كانت في يدي بعد ذهابها الفراشاتُ
العدد 236 | 14 تشرين الأول 2018
الكيلاني عون


أنتِ أكثر منكِ

لو صرتِ خيالاً يرتديه الهواءُ

أو نجمةً تكفِّر عن ذنوبها بالجلوس بين المهاجرين

كعينِ ماءٍ

لو صرتِ شيئاً يمكنني حمله

وهو بعيدٌ مثل هديلٍ يروي خرافةً وينام

لو صرتِ كسلَ الحصار أو ورقةً

أكتبُ عليها مناداتي لأطياف الذّهب المتكتِّم

على سرِّه

لو وقفَ قليلاً جداليَ مع الصَّعتر

لاكتفيتُ بشيءٍ أسرقُ نعاسه المشتَّت بكمائنه.

أنتِ أكثر منكِ 

وحصانيَ توسَّدَ أوَّلَ مدينةٍ رأيتكِ فيها  

 

حيث أجلسُ قربَ مدخنة الأيام

أكتبُ لأبقيكِ حيَّةً

لتكوني أوّل الناجين من وسامةِ الغياب

ليظلَّ البحر زاخراً بجوعه

فلا تغرق المراكبُ التي تحمل رسائلي

وتطفو الكنوزُ المختومة بالزّفير

لأشعر بكِ

أقرب من حبل المتاه

حيث أجلسُ قربَ مدخنة الأيام

كآخر يتيمٍ يصرخ صوراً بدلَ الكلمات

 

القتلى يلصقون المناشيرَ

أمكنةٌ ضيِّقة تأخذ الهواءَ على الريق وتهاجر

مراسلون يحتمون بطلاءٍ لم توقظه الحربُ

القتلى يلصقون المناشيرَ على الجدران:

الحياة مجدَّداً لا بأس بها

غير أنها بلا أصابع

 

الفراشاتُ كانت في يدي

بعد شجرتين من الأمس

بعد خيالِ مركبٍ مرَّ على الريح بما يغيظه

كان في يدي جِناسٌ أُقلِّب جيرانه

ذاتَ الذئب وذاتَ القميص

سأُعيره الياقوتَ صاحبُ الخلوة هامساً لنحوله

بسالاتٍ طليقة

متنكِّراً في مديحِ الأنقاض

كانت في يدي

بعد ذهابها الفراشاتُ

 

حين أصل الشرفةَ

 

حين أصل الشرفةَ من كسّاراتِ النهار البعيدة

وأحاديثِ أشخاصٍ أُميِّز بينهم ما لا أراه من حبٍّ

حين أقفُ كمن سيشرح للجمهور

أنه لم يصل بعد

وأن صوته الآن يضرب العدمَ كمجذافٍ

مكسور

وأن شرابَ القسمة يُغرقُ ألفَ فكرةٍ بين الأسرى

حين أُوهم الشرفةَ بطفولتها كخندقٍ آخر

لا يطلّ على النهاية

يخيَّل إليَّ أنني أسمع قهقهةً ما

 

عاد بشاحنةٍ تنهار في خياله

عَبَرَ الإسفلتَ إلى الجهة المقابلة

رأى ما يشبهه هناك

أمام محلٍ لبيع المناديل

أرادَ أن يسلِّم على نفسه لأوَّل مرة

أرادَ أن يقول لنفسه : كيف يبدو لكَ الفخُّ

لكنه لم يجد أحداً

اشترى منديلاً

وعاد بشاحنةٍ تنهار في خياله

 

كأُمٍّ تُفسِّر غابةَ المستحيل

نهرٌ كهذا الجبل

هو ندبةُ صوتٍ على شرفةٍ فارغة

قدمٌ لم يبقَ منها سوى المسافة

نظرةٌ لشخصٍ

مات كأكثر ما يعتصر الهواء من

صورٍ تتحرَّك

ثكناتٌ وحدها تراقب دخانَ السرِّ

سيأخذكَ الأمرُ لحصارٍ باهتٍ تتابع

جنازاتٍ تدفن العراءَ

وتتلوَّى

كذئبٍ فقد عينيه، كجمجمةٍ تحتسي الانفجارَ

ذاتَ غيابٍ كنتَ تستيقظ على مقربةٍ

من حشدٍ آمنَ بذنوبه

كنتَ هناك وهنا مفتوناً بزلّاتِ الأعياد

مغموراً بطفولة زرقاء

قليلاً من ذهب الشواطئ، من رمادِ السفن

قليلاً منكَ يكفي لتبرئة الضوء

وقليلاً من الطاولات لجثث الوداع

تستطيع اللحاق بدورٍ تضع عليه معطفَ الزّفير   

تستطيع أن تذهب ببطءٍ إلى زاويةِ المحطة

وتنتظر نزولَ الكلمات التي وقفتْ هزيلةً

في قلب المساء الغائم

حيث التقيتَ البحرَ يسعل كعجوزٍ

وهو يلتقط الأشجارَ الساقطة من السماء

الأشجار ذاتها كانت تنطقُ بلسان الملاجئ 

وتهذِّب وصايا الطير النائم كرائحة النسيان

تستطيع ثانيةً أن تُولَد مثل صفيرٍ

يخاتل العابرين ويسمعون ذكرياتهم فيه

تستطيع فقط أن تضمِّد المياهَ

كأُمٍّ تُفسِّر غابةَ المستحيل

 

كنَّا بين القتلى

 

كنَّا بين القتلى

نقلِّب الجثث لنأخذ أوراقنا وصورَ الأطفال

المحترقة

أنا مثلاً وجدتُ في جيبي شجرةً تئن

وولداً يتأمَّل السماء

وقطاراً رميته بعيداً عن جرحي

كنتُ مثل الجميع أسأل جسدي المبعثر

أين تركَ ظِلَّه 

ولماذا خرج بكل هذه الأثقال

ومتى سيلمّ موته ويعود

إلى النافذة

ليلوِّح لي أو لنفسه

متى سيتماثل لصراخه بين الحقائب؟

 

حتى لا يفكِّروا بالرحيل

أرسمُ وأطفالي

أطفالاً آخرين

نناديهم بأسماء تشبه أسماءنا

نضع بين أيديهم تجاربنا القليلة

في حادثة الحياة

وعندما يشتدّ القتال نهرِّب معهم الشجرةَ

وراءنا

صرنا أكثر عدداً

وفي العيد سنشتري لهم الهدايا

حتى لا يفكِّروا بالرحيل.

*****

خاص بأوكسجين


شاعر وتشكيلي من ليبيا. صدر له: "لهذا النوم بهيئة صيد ""، و""شائعة الفكاهة""."