في مملكة الهلام
العدد 171 | 19 نيسان 2015
علي حميشة


لا يحيدُ كأس عن حيدٍ مرجاني على متن يخت، وحظّ جيّد في إطعام سمكةٍ مُهدّدةٍ بدوار سماءٍ مقمرة، وفي قمرتي وحيداً ذات ليل طلعت لي عفاريت البحر، وأنزلتني ألفيّ متر تحت سطح الماء.. فوجدت مملكة الشعر الضائعة ، وتمثال نصفيّ لأفلاطون في منتصف السّاحة، تدور حوله بعض سمكات أبي شارب، وسمكة لقّز وحيدة، همست باسمي وكأنّها تعرفني، ثم أطلقت فقاعة.

منذ اللّحظة الأولى استلمني الخيّام وأخذني إلى خيمتي الهلاميّة، ثمّ غادرني مسرعاٌ ولم يقل لي إلى أين.

روى لي أبو النواس على العشاء وهو يقهقه، ويربت على كتفي – وكنّا نأكل معاً هلاماٌ أحمر بطعمٍ لذيذ- كيف أنّه ذات يوم في حياته السابقة خرج إلى صيد أَنثى الحبارى، ولم يجدها في العشّ، فجلس مكانها على بيضها، إلى أن أتت فاصطادها وأكلها هي وبيضها.

ثمّ جاء بعد قليل الملك الضّليل امرؤ القيس مرّحباً بي في مملكته، وجلس إلى جوارنا وهو يُطقطقُ أصابع يديه، وعندما لاحظ اندهاشي لا من الطقطقة، بل من خزي مخيّلتي في استحضاره على هيئته الحقيقيّة، ابتسم بمكره المعروف وقال:

لقد نسيت استعمال السيف تماماً، وأنا أُطقطق أصابعي من حين لآخر كي لا أضجر، وأنا حزين أحيانا لأنّ ملح البحر لا يؤاتيني تماماً، أظنّ أنه قد علقَ شيءٌ ما في جسدي من حياتي السابقة ولا أدري ما هو.

اقترح شاعر آخر لم أسمع به من قبل وكان جالساً على باب الخيمة، أن نذهب إلى ملهى المملكة تفادياً لخصوصيّات الملكِ، ولكي نمرح قليلاً، ويعرّفني على ليلى الأخيليّة .

وافقت بمرح، وعندما سألتُ الملك عن اسم هذا الشّاعر ردّ بمكر، وابتسامة ساخرة لاتفارق شفتيه:

يلّقب بأبي بحر مِغمور، وهو لطيف جداً، وحسن المعشر.

ذهبنا نحن الأربعة على أربعة أحصنة بحريّة كبيرة لا تُبقبق أبداً، قلت للملك مستنكراً:

لم لا تستخدمون غوّاصات أو ما شابه .. أليس أفضل من هذه الأحصنة البطيئة جداً؟

قال: معك حقّ.. أحصنتنا بطيئة جدّاً.. لكنّها تتماشى مع أسلوب حياتنا هنا.. والغوّاصات التي ذكرتها تُطلق فقاعات، وهي خطرة جداً، ونحن نستخدم الفقاعات فقط في حياكة نسيج الهواء، وكسجن فرديّ لبعض الشعراء الذين يشذّون عن القاعدة، وأرجو ألّا تكون منهم.

قلت :

     لحسن الحظّ لم يحبسني أحد قطّ في فقاعة، قد أرغب في فقاعة       صغيرة إن سمحت لي بارتكاب جنحة شعريّة صغيرة!

ضحك الملك الضليل وقال وهو يلكز حصانه بمهمازٍ شبه صلب:

سنرى لاحقاً.

                               _ 2_ 

الفرزدق وجرير كانا سيّدي القعدة دونما منازع عندما وصلنا، لقد لاحظت ذلك من النظرة الأولى .. انتبهت إلينا ليلى الأخيليّة فأقدمت مُرحّبةً بنا، وكانت تُجلجل كعادتها بأساورها الهلاميّة .. أخذتني من راحة يدي على جنب، وبلطفٍ شديد همست لي:

كيف وصلت الى هنا؟

قلتُ:

    كنتُ على ظهر يخت أُطعم سمكةً سوريّةً مريضة في حوضٍ زجاجيّ..أنت تعلمين أنّ هناك سمكة بهذا الاسم .. وهي جميلة جدّاً وتتجوّل وحيدة  وغير صالحة للأكل .. ثمّ جاءت لا أدري .. عفاريتكم الزرق على ما أظنّ، وأنزلتني الى هنا بلمحة برق!.

قالت : نعم نعم . حرّاسنا الملكيّون .. لقد ظنّوك واحداً منّا وقد شذذت عن القاعدة .. هم نادراً ما يخطؤون. لكن قل لي .. ماذا تعرف عن فنّ النكاح في عصركم الحديث؟

قلت: ليس الكثير حتماً.. عصرنا معقّد جدّاً، ويحتاج النكاح فيه إلى تفرّغٍ وراتب تفرّغ.

لكمتني بودّ على بطني وقالت:

  كنت أظنّك ذي فائدة وإلّا ما أتى بك الحرّاس إلى هنا .. لكن لا بأس .. يمكنك أن تمرح هنا ما شئت .. هناك بعض الجواري الشاعرات.. اختر التي تريد.

ثم تركتني وذهبت الى صدر القاعة.. وجلست في مكانها المعتاد تنفثُ دخاناً لايُرى من نرجيلتها التي لم تكن تُبقبق أبداً.

                                 _3_

قلت لجرير الذي استلطفني كثيراً.. وكان ينقر كأسه بكأسي كل فترةٍ وجيزةٍ، وكنّا نشفط معاً هلاماً كحليّاً غامضاً، مخصّصاً لهذه السهرات.. وهو لذيذ حقّاً:

كم بقرةً وحشيّة نكحتَ في حياتك السابقة ؟

قال: عندما كنتُ مراهقاً فقط.. وعندما أصبحت حضريّاً لم أعد أتفاخر بذلك.. لكن قل لي.. هل تخليتم أنتم عن هذه العادة؟

قلت: أنا لست  بدويّاً  كما تعلم، كما أنه لم يعد لدينا أي نوعٍ من الغزلان الوحشية، لكن يوجد الكثير من الحمير.. وقد سمعتُ الكثير من القصص المضحكة عن بعض البدو.. لكنّها غيض من فيض بالنسبه لغيرهم.. أنت تعرفهم.. أحفادكم.. أصبحوا أمراء نفط.

دُهش جرير واستنكر :

أُمراء ماذا ؟

قلت: نفط نفط!

قال: أتعني ذلك السائل الذي تُمرقُ فيه كرات اللّهب في قدْر؟ 

قلت: نعم. هو كذلك.

قال: وماذا يفعلون أيضاً؟

قلت : لقد داسوا جميعهم على مستقبلكم المُشرق وتغوّطوا عليه.

صمت قليلاً ثم أجاب:

لا بأس.. على أيّة حال .. لم يكن مستقبلنا هو الذي فعلوها عليه.. وهم ليسوا أحفادنا.. ونحن انتشرنا في الماء والهواء كما تعلم، وأقمنا مؤخّراً مملكة مائيّة!

قلت: نعم. أنت محقّ تماماً.

                            _4_

طوال السهرة لم يكن الفرزدق يُعيرني أي اهتمام.. وممّا زاد الطينة بلّة أنّه غادر السهرة في منتصفها مع جاريةٍ لم أجد أقبح منها في حياتي.. وعندما لاحظ جرير اندهاشي همس لي:

اليوم يوم راحة لا نتبارى فيه أنا والفرزدق.. وقد يحتاج إلى مصدر إلهام.. وهو مغرم دائماً بالقبيحات من الشاعرات لأنه يعتقد أنهنّ أكثر شذوذاً.. ولأنّه غداً ستقوم الطّامة على رأسه ولن تقعد.

قلت: ألا زلتما تتباريان؟

قال: لا طبعاً. أنا أمزح فقط. لكنّي أحبّ أن أستذكر قليلاً لنفسي وله من حين لآخر.

قلت: هل كنتما حقّاً مثلما وصلنا عنكما ؟

قال: لا أعتقد ذلك .. لقد رأيت يوماً في منامي الإهليلي أن هناكَ من نسج على منوالنا ومسح بنا الأرض!

قلت: نعم نعم. أشار بعض النقّاد الى ذلك، لكنّهم كانوا عمياناً كطه حسين!. ثمّ أين المتنبي؟ أنا لا أجد له أثراً هنا في هذه الجمهرة من الشعراء والشاعرات الجاريات؟

ضحك جرير وقال:

المتنبّي لا يخرج من فقاعة إلّا ويدخل بأخرى.. هو غير مرغوب فيه هنا.. وهو لا يحضر أصلاً ولو كان خارج فقاعتهِ، لأن الجميع ينفر منه.. أنت تعلم هو كثير الاعتداد بنفسهِ الى حدّ الغرور.. مع أني أنا شخصيّاً أجد له بعض العذر، وحاولت أكثر من مرّه تخفيف الحكم عليه، لكنّ الملك الضليل له رأي آخر.. ومرّةً استطعت بجهد جهيد أن أنقله من فقاعه ضيّقة إلى فقاعة أوسع قليلاً!

قلت : هل يغار منه؟

قال : لا أبداً. الملك هو الملك. لكنّ المتنبّي ظلّ مشاغباً، ولم يتعلّم شيئاً من حياته السابقة، وحاول كثيراً تغيير بعض الأنظمة والقوانين في المملكة، وبسعيهِ هذا كاد مرّةً أن يُحدث بلبلةً كبيرةً بين الشعراء.. أنت تعلم مثل هذه الأمور خطيرة، ولا يجب السكوت عنها.

قلت: نعم نعم . أعلم . النظام هو النظام !.

قال : بالمناسبة .. كيف أحوال الشعراء عندكم.. وماذا يحدث عندكم في بلاد الشام؟ يأتي حرّاسنا الملكيون من جولاتهم هناك غاضبون جدّاً.. أحياناً يغمغمون ببعض الكلمات.. وأنت تعلم أنّه غير مسموح لنا بسؤالهم، لكنّنا أحيانا نسترق السمع إليهم عندما يكون بعضهم متعباً جدّاً ونائماً.. هل حقّاً تحدث عندكم حرب طاحنة؟

قلت: حدّث ولا حرج.. يحدث الكثير من فوق الغطاء وتحته.. كما أنّه لا مكان لنا نحن الشعراء في هذه المعمعة.. لكن أرجوك لاتسألني أكثر عن الوضع.. قد يكون هنا من بين حرّاسكم مُخبراً للنظام دون علمه .. أو لمخابرات المعارضة!.

قال: اللّعنة!. كنت أظنّكم أكثر تحضّراً مِنّا.. لكن لا عليك.. قل لي ألم تختر جارية بعد؟

قلت: نعم . تلك الصهباء هناك التي تقرمشُ هلاماً.. سآخذها الى خيمتي في نهاية السهرة. بالمناسبة.. ما قصّة تمثال أفلاطون؟ أليس هو الذي نفاكم من مدينته الفاضلة؟

قال: لا أبداً. هو لم ينفِ أحداٌ ..  وكان شاعراً عظيماً.

قلت: يقول النقّاد عندنا لهذا السبب بالذات نفى جميع الشعراء من مملكته !

قال: لا. هذا غير منطقيّ .. نقادكم هزيلون مثلكم.

قلت: لكني لم أجد له أثراً في الملهى.. هل هو مريض؟

ضحك جرير وقال: لا. فقط هو انتقل إلى الحياة الثالثة.. كان أقدم منّا بكثير!

قلت: نعم فهمت!. وهل هي هذه الحياة الثالثة مملكة شعريّة مثل هذه ؟

قال: لا أدري بالضبط.. لا تصلنا أخبار من هناك بل إيحاءات..

وهي غامضة على العموم.. وحرّاسنا أكثر خبثاً وصمتاً في مناماتهم عنها.

قلت: أرى الكثير من الشعراء لا أعرفهم .. وتبدو لي هيئتهم مختلفة ولباسهم كذلك.. من هؤلاء؟

قال : إنّهم من أنحاء الأرض قاطبةً.. لكنّنا نتواصل بوحيٍ أعلى.. طبعاً أنت لا تعرف ذلك.. إنها لغة مختلفة خاصّة بالمملكة.. وأنا شخصيّاً لم أستخدم معك سوى العربيّة العاديّة التي تفهمها..

قلت: ها !. أنت بدأت تتحدّث مثل بعض الشعراء المعتوهين عندنا !

ضحك جرير وقال: لا أبداً. لست معتوهاً !.

قلت: ومن المعتوه هنا.. هل هو أنا! .

قال ساخطاً وكأنّ شيئاً أصابه بالصميم.. يبدو أنّك بالفعل مشاغب مثل صديقك المتنبّي.. أنت لن تفهم قطّ.. ثم أردف بنبرة خافتة وحاسمة : عليك أن تحرص على ألّا تُسجن في فقاعة.. أتمنّى لك حظّاً طيباً مع الروميّة.. كن حذراً.. لا تغضبها. إنّها خطرة. عن إذنك !.

قلت له أخيراً وهو يستدير ويغادرني غاضباً وبما يشبه الهمس: أجد أنّكم جميعاً خطرون هنا.. كنت قد بدأت أظنّ للتوّ أنه يوجد هنا ديمقراطيّة هلاميّة على الأقل!.

                                _5_

في خيمةٍ هلاميّةٍ في هبلٍ ما.. جلست أنا والشاعرة الروميّة نتحدّث عن الأوضاع في السياسة والحياة والفن والشعر.. ولحظة الموت أو الإنتقال من صيرورة إلى أخرى.. وكيف يمكن مثلاً لجندبٍ صغير أو ضبّ أو يعسوب أو شرغوف صغير أن يكون شاعراً يتحدّث بنفس اللغة التي تتحدّث بها، ويُلقي قصائده على جمعٍ غفير من حشرات صغيرة متنوعة قافزة وصائته وساكنة وو.. الخ.

فجأةً أطلقت هي ضحكة هستيريّة وانقلبت على ظهرها من شدّة الضحك..

فبان شيئ من تحت عباءتها.. وضحكت أنا لرؤيتي لها بهذه الحالة، ثم خطفتُ بوري الحشيش من بين أصابعها كي لا تحرق هلاماً ما.. وأخذتُ مجّة كبيرة جدّاً دون أيّة دخنةٍ أو أيّ احتراق حاصلٍ.

___________________________________________

شاعر وقاص من سورية صدر له شعراً: “أناشيط” 1996، و “في أحد أدوار ناطحة سحاب” 2007، ومجموعة قصصية بعنوان “الوجه وعذاب الظل” 1996

الصورة من أعمال الفوتوغرافي الإيطالي أمبرتو فيردوليفا Umberto Verdoliva

*****

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: