لا ذكريات لدي مع التابوت
العدد 198 | 05 أيلول 2016
مارلون جيمس | ترجمة: زياد عبدالله


اسمع.

لا يتوقف الميت عن الكلام. ربما لأن الموت ليس موتاً على الإطلاق، إنه فقط عقوبة ما بعد الانتهاء من دوام المدرسة. تعرف من أين تأتي ودائماً ما تعود إليه. تعرف أنك ستمضي وإن لم يبد أنك تصل هناك وأنت ميت فحسب. ميت. تبدو كلمة نهائية تعوزها صيغة الحاضر المستمر[1]. تصادف رجالاً سبقوك إلى الموت، يمشون طيلة الوقت وإن كانت وجهتهم اللا مكان وأنت تنصت لهم ينبحون ويهسهسون ذلك أننا جميعاً أرواح أو نظن أننا جميعاً أرواح وما نحن إلا ميتين. الأرواح التي تتسلل إلى أرواح أخرى. أحياناً تتسلل امرأة إلى داخل رجل وتنتحب كما ذكرى ممارسة الحب. يئنون وبصخب متقد إلا أنها تأتي عبر النافذة كما صفرة أو همسة قادمة من تحت السرير، ويظن الأطفال أن هناك وحش. يهوى الموتى التمدد تحت الأحياء وذلك لثلاثة أسباب. (1) نحن متمددون طيلة الوقت. (2) السرير من تحت يبدو كما غطاء التابوت، لكن (3) هناك وزن، وزن بشري في الأعلى بإمكانك التسلل إليه وجعله أثقل، وأنت تنصت لنبض القلب بينما تراقبه يضخ الدماء وتسمع هسيس المنخرين عندما تنفث الرئتان الهواء وأنت تحسد أقصر نفس. لا ذاكرة لدي مع التوابيت.

لكن الميت لا يتوقف عن الكلام وأحياناً يسمع الحي. هذا ما وددت قوله. حين تكون ميتاً ليس الكلام إلا منعطفات وتحريفات وما من شيء تفعله سوى التوهان والدوران لبعض الوقت. حسناً، هذا ما يفعله الآخرون. وجهة نظري أن المنتهية صلاحيته يتعلم من المنتهية صلاحيته، لكن هذا مراوغ. أستطيع سماع نفسي، ما زلت أدّعي أمام من بمقدوره السماع بأنني لم أقع، جرى دفعي من الشرفة في فندق “صن ست بيتش” في “موتيغو باي”. ولا أستطيع قول اخرس، يا أرتي جيننغس، لأنني في كل صباح أستيقظ لأقوم بوضع اليقطينة المهشمة التي هي رأسي في مكانها. وبينما أتكلم الآن فإنني أستطيع سماع ما سيكون عليه كلامي لاحقاً، هل تفهم يا من تضج بالحياة؟ هذا يعني أن ما بعد الحياة مشهد لم يقع بعد، ولا حفلة صغيرة ظريفة. انظر يا حبيب إلى القطط اللطيفة الهاجعة على ممسحة باب الدار، لن يكون بمقدورهم الفهم، ولاشيء لأقوم به سوى انتظار الرجل الذي قتلني، لكنه لا يموت، إنه فقط يهرم ويهرم ويبدّل الزوجات بمن هن أكثر شباباً فأكثر شباباً مطلقاً حظيرة كاملة من الأولاد البلهاء وهو يدمر البلد.

لا يتوقف الميت عن الكلام وأحياناً يسمع الحي. يجيب أحياناً إن أمسكت به على نحو مناسب وبدأت عيناه ترمشان أثناء نومه. يتكلم إلى أن تصفعه زوجته. لكنني أفضّل سماع من سبقني إلى الموت. أرى رجالاً بمؤخرات مفلوعة ومعاطف طويلة مضمخة بالدماء وهم يتكلمون، لكن الدم يتدفق من أفواههم ومن لطف السماء أن تمرد العبيد كان فعلا شنيعاً وتلك الملكة كانت طبعاً ذات استخدام دموي مروّع منذ بدأ انهيار “شركة الهند الغربية” الوضيع مقارنة بـ “الشرقية” ولمَ هناك زنوج كثر أخذوا ليناموا هادئين متى ما رأوا ذلك مناسباً أو مربكاً وكل ما لدي تموضع على نصف وجهي الأيسر على نحو خاطئ. أن تكون ميتاً يعني أن تفهم أن الميت لم يرحل، أنت في أراضي الموت المنبسطة. الزمن لم يتوقف. ترقبه يمضي وأنت ساكن، كما لوحة تحمل ابتسامة الموناليزا. في هذه المساحة يتساوى من ذبح قبل ثلاثمائة سنة مع من مات قبل دقيقتين في مهده.

ما لم تراقب كيف تنام، ستجد نفسك على ما وجدك عليه الأحياء. بالنسبة إليّ، أنا ممدد على الأرض، رأسي يقطينة مهشمة ورجلي اليمنى ملوية تحت ظهري وذراعي ملويتان التواء لا يفترض أن يحلّ بهما ومن الأعلى، من الشرفة أبدو عنكبوتا ميتاً. أنا أعلى هناك وأسفل هنا ومن الأعلى هناك أرى نفسي كما رآني قاتلي. يستعيد الميت حركة، فعلاً، صرخة تبقى ماثلة مجدداً على هذا النحو، كما قطار لا يتوقف وهو يمضي ويمضي إلى أن تنفد السكة، افريز البناية ذات الستة عشر طابقاً، صندوق سيارة ينفد منه الهواء. أولئك “الرودبويز”[2] وقد انفجرت أجسادهم بستة وخمسين رصاصة، كما لو أنهم بالونات مثقبة.

لا أحد يسقط على هذا النحو ما لم يدفع. أعرف، وأعرف كيف يكون عليه الأمر شعوراً ومظهراً، جسد يسقط وهو ينازع الهواء في طريقه إلى الأسفل، ساحباً معك قبضات من لا شيء ومناجياً لمرة واحدة، لمرة واحدة، لمرة واحدة لعينة، يسوع، تتباكى على ابن الشرموطة، ولمرة واحدة وهبك الهواء ما تستمسك به وتصل حفرة بعمق خمس أقدام أو أرض مبلطة بالرخام مسافة ست عشرة قدم إلى الأسفل، وتبقى تقاوم فتنهض الأرض نحوك وتتهشم بك ذلك أنها ملّت انتظار الدم. وما زلنا أمواتاً لكننا استيقظنا، أنا العنكبوت المهشم، هو الصرصار المحترق. لا ذكريات لدي مع التابوت.

___________________________________________________

[1] ترد في الأصل ing التي تضاف على الفعل ليصبح في صيغة الحاضر المستمر- المترجم

[2] Rudeboys مصطلح ساد جامايكا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي على اتصال بثقافة شبان الأحياء الفقيرة في العاصمة كينغستون.

____________________________________________________

من رواية “تاريخ موجز لسبعة اغتيالات” لمارلون جيمس

*****

خاص بأوكسجين

[1] ترد في الأصل ing التي تضاف على الفعل ليصبح في صيغة الحاضر المستمر- المترجم

[2] Rudeboys مصطلح ساد جامايكا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي على اتصال بثقافة شبان الأحياء الفقيرة في العاصمة كينغستون.


مساهمات أخرى للكاتب/ة: