فصل من رواية “الخلل”
العدد 263 | 15 شباط 2021
هيرڤي لوتوليي | ترجمة: محمد فطومي


ڤيكتور مييزيل

لم تكن الوسامة تعوز ڤيكتور مييزل، ازداد وجهه ذي القسمات الحادّة جاذبيّة مع مرور السّنوات، وبإمكان شعره الغزير وأنفه الروماني أن يُذكّرا بكافكا. كافكا نشِطا، حيويّا في وسعه تخطّي الأربعين. كان طويل القامة، نحيفاً، رغم أنّ الخمول المتأصّل في مهنته قد جعله يسمن قليلاً.

فڤيكتور يكتب. للأسف، رغم الحفاوة النقديّة الحسنة لروايَتَين هما ستعثُر علينا الجبال، وإخفاقات غير صائبة، رغم جائزة أدبيّة باريسيّة جدّا، من النّوع الذي لا يُحرّض فيه الشّريط الأحمر على الإقبال، فإنّ مبيعاته لم تتجاوز بضع آلاف النُّسخ. أدرك أنّ شيئاً لم يكن أقلّ مأساويّة من أن يتّضح بأنّ الخيبة هي نقيض الفشل.

خلال ثلاثة وأربعين سنة، من بينها خمسة عشر سنة قضاها في الكتابة، بدا له عالم الأدب الصّغير قطارا هزليّا حيثُ مُحتالون من دون تذاكر يجلسون في حجرة بالدّرجة الأولى بتواطئ مع المراقبين العاجزين، فيما يبقى على الرّصيف عباقرة متواضعون – فئة آيلة للانقراض – لا يُقدّر مييزل الانتماء إليها، مع ذلك لم يهدر حياته؛ انتهى به الأمر إلى عدم الاكتراث بهذا الشّأن، راضيا بالمكوث في صالون كتاب لتوقيع أربعة نسخ خلال ما يعادلها من ساعات؛ عندما كان أحد نظرائه في الفشل يجاوره على طاولة واحدة، فإنّهما دون تردّد يناقشان الأمر بعفَويّة. مييزل الذي يبدو شاردا وبعيدا، تمتّع رغم كلّ شيء بسمعة رجل خفيف الرّوح. لكن أليس الرّجل الظّريف، الأهل لهذا اللقب، دائما كذلك غم كلّ شيء؟

يكسب مييزل عيشه من التّرجمة. من الإنجليزيّة، الروسيّة، البولونيّة، اللغة التي كلّمته بها والدته طيلة طفولته. ترجم ڤلاديمير أوديفسكي، نيكولاي ليسكوڤ، أدباء من القرن ما قبل الماضي ممن لا يقرؤهم أغلب الناس. حدث له أيضا أن قام بأيّ شيء، من قبيل – بطلب من إحدى المهرجانات – اقتباس في انتظار غودو إلى الكلينيون، اللغة المتوحّشة التي تخاطَبَ بها سكّان الفضاء في فِلم رحلة النّجوم. وكي يترك مييزل انطباعا جيّدا لدى مِصرَفيِّه، فقد ترجَمَ أيضا كتبا إنجلو-سكسونيّة من بين أفضل المبيعات، كتبا مُسلّية، تمنح الأدب مسحة من القصور الفنيّ المُوجّه إلى قاصرين. فتحت له مهنته أبواب دور النّشر المشهورة، بل العملاقة، دون أن تنجح مخطوطاته في تخطّي عتباتها.

لدى مييزل تميمته الخاصّة: يحتفظ في جيب بنطلونه الجينز، بقطعة ليغو، الأشهر بينها، ذات الأربعة نتوءات مُزدوجة وحمراء. إنّها جزء من جدار سور القصر الذي كان صحبة والده يُشيّدانه في غرفته طفلا. وقع الحادث في حظيرة البناء، وظلّ المُجسّمُ غير مُكتَمل بالقرب من سريره. باستمرار، كان الطفّلُ يراقب، بصمت، النّوافذ، جسور-ليفيس، التماثيل والحصون. إنّ مواصلة بناء القلعة بمفرده، تعني القبول بالموت على أن يُفكّكها. ذات يوم انتزع طوبة من السّور، وضعها في جيبه ثمّ فكّك الحصن المنيع. كان ذلك قبل أربعة وثلاثين سنة. فَقَدَ ڤيكتور الطّوبة مرّتين وحصل على أخرى مشابهة لها مرّتيْن. في البداية ليس من دون ألم ثمّ بعد ذلك دون تأثّر. عند موت أمّه السّنة الماضية، ألقى بالطّوبة في تابوتها وسرعان ما استبدَلَها. متوازي المُستطيلات هذا، ليس والدَه، بل ذكرى أحد ذكرياته، امتداد الانتساب والوفاء.

ليس لمييزل أبناء. كان يُحلّق عاطفيّا من فشل إلى آخر بحماس لا يفتر. غالبا لم يكن مُقنِعا بسبب المسافة التي يتركها بينه وبين غيره، لم يلتق أبدا المرأة التي يمكنه العيش فترة طويلة من حياته. أو لعلّه يختار رفيقته على نحو يجعله واثقا من عدم قدرتها على مُعاشرته طويلا.

كذب: المرأة، صادفها قبل أربع سنوات، خلال ملتقى ترجمة في آرل Arles: أثناء لقاء فسّر فيه كيفَ تتمّ «ترجمة الدّعابة لدى غونتشاروڤ»، كانت في الصفّ الأوّل. حاول تركيز بصره عليها وحدها، لأنّ ناشرا ألحّ عليه – ماذا لو ترجَمتَ لنا الكاتبة النِّسوِيّة الروسيّة ليوپوڤ غورڤيتش؟ ما رأيُك؟ رائع، أليس كذلك؟ -، لم يُفلح ڤيكتور في المناورة. لكن بعد ساعَتَيْن في الطّابور الطّويل المُؤدّي إلى الحلويات، وقفت خلفه تماما مُبتسمة. الحقيقة في مجال الحبّ هو أنّ القلب ينتبه إليه فورا ويهتف به. طبعا لن نُصرّح للشّخص أنّنا نُحبّه من الوهلة الأولى، على صفحة بيضاء. لن يفهم شيئا. إذًا، ولأجل التخفّي نصبحُ رهينته ونبادره بالكلام.

وصولا إلى المرحلة الأخيرة والأهمّ، بسكويت الشّكلاطة، استدار ڤيكتور وحدّثها. سألها متلعثما كيف نترجم «كريمة إنجليزيّة» إلى الإنجليزيّة بما أنّ الكريمة الفرنسيّة french cream هي الشّانتيي. نعم للأسف، لم يجد أفضل من تلك المُقدّمة. ضحكتْ بأدب، أجابت كريمة أسكوتيّة ascot cream بصوت خشن بدا له خلاّبا، وعادت إلى طاولتها للالتحاق بصديقاتها. استغرق وقتا كي يعرف أن “أسكوت” مثل “شانتيي” هما مضمارا سباق خيول إنجليزيّة على أيّ حال.

تبادل معها نظرات خمّن أنّها تشاركه إيّاها. قصد البار بوضوح، على أمل أن تلحق به، لكنّها كانت فعلا غارقة في الحوار. ولمّا لاح لنفسه أبلها كمراهق، عاد إلى فندقه. لم يجدها بين صور الحاضرين، لكنّه لم يشُكَّ لحظة أنّه سيصادفها من جديد، وراح، طوال الفترة الصّباحيّة يزور الورشات تحت ذرائع مُختلفة. عبثا. لم تحضر حتّى حفل اختتام النّدوة. تبخّرت. أثناء الفطور الصّباحي الأخير في الفندق وصفها لأحد أصدقائه في لجنة التنظيم. لكنّ «قصيرة»، «سمراء» و«فاتنة» لم تُميّز من قبلُ أناسا عن آخرين.

بعد سنتيْن، عاد ڤيكتور إلى المؤتمر، وإن كان يودّ رءية الأشياء بنزاهة فلأجل رؤيتها. منذ ذلك الحين – أي منذ الخطأ المهني الخطير -، انزلق صوب ترجمة المقاطع القصيرة مُشيرا إلى مضمار سباق أسكوت أو الكريمة الإنجليزيّة. مع المؤلّف الجامع لمقالات غورڤيتش بدأ في مخالفاته: في النصّ الافتتاحي، «لماذا علينا منح النّساء جميع الحقوق والحرّيات»، أقحم جملة: «الحرّية ليست كريمة إنجليزيّة فوق كعكة الشّكلاطة، إنّها حقّ.» هل كان ذلك سرّيا؟ لكن من يقول؟ على أيّ حال هي تهمّ غونتشاروڤ نفسها. لكن، لا. إن كانت قد قرأت الكتاب فإنّها لم تنتبه إلى الإضافة، الناشر بدوره لم ينتبه، القرّاء أيضا.

ترك ڤيكتور قطار الحياة يمرّ بيأس.

بداية السّنة، منحتهُ منظّمة فرنسيّة-أمريكيّة مُمَوَّلَة من قبل المصلحة الثقافيّة بسفارة فرنسا، جائزة لترجمته أحد روايات الرّعب التي تكسبه عيشه. سافر بداية مارس إلى الولايات المُتّحدة لتسلّمها ودخلت الطّائرة في قلب العواصف المُرعبة. تقاذفت العواصف الطّائرة في كلّ الاتّجاهات وقتا لا متناهيا. من قمرة القيادة حاول الكابتن تهدئة الركّاب لكن لا أحد من بينهم شكّ في أنّهم سيسقطون في البحر وسيتحطّمون على جدار الماء. قاوم دقائق طويلة، تشبّث بالكرسي، توتّرت عضلاته كي يُخفّف من وقع الهزّات. تجنّب بنظراته النافذة المُطلّة على ليلِ البَرَد. فيما على مسافة صفوف منه ناحية الأمام، غير بعيد، رأى المرأة التي لا يبدو أنّ شيئا قد يوقظها من غفوتها، كانت متلفّعة بقلنسوة غارقة في نوم عميق.

لو أنّه لاحظها عند الصّعود إلى الطّائرة، لم يكن ليُبعِدَ نظراته عنها. لم تكن تشبه شبح آرل تماما، لكنّها ذكّرته بها. يظنّ المرء أمام رقّتها، وملامحها الصّغيرة، النّمش على بشرتها، جسدها النّحيل، أنّها فتاة صغيرة، إلاّ أنّ التجاعيد القليلة حول عينَيْها تخبر بأنّها في الثّلاثين. رسمت أطراف نظّارتيْها على أنفها ما يُشبه ظلال أجنحة الذّبابة. تتسم أحيانا لجارها، رجل أكبر منها سنّا، والدها ربّما، وبدا أنّ رجّات الطّائرة تُسلّيها، إلاّ إذا كانا يتظاهران بذلك، سيكون ذلك مُطمئنا عندئذ.

سقطت الطّائرة من جديد في فجوة هوائيّة. وفجأة شيء ما تحطّم في ڤيكتور، أغمض عينيْه وترك جسده يهتزّ في كلّ الاتّجاهات دون محاولة التماسك. لقد تحوّل إلى فأر مُختبرات، يكفّ عن المقاومة تحت الضّغط العنيف ويذعن للموت.

أخيرا بعد وقت لا ينتهي، نجت الآلة من العاصفة. لكنّ مييزل ظلّ فزعا، فريسة انطباع رهيب بأنّه يعيش خارج الواقع. عادت الحياة من حوله إلى مجراها، الناس يضحكون، يبكون، لكنّه ظلّ يراقب كلّ ذلك من خلف زجاج مُتّسخ. منع الطيّارُ الرُكّاب من نزع الأحزمة حتّى الانتهاء من الهبوط، غير أنّ مييزل المُفرَغ من كلّ طاقة، لم يكن على أيّ حال ليبرح المقعد. حالما فُتِحَت أبواب الطّائرة سارع المُسافرون للنزول، في محاولة للهروب من الآلة بأسرع ما يمكن لكن بينما كانت الطّائرة تفرَغُ، لبث مييزل جالسا في مقعده بمحاذاة النافذة. مُضيفة لمست كتفه. وافق على النّهوض. عاود التّفكير في المرأة الشابّة، بقوّة أكبر. قرّر أنّها الوحيدة القادرة على إنقاذه من المأزق الوجودي، بحث عنها بعيْنَيْه دون جدوى، ولا حتّى في طابور ممرّ الهجرة.

كان حضور مسؤول مكتب دار النّشر لاستقباله في المطار دليلا على الاهتمام بهذا المُترجم الصّامت والتّائه.

– أنت متأكّد من أنّك على ما يُرام، سيّد مييزل؟

– نعم، كدنا نموت، أظنّ، لكنّني بخير.

أقلقت النّبرة الرّتيبة مُوظّف القنصليّة. لم يتبادلا كلمة واحدة إلى أن وصلا إلى الفندق. مساء اليوم الموالي، عاد لأخذ مييزل، وفهم أنّ المُترجم لم يغادر غرفته اليوم بأكمله وأنّه لم يأكل شيئا. كان عليه أن يُلحَّ عليه كي يستحمّ ويلبس. سيُقام الاحتفال في مكتبة ألبرتين، الشّارع الخامس، قبالة السنترال پارك. عند اللّحظة المناسبة، وبإشارة من الملحق الثقافي، أخرج مييزل من جيبه كلمة الشّكر التي كتبها في باريس وبصوت أبيض أكّد أنّ دور المُترجم هو «تحرير اللغة الصّافية اللافتة في النصّ أثناء النّقل»، سرد دون جهد مناقب القارئ الأمريكي التي لم يكن مُصدّقا لكلمة واحدة منها، ابتسمت بجانبه امرأة شقراء طويلة القامة، وصمت فجأة. أمام الحرج الذي خيّم، أخذت الكاتبة المصدح لتشكره بحرارة ولتؤكّد على أنّ ملحمتها الخياليّة ستليها أعداد أخرى، ثمّ جاء موعد احتساء الكوكتيل؛ ارتسم الشّرود على وجه مييزل.

«اللّعنة، نظرا لتكاليف هذه الاحتفالات، ربّما أمكنه بذل مجهود صغير»، غمغمت المُستشارة الثقافيّة. دافع مُستشار الكتاب على مييزل صوريّاً. مييزل الذي سيرحل غدا في الطّائرة.

شرع في الكتابة لدى وصوله إلى باريس، كما لو أنّ أحدهم يمله النصّ، تلك الكتابة الآليّة الخارجة عن السّيطرة زجّت به في دوّامة من القلق. سيسم كتابه بـــ «الخلل» وسيكون سابع كُتبه.

«لم أقم بحركة واحدة طيلة حياتي. أعرف أنّ الحركات هي التي أنجزتني على الدّوام، وأنّي لم أسيطر على حركة قطّ. اكتفى جسدي بالعيش بين الأسطر التي لم أرسمها. ثمّة وقاحة في إسماع الآخرين بأنّنا أسياد الفضاء، فيما لا نقوم في الأصل سوى باتّباع مُنحنَيات لا قيمة لها. حدّ الحدود. ما من تحليق قد يَطوي سماءنا، أبدا».

في غضون أسابيع، وُجِدَ ڤيكتور مييزل آخر مهووس بالكتابة، ملأ مئات الصّفحات على هذا المنوال، مراوحا بين الغنائيّة وبين الميتافيزيقا: «المحارة التي تؤيّد اللؤلؤة تعرف أنّه لا وعيَ سوى الوعي بالألم، إنّها فقط متعة العذاب. […] برودة الوسادة تحيلني دائما على حرارة دمي الجوفاء. وإن كنتُ قد ارتعشتُ من شدّة البرد فلأنّ فرو وحدتي لا يقدر على تسخين العالم.»

لم يعد يخرج من بيته خلال ا أيّام الأخيرة. فقرته الأخيرة لدار النّشر تطلِعُ كم أنّ تجربة التقويض تحتوي على ما لا يُحتَمَل: «لم أعرف أبدا فيمَ كان العالم سيختلف لو لم أوجَد، ولا إلى أيّ ضفّة كنتُ سآخذه لو كان لي وجود أقوى، ولا أرى فيمَ سيُعطّل غيابي حركته. ها أنذا أسير على الدّرب حيثُ الحجارة الوهميّة تأخذني إلى لا مكان. صرتُ النّقطة التي تتّحد فيها الحياة مع الموت، حيثُ قناع الحيّ يُبدِّدُ وجه الميّت. هذا الصّباح، في جوّ من الصّفاء، أرى أعماقي، أنا مثل الجميع. لن أضع حدّا لوجودي، سأمنح حياةً للخلود. عبثًا، في النّهاية أكتب جملة أخيرة ترمي إلى تحريف اللّحظة.»

بعد إرسال الكلمات، إلى ناشرته في ملف، تملّك ڤيكتور مييزل قلقٌ حاد، لم يتمكّن من وسمِه، قفز من الشّرفة، سقط منها. أو لعلّه رمى بنفسها منها. لم يترك أيّ رسالة، لكنّ النصّ برمّته يقود إلى هذه الحركة الأخيرة.

«لن أضع حدّا لوجودي، سأمنح حياةً للخلود.»

إنّه 22 من ابريل، منتصف النّهار.

_______________________

فازت  “الخلل”L’anomalie بجائزة غونكور لعام 2020.

*****

خاص بأوكسجين