فينوسة الجسد- فينوسة الروح
العدد 272 | 29 تموز 2022
هنري ميللر | ترجمة: أسامة منزلجي


    كلما أحاول أنْ أشرحَ لنفسي الأسلوب الخاصّ الذي اتّسَمَتْ به حياتي، أعود إلى السبب الأول، أفكِّر وبلا مواربة، بأول فتاة أحببتُها. يبدو لي أنَّ كل شيء يبدأ من تلك المغامرة المُجهِضة. كانت مغامرةً غريبة، مازوشية، مثيرة للسخرية ومأساوية في آن. ربما أُتيحَ لي أنْ أستمتع بتقبيلها مرتين أو ثلاث دفعة واحدة، قبلات من النوع الذي تدَّخره لإلهة. ربما انفردتُ بها مرات عديدة. ومن المؤكَّد أنها لم تكن لتحلم بأني بقيتُ أكثر من عام أمرُّ من أمام منزلها كل ليلة آملاً في أنْ ألمحها من النافذة. كل ليلة بعد العشاء أنهضُ عن المائدة وأتبعُ طريقاً طويلة تؤدي إلى بيتها. لم تكن مرة عند النافذة حين مررتُ ولم أملك الشجاعة أبدأ لأتوقف أمام الباب وأنتظر. كنتُ أمرُّ جيئة وذهاباً، جيئة وذهاباً دون أنْ أرى لها طَرَفاً. لماذا لم أكتب لها؟ أذكُرُ مرة أني استجمعتُ ما يكفي من الشجاعة لأدعوها إلى المسرح. وصلتُ إلى منزلها مع باقة بنفسج، وكانت المرة الأولى والوحيدة التي أشتري فيها زهوراً لامرأة. وبينما نحن نغادر المسرح سقطتْ البنفسجات عن صدرها، ومن شدة اضطرابي دستُ عليها. ورجوتها أنْ تدعها مكانها، لكنها أصرَّتْ على جمعها، وكم شعرتُ أني فظيع – ولم أتذكَّر ابتسامتها لي وهي تنحني لتلتقط أزهار البنفسج إلا بعد وقتٍ طويل.

    كان إخفاقاً تاماً. وفي النهاية هربت. في الواقع أني هربتُ من امرأةٍ أخرى. ولكن في اليوم السابق لتركي المدينة قرَّرتُ أنْ أراها مرةً أخرى. كان الوقت منتصف الظهيرة وخرجت لتتكلَّم معي في الشارع، في ممرٍ صغير بين الأبنية تكتنفه الجدران من كل جوانبه. كانت قد خُطِبَتْ إلى شابٍ آخر، وتظاهرت بالسعادة، لكنني فهمتُ، مع جهلي، أنها لم تكن سعيدة كما ادَّعتْ. ولو قلتُ الكلمة المطلوبة فأنا متأكد من أنها كانت ستترك الشاب الآخر، بل وربما كانت هربت معي. وفضَّلتُ أنْ أعاقب نفسي. قلت وداعاً بلا مبالاة وهبطتُ الشارع كالميت. وفي صباح اليوم التالي، اتّجهتُ صوب الساحل، وقد قررتُ أنْ أبدأ حياةً جديدة.

    وكانت الحياة الجديدة إخفاقاً آخر. وانتهيتُ إلى مزرعةٍ لتربية الماشية في تشولافيستا، وأنا أتعسُ إنسان مشى على سطح الأرض. لديّ فتاة أحبها وأخرى لا أكنُّ لها إلا أعمقُ الشفقة. عشتُ معها سنتين، تلك الأخرى، لكنهما بدتا لي دهراً كاملاً. كنتُ في الحادية والعشرين من العمر واعترفتْ بأنها في السادسة والثلاثين، وكلما نظرتُ إليها أقولُ لنفسي – حين أصبحُ في الثلاثين ستكون هي في الخامسة والأربعين، وحين سأغدو في الأربعين ستكون في الخامسة والخمسين، وحين سأبلغ الخمسين ستكون هي في الخامسة والستين. كانت تُظلل عينيها تجاعيد رقيقة، ضاحكة، لكنها تجاعيد على أي حال. حين أُقبّلها تتضاعف مرات عديدة. كانت تضحك بسهولة، وعيناها حزينتين، عظيمتيّ الحزن، عينين أرمينيتين، وشعرها، الذي كان أحمر ذات مرة، أمسى الآن أشقرَ من البيروكسايد. وما عدا ذلك كانت تستحق العبادة – فينوسية الجسد، فينوسية الروح، معشوقة وفيّة، ممتنة، كما يجدر بالمرأة أنْ تكون، غير أنها كانت تكبرني بخمسة عشر عاماً. وجرفتني هذه الخمسة عشر عاماً من الفرق إلى حافة الجنون. وحين كنتُ أخرج معها لا أفكّر إلا في – كيف ستكون بعد عشرة أعوام؟ أو، كم تبدو من العمر الآن؟ هل أبدو مناسباً لها؟ وما أنْ نعود إلى المنزل حتى يغدو كل شيء على ما يرام. حين كنا نصعد الدرج أُدخِلُ أصابعي في فرجها، فتصهل كالحصان. وإذا كان ابنها، الذي يُعادل عمره عمري، في سريره، نغلقُ الأبواب ثم نقفل باب المطبخ على نفسينا. وتتمدَّد على طاولة المائدة الضيقة وأسلخه فيها. كان شيئاً رائعاً. وما جعله أكثر روعة أنه مع كل مضاجعة أقول لنفسي – هذه آخر مرة … غداً سأهرب! ومن ثم، وبما أنها كانت تعمل حاجبة، أنزلُ إلى القبو وأدحرج لها براميل الرماد إلى الخارج. وفي الصباح، بعد أنْ يذهب ابنها إلى العمل، أصعد إلى السطح وأهوّي البطانيات والشراشف. فقد كانت هي وابنها مُصابين بالسل … أحياناً لم يكن يوجد طعام على مائدة الغداء، وتارة أخرى يتملّكني اليأس من كل شيء حتى يقبض عليّ من حنجرتي فأرتدي ملابسي وأخرج لأتمشّى. وأحياناً كنتُ أنسى أنْ أعود. وحين أفعلْ أكون أتعس مخلوق قاطبة، لأني أعلم أنها في انتظاري تينك العينين الكبيرتين المفعمتين بالألم. فأعود إليها كرجل ينتظره أداء واجب مقدَّس. وأستلقي على السرير وأتركها تداعبني، وأدرس التجاعيد التي تحت عينيها وجذور شعرها التي تتحوَّل إلى اللون الأحمر. أستلقي هكذا، أفكّر غالباً بالأخرى، التي أحبها، أتساءل إنْ كانت مستلقية مثلي للسبب نفسه، أو … يا لتلك المشاوير الطويلة التي مشيتها على مدى 365 يوماً في العام! كنتُ أستعرضها في خاطري وأنا مُضطجع بجانب الأخرى. كم من مرة عشتُ تلك المشاوير! في أفظع، وأشد الشوارع عتمة وبشاعة التي شقّها الإنسان. عشتُ تلك المشاوير بألم، وتلك الشوارع، وتلك الآمال الأولى المُحطَّمة. وها هي النافذة، ولكن لا ميليساند، الحديقة أيضاً موجودة، ولكن بلا بريق ذهب. وأمرُّ وأُعيد المرور، والنافذة فارغة دائماً. نجم المساء يتدلّى واطئاً، وتظهر تريستان، ثم فيديليو، وأوبيرون. والكلب الأسطوري ينبح بجميع أفواهه وعلى الرغم من عدم وجود مستنقعات أسمعُ ضفادع تنقُّ في كل مكان. المنازل هي نفسها، أرتال السيارات هي نفسها، كل شيء نفسه. إنها مختبئة خلف الستارة، تنتظر مروري، تفعلُ هذا وتفعلُ ذاك … لكنها ليست هناك، أبداً، أبداً، أبداً، هل ما يحدث هو أوبرا عظيمة أم صوت أرغن يدوي؟ إنه أماتو Amato يُفجِّر رئتيه الذهبيتين، رباعيات الخيّام، قمة إفريست، أمسية بلا قمر، نشيجٌ عند الفجر، صبيٌ بمظهر كاذب، قطة داخل حذاء، ثعلب أو حَمَل صغير، شيءٌ ليس له قِوام ولا زمان، لا نهائي ويبدأ مراراً وتكراراً، تحت القلب، خلف الحنجرة، أسفل القدمين، ولِمَ ليس مرة واحدة، ولو كذبة، شيءٌ يوقِف الألم، يوقفُ تلك المشاوير التي لا تنقطع … نحو المنزل. المنازل هي نفسها، أعمدة النور نفسها، كل شيء نفسه. أمشي مُجتازاً منزلي، مجتازاً المقبرة، وسيارات الغاز، ومواقف السيارات، والمستودع، وأصلُ إلى الريف المنفتح. أجلسُ على حافة الطريق ورأسي مدفون بين يديّ وأجهشُ بالبكاء. يا لي من مسكين أحمق، لا أستطيع أنْ أقلِّص قلبي بما يكفي لأفجِّر شراييني. أودُّ لو أختنق من الألم ولكن بدل ذلك ألِدُ صخرة.

*****

خاص بأوكسجين