“فاني هيل” وصولجان القذف المتصلب 1-2
العدد 198 | 05 أيلول 2016
ماكس نيلسون


كتب جون كليلاند روايته الفاحشة (جداً) “فاني هيل” في السجن. ما كان قصده من كتابتها؟

غالباً ما يستخدم جون كليلاند في كتاباته جملاً تحاكي الغراميات المحمومة والعلاقات الجنسية التي تخيلها في روايته الأكثر شهرة، والتي صدرت في جزأين أثناء فترة محكوميته بالسجن لعجزه عن سداد ديونه بين 1748 و1749، وهي “مذكرات امرأة عن اللذة”، أو “فاني هيل”، والتي تم إصدارها مرة أخرى في نسخة خاضعة لمقصلة الرقابة في العام التالي، وتم تقديم كِلا الإصدارين كسيرة ذاتية لمومس سابقة اسمها فاني هيل. الجملة النموذجية عند كليلاند تسير بلا رادع متخطية أي نقطة تتوقف عندها “لتعيش على حافة الحدود القصوى دون أن تسقط عنها.” وتقوم بانعطافات مفاجئة، ومتشنجة، وفي بعض الأحيان محيرة، و”ترتقي بنفسها مستعينة بالسحر الذي تصبغه عليها حداثتها وعنصر المفاجأة فيها.” تراها أحياناً تجنح نحو السخف لتصبح مغرقة في التفاهة، وتبدو وكأنها “قد وصلت إلى الدرك الأسفل” – كما تعلّق بطلة الرواية في إحدى الفقرات التي تدور حول “النساء الراقيات” اللواتي كانت هي وزميلاتها المومسات يحلمن في الماضي بأن يكن مثلهن – “لا يمكن أن يوجد شيء أكثر غباءً وسطحية وتفاهة وحقارة.” لكنها بعد ذلك تتابع التقدم والصعود حتى تبدو وكأنها “منساقة عنوة لتصبح منفلتة من عقالها وخارج سيطرة أي فن.”

تجنح هذه الجمل إلى كشف مواضيعها والمقصود منها بصورة كاملة، وعلى نحو قد يكون مفرطاً في بعض الأحيان، فلا تترك لخيال القارئ سوى هامش ضيق جداً يتحرك فيه. تراها مليئة بصيغ التفضيل المغالى فيها والإسراف الشبق والتشبيهات المربكة. وكونه كاتباً متوهجاً، ومعتوهاً في بعض الأحيان، فقد صوّر كليلاند فاني على أنها مراقب مفرط النشاط للأجساد البشرية. لا يتم إغفال أي تفصيل مهما كان تافهاً، خاصة تلك التفاصيل التي تُعنى بجسد هو عرضة للافتراش أو الاستثارة أو الاستباحة. عن إحدى زميلات فاني المومسات أثناء اشتراكها في مسابقة للمضاجعة العلنية، على سبيل المثال، نقرأ التالي:

 

“ردفاها الريانان الناعمان يشكلان بقعتين ناصعتين من الثلج الراقص يملأ العين بألقه المبهر… هكذا إلى أن تصل هاتان الهضبتان البيضاوان الساحرتان إلى نقطة تُجبَران فيها على الافتراق عند ذاك الشق الضيق القائم بينهما، وتتوقف استدارتهما عند ذلك الحد… ومن ثم تهويان في فجوة سفلية مظللة تختتم هذا المشهد المبهج، وتجثم هناك فاغرة فاها تحت وطأة ذلك الانحناء المرتفع، ويمثُل بادياً للعيان ذلك الاحمرار المُشتهى لجانبي هذا الثقب العذب القائم وسط البياض البهي المحيط بهوة تدفعك إلى الغرق فيها من دون حساب العاقبة، وتشعر بأنك أمام ومضة وردية تتوسط قطعة ساتان لم ترَ عيناك أكثر منها بياضاً من قبل.”  

تميل فاني إلى وصف النساء بإعجاب مشوب بالود والرضى. تراها تتلذذ بهن طوال الوقت… وتشعر بأنهن بالكاد يفاجئنها أو يشكلن أي تهديد لها. في صفحات الرواية الأولى، عندما تجد فاني ذات الخمسة عشر عاماً نفسها من دون قصد في أحد بيوت البغاء، بعد عزل والديها المعدمين في الحجر الصحي في ليفربول على وجه السرعة لإصابتهما بالجدري، تتلقى أولى تعاليمها الجنسية بأسلوب مرح لعوب من إحدى النزيلات المتمرسات في بيت البغاء.

على النقيض من ذلك، إن وجود الرجال يمكن أن يشكّل لها حالة من الصدمة، مثل ذلك الزبون المسن الفاسق “صاحب اللون الأصفر الشاحب” الذي قدمتها له صاحبة بيت البغاء الذي تعمل فيه ليكون زبونها الأول. كما يمكنهم أيضاً – تصل فاني إلى هذه النتيجة في وقت مبكر- أن يكونوا مصدراً لمتع وملذات كثيرة. في حين لا تجد أي صعوبة في تصوير مفاتن النساء، تتعامل فاني مع مفاتن أجساد الرجال – كما حدث مع حبها الأول، الابن الوسيم لأحد الموظفين الحكوميين – بنوع من الرهبة المتلهفة…

“… لم يكن قميصه يحجب جمال ما تحته عني ويمنعني من ملاحظة مدى تناسق أطرافه وتناسب شكل جسده وهو ينحدر نحو عانته… هناك في المنطقة التي ينتهي عندها الخصر وتبدأ استدارة الوركين، حيث الجلد الحريري الناعم، والبياض الباهر اللامع على امتداد اللحم الناضج المكتنز المشدود، والذي يتموج ويمتلئ بالغمازات عند الضغط عليه… ربما لا تستطيع اللمسة أن تستقر عليه، فتكتفي بالانزلاق فوق هذا العاج المصقول بيد فنان…

 

نلاحظ عند وصفها الرجال أنها منجذبة إلى جزء بعينه من أجسادهم، وهو جزء يقوم كليلاند بشقلبات إنشائية كي لا يسميه باسمه. في البداية يسميه “ماكنة رائعة”، ولاحقاً، بعد خمس عشرة صفحة، يصبح “محراك غزوات الحب.” وبعد ذلك “صولجان القذف المتصلب.” وأحد هذه الصولجانات يصبح اسمه لاحقاً “نبتة مرهفة” برأس “لا يختلف أبداً عن قلب شاة” و”مؤخرة عريضة يمكنك أن ترمي حجر نرد عليها وأنت مطمئن إلى أنه لن يقع عنها.”

 

عند قراءة فقرات كتلك يتشكل عند المرء انطباع أولي بأن الهم الأساسي لكليلاند في روايته “فاني هيل” كان حل مشكلة تقنية… هل يمكن لتوصيفات وصور ثانوية وممجوجة عن الملذات الجسدية، سواء أكانت منمّقة أم مفصّلة، أن تمنح الروائي العدة اللازمة لتأليف كتاب ذي قيمة؟ يمكن قراءة أغلب صفحات الرواية على أنها تجسيد لزعم فاني قبيل نهاية الجزء الثاني بأن اللذة الجنسية هي “شعر بحد ذاته، وعالم حافل بزهور الخيال والولع بالاستعارات والمجازات، حتى عندما لا يكون بالإمكان استخدام المصطلحات الحرفية وتسمية الأشياء بمسمياتها احتراماً للعرف وتفادياً للوقوع في المحظور.” لكن قراءة متأنية لهذه الرواية ستظهر لنا أننا أمام عمل أكثر تعقيداً من مجرد تورد طاغٍ للخيال الجنسي الشاذ والفاحش لشخص ما. ما ينطوي عليه كتابنا هذا من توصيفات منمقة للمتعة الجنسية يبدو وكأنه وسيلة تستحث القارئ على الدخول في جدل أخلاقي يدور حول ماهية السلوكيات الجنسية التي يجب أن تكون “محظورة” وتلك التي يجب التشجيع عليها… جدل قام كاتبنا بصياغته وهو في سجنه غارق حتى أذنيه في أفكار العقاب والإباحية والخطيئة.

 

تتصف السيرة الذاتية لكليلاند بأنها ضبابية وملطخة، إذ يمر في حياته التي امتدت على مدى ثمانين عاماً بفترات زمنية لا نعرف تماماً ماذا حل به خلالها، وهي فترات استمرت 10 سنوات كاملة لم يصل إلينا منها حادثة أو خبر واضح عنه باستثناء بعض الجزئيات التي تزيد الأمر غموضاً وتضعنا أمام المزيد من الألغاز. ولد كاتبنا في العام 1710 لوالد كان ضابطاً سابقاً في الجيش، وكان يقيم حينها في كينغستون… تلك الناحية الكبيرة في لندن العظمى. ليس لدينا أي معلومة نستأنس بها لنعرف سبب تركه مدرسة ويستمنستر المرموقة في عمر الثلاثة عشر. لكننا نعود لنعثر عليه مرة أخرى من خلال بعض الوثائق التي تكشف أنه عمل كمجند غر في شركة إيست إنديا على متن سفينة متجهة إلى بومباي في العام 1728. كان قد عاش في الهند 12 عاماً عمل خلالها كموظف مدني، ويرجح الكثيرون أنه قد بدأ في ذلك الوقت مشروع كتابة “فاني هيل”. وعلى الرغم من أنه هو نفسه كان يمتلك مجموعة من العبيد، لكنه اضطر إلى أن يدافع عن نفسه في خضم الفترة التي عمل خلالها في بومباي ضد تهمة اختطاف امرأة مستعبدة لرجل آخر – تختلف الصياغة هنا بحسب التقارير المنشورة – لحمايتها من ظلم وإجحاف سيدها. (كان الباحث هال جلادفيلدر في كتابه التنويري الذي ألفه في العام 2012 “فاني هيل في بومباي”، قد أشار إلى أن الدفاع الذي قدّمه كليلاند في محاكمته يحتوي على لغة مشابهة لتلك التي استخدمها في كتاباته التي اتهم فيها أصحاب بيوت البغاء في لندن بإبقاء النساء اللواتي يعملن لصالحهم “في حالة من العبودية.”)

 

يبدو وكأن رحيل كليلاند من بومباي في 1740 – كان قد طلب إجازة قصيرة لكنه رحل ولم يعد – قد سجل بداية فترة مليئة بالانحراف والجموح لم يصل إلينا منها سوى النزر اليسير. كان له أيضاً محاولة لإطلاق مشروع استعماري آخر مع إدارة الحكم البرتغالي، والذي يبدو أنه قد باء بالفشل ولم يبصر النور، ليعود بعد ذلك إلى لندن حيث يُقال إنه التقى بالكاتب توماس كانون وأقام علاقة صداقة معه. أما تفاصيل علاقة الصداقة التي جمعتهما ومدتها فغير واضحة، لكن ما نعلمه علم اليقين هو أن هذه العلاقة قد وصلت إلى نهايتها في شهر فبراير من العام 1748، وهو الوقت الذي اعتُقل فيه كليلاند وحُكم بالسجن فترة امتدت حتى 13 شهراً في سجن “فليت” لعجزه عن تسديد ديونه التي بلغت ثمانمئة باوند لصالح كانون. في هذه المرحلة من حياته كتب كليلاند فاني هيل. وقد أمضى جل وقته في السجن وهو ينقح النص ويعيد صياغته ويتعمق فيه ويعده للنشر. أوائل العام 1749، قبل أن يظهر الجزء الثاني من رواية “فاني هيل” بوقت قصير، عثر أحد الخدم الذين يعملون لدى كانون على رسالة مكتوبة بخط اليد موضوعة على عتبة باب سيده:

“هنا يعيش الغلام المغناج الفاسد، أبيض الوجه المقيت الذي تآمر مع أمه لتنفيذ جريمة بشعة بحق رجل محترم تعيس الحظ كان قد أنقذ حياته من قبل، لكنه بدل أن يرد الإحسان بإحسان، قام بتسميمه خمس مرات بالزرنيخ الذي لن يتعافى من آثاره الملعونة على جسده طوال حياته. ويمكنكم أن تسألوا عن أمه وفضائحها حيث تقطن في شارع ديلاهاي. أما اسم هذا المقيت فهو “كانون الدلّوع”.

 

في “فاني هيل”، نرى أن أجزاء الجسد ذات البشرة البيضاء دائماً ما تشير إلى طهارة كاذبة (ذلك اللمعان الندي للبشرة الأكثر بياضاً التي يمكن تخيلها)، خاصة عندما تتم مقارنتها مع تلك التي تصطبغ باللون القرمزي جراء تدفق الدماء فيها. (كان كليلاند يحب كلمة “قرمزي” كثيراً، إذ نلاحظ أنها تظهر تسع مرات على الأقل في “فاني هيل”، وقد استخدمها كفعل في إحدى العبارات للإشارة إلى “الشق  المحمر من منتصفه في اللحم الحي” مع “شفاه تتقرمز من الداخل). الشخصيات الفاسدة أو القبيحة تميل إلى أن تكون ذات بشرة صفراء وشاحبة وملطخة. لكن عندما يطلق كليلاند لقب “أبيض الوجه” على كانون، فهو يحاول أن يلقي ظلالاً من الشك حول ميوله الجنسية. توصيفات أخرى يوظفها كليفلاند للتشديد على زعمه بأن كانون كان لوطياً في السر، وذلك عندما يدعوه بـ”الغلام، وكانون الدلّوع.”

(يتبع في العدد المقبل..)

___________________________________________

عن مجلة “باريس ريفيو” والعنوان الأصلي للمقال Overdrafts Of Pleasure

“حسابات اللذة على المكشوف”.

*****

خاص بأوكسجين