لعبة صغيرة لرجل يطير
العدد 230 | 28 نيسان 2018
هيثم عبد الشافي


اللعب في الجورنال، شيء آخر.. يوسف يقول إنه يحب الكراسي الكثيرة في صالة التحرير، ويكره سفرة شقتهم. عندنا يختبئ بسهولة من شقيقته الصغرى، والكراسي لا صاحب لها يجبره أن يعيدها مكانها.

أنا رأيته مرة يأخذ ورق الاجتماع الصباحي، ويرسله خطابات لأمه. يقول لها شربت شاي مع أبي، وصورت رئيس التحرير مرتين، وشاهدت مباراة كاملة لـ”ليفربول”، ومحمد صلاح سجل هدفا عاديا.. تقريبا لا يطمئنها عليه، فقط يكتب لها بغضب وكأنه يخبرها كم هو حر بيننا.

كان مع أبيه، أمس، وهذه المرة الثانية في أسبوع واحد. قابلته أمام الأسانسير، آخر اليوم. سألني عنك، ووعدته أن أخبرك رسالة قصيرة منه.. يقول لك، عام ونصف كافية، وأنه يحتاج صديقا طيبا يكذب على أخته ويقول لها دائما: يوسف خرج من هنا..!.

أطفال الجيران في الدور الثالث، أخ لهم اسمه “بيبو”، تقريبا أصغرهم، وكل ليلة أسمع صوته مرتين، في الأولى أذهب لسريرك وأعود في يدي لعبة صغيرة لرجل يطير، وفى الثانية يبكى طويلا، فأذهب لغرفتك، أكلمه هناك ويسمعني، أقول له: “هذه ترضيك.. انظر لتلك”.. ساعة مثلا أو ساعتين وأنا أمامه، أجرب معه كل لعبة نامت في حضنك ليلة، كل قطعة قبلتها وتركت سرا فيها، كل كلمة تحبها، حتى الأغاني التى نؤلفها قبل النوم، رفضها، كلها كلها كانت لك. واحدة باسمك، وأخري لحصان رمادي يأكل مكعبات السكر ويشرب ماء الورد، وثالثة لأصدقائك على الجدران وخلفها، لأبناء نربيها هنا وتسكن بعيدا.. في آخر العالم نرميها، وبكلمة واحدة تردها في رسمة صغيرة على قميصك.

أي أغنية كانت تليق بطفل غريب يجرب سريرك لأول مرة..؟!، كنا نكذب، وسهرنا نلملم لعبا صغيرة وزعتها قبل يومين على الكراسي.. هنا نام الدب الكبير وسؤال في فمه، والعربات حولنا فى مكانها، والأرنب قفزنا أمامه مرتين، ورفض يقلدنا، والكرات كلها حزينة لا تأكل المكعبات، حتى الكلب الأبيض الذكي، غاب 4 ليالي كاملة، وقالوا إن كلب غريب عض أذنيه، وذهبت كرامته ورحل، وآخرون أقسموا أن سائق تاكسي لا يعرف الأصول كسر قدمه وهرب!!.

أنا فقط عرفت قصته، الحقيقية حبيبته تركته، صدقني لما رجع كان مهزوما ووحيدا، ولما نظرت في عينيه من بعيد، رأيت ألم وشوق أكبر بكثير من كسرا بسيطا في قدمه.

هل ترضيك أحوالنا، عذاب الكلب الأبيض الذكي، لعبك الصغيرة على الكراسي، وطفل الجيران في الدور الثالث، ويوسف أمام الأسانسير، وبيتنا الذي يشبه قرية قديمة وبائسة في جنوب الصعيد.. تخيل وجدت ملابسي فى المكتب، والشاي في الحمام، والملاعق الصغيرة في سريري.

كيف تنام وحدك، كم مرة سألتهم عنى، وقالوا غدا يأتى وخذلتك، كيف تعيش بلعبتين فقط وحذاء قديم، من قص أظافرك آخر الأسبوع، هل يعجبك الحمام هناك، من سيذكر أمك بجدول التطعيمات أول الشهر؟؟.

الآن أشعر أن هنا في هذا المكان بالضبط حجر غليظ ومشوه، لكن حجر يحبك، ويسمع الموسيقى بروحك، ويلعب بكفيك، ويمشي خطوة ويحبو الثانية، ويعرف جيدا أن جدران بيتنا لا تقدر على الحياة بدونك كل هذه الأيام.

*****

خاص بأوكسجين


قاص وصحافي من مصر.