هي أيام الصيف التي كنتُ أقضيها على شاطئ خليج ترافيموندِه المُطل على بحر البلطيق، حيث أقضي نهاري  كاملًا في البحر، بينما أمضي أوقات المساء، مثلي مثل عاشق ولهان، مستمعًا إلى الفرقة الموسيقية التي تعزف في الجهة المقابلة لحديقة الفندق الذي أنزل فيه. كانت تلك الحياة الشاعرية بما تحمله من رغد عيشٍ، وبهجة، وموائد عامرة بما لذّ وطاب، تستهويني بشكل واضح، فأذكتْ داخلي ميلًا فطريًا إلى الكسل وإلى الغرق في عالم الأحلام، وهو ما استدركته لاحقًا، وبصعوبة بالغة.

في اللحظات التي كانت توشك عطلة الأربعة أسابيع على الانتهاء، بعد أن كنت أظنها أبدية خالدة، حيث نعود إلى حياتنا المعتادة، كنتُ أشعر أن صدري يتمزّق شيئًا فشيئًا، وأن قلبي ينقبض انقباضًا مؤلمًا.

أضمرت كرهًا شديدًا إلى المدرسة، فأخفقتُ في تحقيق المتطلبات الدراسية. إذ كنت أنظر إلى المدرسة، كبيئة حاضنة، باحتقار بالغ، كما كنتُ أنتقد سلوك المعلّمين، وكتبت معارضة أدبية لروح فكرة المدرسة، ولنظامها ولطرائق التدريس فيها. كان ميلي الفطري إلى الخمول، وحاجتي إلى مزيد من أوقات الفراغ  لمجرد  اللهو  والقراءة الهادئة، فضلًا عن ثِقل روحي – الذي أعاني منه حتى اليوم-، أقول دفعتني تلك الخصال كافة إلى كـُره مواصلة الدراسة، وإلى التعامل مع الدراسة المنتظمة بمشاعر طافحة بالخمول والاحتقار. كانت العلوم الإنسانية أقرب إلى نفسي، وأكثر ملائمة لاحتياجاتي، رغم أنني كنتُ منذورًا للاشتغال بالتجارة، بوصفي سليل عائلة تمتهن التجارة، التحقتُ بالمدرسة الثانوية، التي لم أخرج منها بشيء سوى شهادة تؤهلني لاجتياز سنة الخدمة العسكرية.  وطَوال تلك الفترة الخاملة الخانقة لم يكن لديَّ سوى صديق واحد، كان ابن بائع كتب، لكنه ما لبث أن فشل في تجارة الكتب، ثمّ مات بعدها.

لم يجرح شعوري في تلك الفترة شيء أشدّ من الكتابة. كنت وقتها لا أخلو من طيش ونزق، بل ربما ولا من غرور واضح. إذ عرضتُ على أحد زملائي في الفصل بزهوٍ رواية عن الموت البطولي لـ”آريا” [بطلة في التراث الروماني اشُتهرت بقصة انتحارها المأساوي]، فما كان منه – بمشاعر تجمع بين الإعجاب والحقد في آن- إلا أن عرضها على المعلم. رغم أنني كنتُ ما أزال في الصف الثالث، لكني صِرت مصدر إزعاج للسلطات! بعدها بدأت بكتابة مسرحيات طفولية اعتدت على تمثيلها مع أشقائي قبل أن نعرضها على والديَّ وعمّاتي. ثم بدأتُ في نظم قصائد شعرية، استلهمت فيها شخصية صديق عزيز، ظهر تحت اسم  هانز هانزين في رواية “تونيو كروغر”، رغم أنه في الحقيقة تناول شرابًا سامًا أودى بحياته في نهاية مأساوية شهدتها إحدى الدول الإفريقية. ثم انقضتْ فترة طويلة قبل أن أشرع في تأليف القصص، وكانت هذه الفترة لاحقة لكتابة بعض المقالات النقدية.

قبل خمس سنوات زرتُ مدينة لوبيك بمناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية السابعة لتأسيسها، وتواصلتُ مع معلّم اللغة اللاتينية والألمانية الذي كان يدرّس لي في المرحلة الثانوية، أخبرتُه، وكان رأسه قد اشتعل شيبًا، أنني كنتُ على علمٍ تام أنه ينظر إليَّ باعتباري تلميذًا فاشلًا لا يصلح لشيء، رغم كذلك كنت أنصت بهدوء في أثناء ساعات الدراسة. ولإثبات صحة كلامي استشهدت بعبارة طالما كان يردّدها على مسامعنا عن أشعار  شيللر  تقول: “ليست هذه مجرد قراءة عابرة، إنها أفضل قراءة يمكن أن تصادفها في حياتك”. فأجهش المعلّم في وصلة بكاء ممزوجة بالضحك قائلًا: “هل قلتُ ذلك فعلًا)؟

كان شقيقي الأكبر هاينريش الذي يكبرني بأربع سنوات، والمعروف بتأليف عدد من الروايات المهمّة والمؤثرة، يعيش في تلك الفترة في مدينة روما، كان يُهدر وقته مثلما أفعل تمامًا في ألمانيا. فاقترح عليَّ أن أسافر إليه في روما، وبالفعل سافرتُ. عشنا كأي شابّين قادمين من ألمانيا في بلدة صغيرة واقعة على مشارف مدينة بالتسرينا، مسقط رأس الموسيقيّ الإيطالي الشهير جيوفاني بييرلويجي دا باليسترينا. وفي أثناء إقامتي هناك أقبلتُ على كتابة رواية “آل بودينبروك” بعد فترة من الاستعدادات الحماسية. لم يكن لدي إيمان راسخ بمشروع هذه الرواية، إلا أنني متسلحًا بالصبر، وبفضل البلادة الفطرية في طبعي، أو بما يجوز أن نصفه “بالعصبية المُقيّدة” داخل نفسي، تابعتُ كتابة الرواية في ساحة Via di Torre Argentina  في روما، حتى عدتُ في النهاية إلى ميونيخ حاملًا رزمة أوراق منتفخة بشكل مخيف، هي مخطوط الرواية.

أنهيتُ كتابة رواية “آل بودينبروك” مع مطلع القرن الجديد. كنت قد عملت عليها لمدة سنتيْن ونصف السنة مع فترات انقطاع بسيطة. أرسلتُ مخطوط الرواية إلى دار  س. فيشر، التي سبق وأن نشرت معها رواية “السيد الصغير  فريدمان”، فشعرت بنوع من الألفة مع الدار.  ما زلت حتى اليوم أذكر لحظات تغليف مخطوط الرواية، حيث سقَطتْ بضع قطرات من الشمع الساخن فوق يدي فتركتْ قرحة كبيرة ظلتْ تؤلمني طوال أيام. كنت أكتب على وجهي الصفحة، في البداية اعتزمتُ تصوير نسخة إضافية، لكن العمل تغلّب عليَّ وتكاسلتْ فلم أفعل. فبدا مخطوط العمل أقصر مما هو عليه، وكان اختبارًا قاسيًا للقُراء ولمنضّد الحروف على حد سواء. كانت هذه هي نسختي الوحيدة من المخطوط، لذلك طلبت تسجيلها لدى مكتب البريد، ثم أضفت فوق الغلاف، أسفل كلمة مخطوط العمل قرابة ألف علامة مميزة، فابتسم موظّف البريد وهو يراقبني.

_________________________

الفقرات السابقة من كتاب  Thomas Mann: Lebensabriss”توماس مان: لقطات من حياتي” الصادر للمرة الأولى في ستوكهولم سنة 1930، وهو كتاب صغير الحجم سجّل فيه توماس مان لقطات ومشاهد سريعة من سيرته الذاتية بأسلوب تقريري موجز.

*****

خاص بأوكسجين