قطيع المدرسين
العدد 236 | 14 تشرين الأول 2018
إدريس علي


حينَ دخلَ متعرّقاً مبنى المَجمَعِ التّربويّ كانتْ صالتُها مكتظّةً كعادتها كلّما تأخّرَت رواتبُ قطاعِ التّربيّة. أسرعَ نحو غرفةِ مُعتمَد الرّواتبِ دونَ أن يلتفتَ للوجوهِ التائهةِ، كما أنّه لم يُلاحظ أكثرَ من يدٍ رُفِعَت لتحيّتهِ لانشغالهِ التام بكيفية توزيع راتبه.

كانوا ثلاثةَ عشرَ مُدرِّساً قبلَهُ يقفونَ في طابور، سبعةٌ داخلَ غرفةِ المعتَمَد وستةٌ خارجها بالممرّ، بالإضافةِ إلى العشراتِ من الزميلات المُدرّسات اللواتي تجمّعنَ بعشوائيّةٍ هنا وهناك.

وقفَ خلفَ مدرّسٍ للموسيقى، صديقٌ قديم، بادرهُ التّحيّةَ والسؤالَ عن الصّحةِ والأحوال.

رأى وقوفَهُ هناكَ فرصةً لتفقّدِ لائحة مستلزماتِ بيتِهِ، كانَ باذنجانِ المكدوسِ يتصدّرُ القائمةَ التي تنتهي بالرقم (14) حذاءٌ رياضي لابنِه المُقبِلِ على دخولِ الرّوضةِ. ابتسمَ للمصادفةِ الغريبةِ بينَ ترتيبه في طابور الرّاتبِ والرقم الأخير في اللائحة الطلبات في يدِه.

كانَ الطابورُ يتطاولُ بسرعةٍ من خلفِه، ويتناقصُ ببطء أمامَه. عشرونَ دقيقةً مرّت وصارَ داخلَ الغرفةِ، حيثُ فاحَ خليطٌ عجيبٌ من روائحِ العطورِ، كانتِ العطورُ النّسائيّةِ هي الطاغية.

ـ لا بأسَ أن يتأخرَ عدةَ دقائقَ إضافيّة هنا، في الغرفةِ المُكيّفةِ بالهواء الباردِ والوجهِ الحسّن (أسرَّ لنفسه).

بقيَ أمامَه مدرّسان يقابلهما أربعُ مدرّسات حينَ اقتحمَ الغرفةَ رجلانِ مسلحان الغرفةَ بكلّ فظاظة، أحدهما راحَ يصيحُ بالجميعِ: أوقفوا توزيعَ الرّواتب… حالاً، أوقفوا التّوزيع.

حالةٌ من الاستنكارِ والدهشة الممزوجة بالهلّع سيطرت على الوجوه، وأحسّ هو بجفافٍ في حلقه وكأنّ قلبَه هبط بين قدمَيه وأخذَ يتدحرجُ على الأرضِ ويُداسُ بالأقدامِ المُتكدّسة.

أعاد الرجلُ المسلحُ ذو اللحية غير المشذبةِ صياحَهُ: أوقفوا توزيعَ الرواتب وليخرجِ الجميع لينضموا إلى الوقفة التضامنيّة في الخارج. همهمات وهمساتٌ كثيرةٌ تدحرجت من الأفواه. سُمِعَ صوتٌ نسائي: تضامن؟! مع مين.. وليش هلئ، والرّاتب؟!

هنا هدرّ الرجلُ المُسلَّحُ: يا محترمة.. يلي ياخد راتب من الدّولة بدو يتضامن مع الدولة بكيفو أو غصب عنو. يلا الكل برا لشوف.

وسِيقَ قطيعُ المدرّسين والمدرسات خارجاً حيثُ تجمّعَ العشراتُ من المدنيين وبعضُ العسكريين برتبٍ مختلفة أمامَ رابطةِ الشبيبة، صورتان كبيرتان جداً لرأسِ الدّولة تجوبانِ السّاحة، وطبلٌ، ورجلٌ قزمٌ يردّدُ أشعاراً تمجّدُ القائدَ والبعث يقابلهُ تصفيقٌ ضعيف من الحضورِ المتواضِع، وبعضُ كرتوناتٍ صغيرة كُتِبَ عليها عبارات خجولةٌ تعبّرُ عن التضامن مع أهلِ السويداء ضدَّ “الإرهاب”.

خرجَ مسرعاً، وارتطمَ بأجسادٍ مختلفةِ الأحجامِ ومن الجنسَين، أرادَ أن يكونَ أولَ المبتعدينَ عن السّاحة، وليؤجّل الرّاتبَ ليومِ الغد.

ولكن.. وحينَ اصطدمَ بالرفيقةِ البعثيّةِ الشّقراء اللامعة تغيّرَتْ كل خططهِ في المغادرة.

بادرتْهُ بالاعتذار فتلعثمَ وتأتأَ بجملةٍ متقطعة جعلتها تضحكُ بصوتٍ أرجوانيّ متلألئ، ثمّ استدارَتْ نحو السّاحةِ، رافعةً يدها اليسرى ملوّحةً بإشارةِ النّصرِ، تاركةً لهُ كتفها الأيمنِ العاري.

وقفَ جامداً كلوحةِ إعلانٍ بلهاء، يبحلقُ في الكتفِ البيضاءَ العاجيّة، غائباً عن كلّ ما يحدثُ حولَه، وقرّرَ أنّهُ من الواجبِ أن يتضامَن على الأقلّ مع كتفِ هذه الرفيقةِ البعثيّة، نعم.. هذه الكتفُ وحدها تستحقُّ كلَّ أشكالِ التّضامن ولا شيءَ آخر.

وكشاشةٍ مسطّحةٍ راحَتْ كتفُها تنقلُ لشبكيةِ عينَيه الأحداثَ والشّعارات.

صورُ القائد واللافتات والضباط والمسلّحين الزملاءُ المُدرّسين والزميلات المُدرّسات، وموجهو الاختصاصات، ومُعتَمَدو الرواتبِ والمستخدمون والوكيلات والوكلاء.. كلُّ ذلك بدا لهُ تافهاً لا قيمةَ له أمامَ رصانة الكتفِ ولمعانه.

شعرَ بنسماتٍ لطيفةٍ تنبعثُ من كتفها فارتجف في حين كانَ العَرقُ يتصبّبُ من الوجوهِ حوله. تخيّلَ نفسهُ صغيراً يتزحلقُ بطراوةٍ فوقَ الكتفِ الملساء.

اقتربَ دونَ وعيهِ خطوةً إلى الأمام فشعرتِ الرفيقةُ البعثيةُ بأنفاسهِ اللاهثةِ على كتفها العارية، فالتفتَتْ نحوهُ بسرعة، ارتبكَ، ومن جديد تلعثمَ وتأتأ وبحماس راح يرفعُ يدَهُ ملوحاً بإصبعي النّصرِ وأخذَ يردّدُ شعاراً حفظَه في التظاهرات والتضامنات التي كانَ يتفرّجُ عليها في شوارعِ مدينتهِ قبل سنوات: حرّيّة.. حرّيّة.. حرّيّة.

أنقذتْهُ ضحكتها المجلجلة من الموقفِ المأساوي الذي أوقعتْهُ فيهِ كتفُها العاريةُ، استدرك خطورةَ الأمر، وبلمحِ البصر انحنى بين الجموعِ وتملّصَ من العيونِ الموجّهة إليهِ واستطاعَ أن يبتعدَ عن السّاحةِ المشؤومة، اجتازَ راكضاً عدةَ شوارعَ في دقيقةٍ واحدة، وحينَ صارَ خلفَ الفرن الآلي تنفّسَ الصّعداء وراح يسيرُ بهدوء، وبقيَتِ الكتفُ تتأرجحُ في مخيّلته.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية.

مساهمات أخرى للكاتب/ة: