فصل من رواية “عالم 9”
العدد 268 | 05 كانون الأول 2021
محمد جبعيتي


 

غرقت “3” في رتابة الأيام وقسوتها. خسرت كل شيء. جربت حبس دموعها لنهار واحد، فشغلت نفسها بالعمل: مسح الغبار عن الأثاث، شطف أرضية البيت، غسل الصحون، ترتيب الملابس، تبديل الستائر. اختارت دور المحارب لتسترد ما تبقى من روحها. لم يخطر ببالها أن ما ينتظرها سيغير حياتها. لمّا ظنت أن الكارثة صارت خلف ظهرها، وما عليها غير مقاومة أعراضها، اكتشفت أنها تعيش داخل الضحية، في بطنها تحديدًا. هذه المرة، جاءتها الكارثة في هيئة جنين. ليتها قتلت في المجزرة! لما تأخرت دورتها الشهرية، وشهدت الرعب الذي تركه في قلبها.

بعد شعورها بالغثيان، وتقيئها أكثر من مرة، خمنت أنها حامل. هل وضع المغتصب في رحمها قنبلة ستنفجر بها؟ وهبها أمير الحرب فجيعة تقتات على دمها. ضربت بطنها وبكت بحسرة. تمنت أن يموت، يخرج دون أن تراه. قررت الذهاب إلى عيادة للفحص. كانت تدرك أنها حامل. هذه ليست مزحة، حمل بذرة لا تعرف صاحبها! أعادت مشهد تلك الليلة، زوجها.. ثم مغتصبها. شتان بين الأمرين. لو كانت تعرف أن الأمور قد تصل إلى الحمل، لذبحت نفسها بالسكين. أحست ـــ وهي امرأة الكارثة ـــ بالوحش في رحمها. دم الكارثة يفتح شهية الذئاب. لعبة دومينو، ما إن تسقط قطعة حتى يبدأ الانهيار.

أشارت الفحوصات أنها حامل. ولأنها تعرف رعب العالم، فكرت بالإجهاض. لا يهم. “لا أريد للماضي أن يتنفس فيّ”. خرجت من مجزرة، وها هي تدخل في أخرى. أفاقت من صدمة الاغتصاب على واقعة جديدة. لمع في ذهنها وهي عائدة إلى البيت أن تقتل الجنين. انتشت بفكرة موته. بعد نوم طويل، تفتح عينيها فتجده قد تلاشى. تبصر نهاية الطريق. تعرف أنها لن تطيق سماع بكائه. ما هذا التورط؟ كل مشاعر الندم لا تكفي. أفكار كثيرة عبرت رأسها، طاقات صرفتها لفهم ما حدث. فراغ ما تجده في طريق بحثها عن المعنى. لمَ الإفراط في الألم؟ كانت زوجة صالحة، أمَّا طيبة، سيدة بيت سعيدة. الآن سيشيرون إليها: “مغتصَبة، وحامل بابن زنا”. كيف تحس الضحية بالذنب؟ ما معنى الزمن والساعة تشير إلى اقتراب الكارثة؟ لا جدوى من التمسك بالمبادئ أو الضمير! سيهمس قلبها إن الجنين بريء لا ذنب له، قد يكون ابن زوجها الذي دفنته بيديها، بينما تصرخ الأشياء داخلها لتتخلص من آثار الكارثة. “سيستنزفني الطفل، ويسرق ما تبقى من فتات عمري”.

خائفة من نفسها ومن المجتمع. صارت تحدق إلى بطنها أغلب الوقت. تشعر بكائنات خفية تمتص قوتها. جربت عواطف الأمومة ولا تريد تكرارها. كل كينونتها غير العابئة بحياة الطفل تسعى إلى إجهاض أي رغبة بالإنجاب. داهمها خوف أن الحياة لا تتوقف عن خداعها، لذا وصلت نقطة اللارجوع. تتحسس التكور، الكتلة اللحمية، تشكل الكائن الغريب، تائهة، وقلبها كالفراغ، تنتظر حياة ليست من خياراتها. فرض عليها وجود جنين غير مرغوب به، يضغط بثقله ليعلن الفضيحة. تمسد بطنها، وتقول لنفسها إن الكارثة هنا، في هذه المساحة المنكوبة، ستطل برأسها يومًا، مبرهنة على طغيان الجنود وهشاشة داخلها. الجنود يتركون خلفهم نساء معطوبات بالأوجاع. رفسات حيوان صغير لن يظل كتلة لحمية بعد الولادة، بل سيتحول لعار يمشي على قدمين، ويحمل عار أمه وبلادها.

بعد أيام من البكاء المرير، أمسكت العمة يدها بلطف، قالت: “يا ابنتي، استجمعي قوتك. الطفل لا ذنب له، لا تقتلي روحًا داخلك”. فكرت في تناول الأدوية، غير أنها خشيت العواقب. أخذت موعدًا عند طبيب ليجري لها العملية. حاول إقناعها بالإبقاء عليه. قال لها إن العملية خطيرة، الأفضل أن تراجع قرارها. عندما أسمعها دقات قلب الجنين عبر الجهاز الطبي، تفجرت داخلها مشاعر الأمومة التي تنكرت لها. أذابت نبضاته مخاوفها. هزت رأسها موافقة. قررت الإبقاء عليه نكاية بالعالم. الطفل ملح نبت في أعماقها ليحفظها من العفن. وجوده معناه أن تخرج من دائرة الوحدة، سيأتي ببكائه وضحكه ليملأ عالمها الكئيب. تعثرت في طريقها بسبب غير متوقع للانتظار. ستنتظر، وفي ذلك حياة. الطفل فرصة أخيرة للحب، وممارسة هوايتها في العطاء.

بعد أن خرجت من العيادة، مشت على ساحل البحر. رأت النوارس والقوارب والأطفال الذين يلعبون بالرمل. كانت السماء صافية، والهواء نظيف تتفتح له مسامات الجلد. تبدو المدينة من مكانها خلابة. واصلت سيرها حتى وصلت حديقة تتوسط أحد الأحياء. كانت مكتظة بالأمهات والأطفال. جلست على أحد المقاعد مثقلة بالهواجس. ظهر على يسارها رجل أنيق برفقة زوجته، يدفع عربة فيها طفل. بدت العائلة كأنها انبثقت من عالم بعيد لا شأن لها به. إنه جرح غائر وقصة تطول. تتحرق لحياة طبيعية: أن تدفئ تخت رجل تحبه كما يليق بعاشقة وأن تنام دون كوابيس.

بغتة إذ تقلّب أفكارها، رأت زوجها قادمًا من طرف الحديقة. انتفضت مكانها ونبض قلبها بعنف. ما إن وصل حتى جلس على المقعد ذاته.

ـــ من أنت؟

لم تأتها الإجابة التي كانت تنتظرها. قال بصوت واثق، لكنه حزين:

ـــ تخلصي من الطفل.

شدت على بطنها.                   

ــ هل جننتِ؟ إنه من صلب قاتلي ومغتصبك. اجهضيه، لست بحاجة إلى مجرم جديد.

شعرت بكوكب ارتطم بها. ها قد عاد أكثر فظاظة ليشوش أفكارها. الأموات لا يتخلون عن الحياة بسهولة. يعودون إلى العالم لتصفية حساباتهم مع الأحياء. لم تفهم ما الذي يفعله زوجها، بدأت بالصراخ. كانت أم تدفع عربتها فاندفعت نحوها، ومع ارتفاع صوتها تجمع حولها الناس. لاحظت بعد استيقاظها أنها بين غرباء. احمر وجهها، كانت محرجة، فابتعدت عن المكان مهرولة.

أرادت تأثيث عالمها بالبساطة ورائحة رجل يحبها، فتزوجت في الثامنة عشرة. كان زوجها يعمل مثل أغلب رجال القرية في حقول الذرة. علّمها استخدام بندقية قديمة لصيد الأرانب والغزلان. أخذها إلى الغابات، وصعد بها الجبال. أراها القطار المحمل بالمعادن عابرًا السهول. أركبها على حصان أصيل وعلّمها فنون الحب. ولما يحدثها حكايات سمعها من رحالة وقراصنة بحار، كانت تتشكل غيمة سعادة على وجهها، وتشرع في ثرثرة لا نهاية لها عن جدها العاشق للكتب، وعن بيت طفولتها بحجارته التي ترشح بالذكريات.

لم تجد العمة في المنزل. مترنحة من التعب أخذت تمشي نحو غرفة نومها. تمددت على السرير بملابسها. حاولت بالنوم إغلاق باب القلق الذي انفتح في رأسها، غير أن كابوسًا مخيفًا كان بانتظارها، وفوضى من الأصوات.

تنمو نبتة الموت في الرأس، فيصبح الجسد جثة تتحرك. 

تشعر أنها علبة كبريت أضرمت فيها النار.

 

———————

صدرت الرواية عن دار الآداب – بيروت 2021

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من فلسطين.