غرفة المرايا
العدد 147 | 09 آذار 2014
سوسن سلامة


حين أنير الضوء وكشف عن صورتهما في المرآة غير المتناظرة، لم تتمالك نفسها، فخرجت عنها ضحكة مجلجلة، وانثنت بكُلّيتها للأمام وهي تمسك بذراعه، المرآة التي كانت تعصرهما وتفردهما على التوالي في أشكال طريفة.

قالت له: تبدو جذاباً برأسك الذي يشبه رأس البصل.. 

وأضافت من بين ضحكاتها المتواصلة: أما أنا فكأنني من المريخ.

كان هو مبتسماً بانشراح وعيناه تبرقان بأفكار صبيانية شقية، وبدا متحرراً من تحفظه المعتاد، فما من داعٍ له في هذه الحجيرات المصطفة ضمن ممرٍ طولاني تسيطر عليه إضاءة شحيحة عموماً.

ظهرت الكلمات التي تعلو المرآة مُنارةً بنيون أزرق لتعنون هذه المرحلة: “النابض اللولبي” مترافقة بموسيقى ميكانيكية صاخبة تحث على الانتقال للحجرة التالية.

قال لها ممازحاً: تعالي لنكتشف أشكالنا في المرآة التالية، أظن أنك ستبدين مثل.. مثل.. آه مثل شاكر بائع الحمص… ذراعان طويلتان ورأس صغيرة و..

قاطعته بمرح: يعني أنت الذي ستبدو مثل براد بيت مثلاً! تعال يا سيدي لنكتشف..

المرآة التالية أظهرتهما طويلين ونحيلين بشكل مبالغ فيه فأخذا يتمايلان أمامها كما لو أنهما خيطان معلقان بالأرض.. خرجت الموسيقى المنبهة من جديد متبوعة بضحكة مهرج آلية قبل أن تنير اللوحة أعلى المرآة “انخفاض الجاذبية”.

كان عليهما أن يقفا في أماكن محددة في الحجرة التي انتقلا إليها، وأن ينظرا باتجاهين محددين لتجمع المرآة نصف وجهه بنصف وجهها في وجه واحد اختارا الحصول على صورة له، فقد بدا لهما لطيفاً جداً وأليفاً رغم التباينات في ملامحهما.

ومن ثم تكوم جسديهما كشوالي طحين معقودين عند الرقبة في مرآة “قطرة ماء”، وطلبا الحصول على صور لهما أيضاً في حجرة “أكسسوارات” التي أظهرت صورتيهما بقبعتين ووشاحين لا يرتديانها.

كانا يتسليان كثيراً في هذه الحجيرات الغرائبية التي نصحهما بتجربتها موظف الاستقبال في أحد فنادق المدينة التي يزورانها للمرة الأولى. وفي الحقيقة فقد كانت هذه رحلتهما الأولى معاً والتي جاءت كشهر عسل تأخر عشرين عاماً، بعد أن حملهما بعض الأصدقاء على القيام بها للتخفيف من وطأة سفر ابنتهما الوحيدة التي غادرت للدراسة في الخارج.

هو الذي يعرف العالم وحكايات المدن وتواريخها، رغم أنه لم يخرج من مدينته يوماً، كان يفخر دائماً بسعة اطلاعه وقراءاته المستفيضة في تاريخ وجغرافيا البلدان، ويناظر فيها ويضحد الكثيرين ممن لم يتركوا بلداً إلا وسافروا إليها.

وهي التي لم تحب يوماً تناول الأشياء بتجرد، بل الانغماس فيها وعيشها بكليتها، لم تتمكن يوماً من الخوض في أي أمر بعمق كما أرادت حتى زواجها وأمومتها كانا قد فُصّلا دون أي محيد على المقاس الذي رسمه زوجها بتحفظ وحساسية وبلطف أيضاً، واضعاً الكثير من الحواجز أمام عفويتها التلقائية ومقارباتها الحدسية للعالم حولها. 

تبددت حياتهما بين الملل والود والتباري في تسجيل نقاط الجدارة عندما يتعلق الأمر برعاية ابنتهما.. وتقلصت أوقاتهما الخاصة ككنزة صوفية مغسولة في ماء ساخن. كانا يلحقان ببعضهما بسرعة ثابتة حافظت على مسافة واحدة لم تقصر ولم تبتعد، وتحولا لوقت غير قليل إلى مراقبين يعد كل منهما على الآخر هفواته ويعاتبه فيها بحب وتعالٍ.. لعبةٌ غريبة استخدمتها ابنتهما الذكية لتكسب لنفسها كثيراً من المزايا، ولتطفش منها في النهاية عند أول فرصة أتيحت أمامها.

 

من جديد خرج الصوت الميكانيكي، طالباً الانتقال إلى الحجرة الأخيرة، وهناك حين أنير الضوء ضحكا من جديد، ضحكا كثيراً كلٌّ على مظهره.

 قال كمن يحدث نفسه: عجيب هذا الشخص الذي أمامي.. لا يشبهني في شيء.. يبدو كمسخ عجوز

فأتبعت: لابد أن عنوان هذه الحجرة هو “الغلاظة” .. أبدو ثقيلة الدم بشكل غريب.. أشعر أني أنظر إلى دجاجة سمجة…

لكن عندما أضيء النيون معنوناً  “وأخيراً إنها صورتك” لم يتبق إلا الصوت الميكانيكي للمهرج الدمية، الذي خرج أمامهما وهو يتمايل بضحكات مجلجلة مليئة بالسخرية. 

______________________________________

كاتبة من سورية

الصورة لفنان الغرافيك الإيراني رضا عابديني

*****

خاص بأوكسجين


كاتبة من سورية

مساهمات أخرى للكاتب/ة: