عيد زواج
العدد 238 | 24 تشرين الثاني 2018
مالك م. رابح


 

ستخبرنى أنك تخاف ذاكرتي، وأنا سأتلقى المُجاملة بصمت وابتسامة باهتة لأن الأمور لا تسير هكذا. أتذكر أنك شربتَ قرفة بالحليب أول مرة تقابلنا، وحين أخبرتُك عن طفولتى البائسة ضحكت ضحكة خائفة وتكونت بقعة على بنطالك الأبيض. لونك المفضل هو النبيذي، تُحب فيلم “الناظر” وتعشق فاتن حمامة، وفى السابعة من عُمرك حبسك أبوك في الدولاب ليلة كاملة لأنك شَخرتَ لأمه. هل أخبرتنى يومًا باسم الفتاة التى دشدشت قلبك بجاروف في سنتك الجامعية الأخيرة؟ أتذكر يا صاحبي بالضبط متى صححت لي أمي طريقتي في تقطيع ثمار الليمون بالسكين ونوع العصير الذى كانت علياء تشربه وهي تُطل للمرة الأولى فى حذاء مطاطي أبيض مُقدمته زرقاء، وبلوزة سماوية أعلى جينز أسود لونه كالحِجاب الذى تدلى أحد طرفيه على كتفها الأيمن. نسيم الصيف كان ناعمًا والكون يَغمزُني وابتسامتها المغزولة على نول الأمل والفرح خلقت مُدنًا من المَجازات المُلونة تحت جلدى حيث يستطيع الإنسان أن يعيش سلًامًا مُتصلًا أبديًا.

لكن / الأمور / ليست / دائمًا / هكذا /

صَباح اليوم، فى انتظار أن تُسلق بيضتان، وقفتُ جوار الموقد وفى فمي ماصّة لمس طرفها القاع الكرتوني لعلبة عصير برتقال مُلغمة بالسُكر. نَظرتُ إلى التوقيت في الهاتف ولمحتُ تاريخ اليوم، نصفي العلوي كان مغموسًا فى ذرات الغبار السابحة فى بحر الضوء الذهبي القادم من النافذة النصف مفتوحة. أطفأتُ العين الموقدة وأمام كنبة فى الصالة حشرتُ نفسي فى جينز أزرق وقميص أبيض وحذاء يهترأ. دفعتُ بقدمي القط حتى لا يخرج وقفلتُ باب الشقة ببطء وحذر. المصباح أعلى باب شقة مدام إجلال وأستاذ طارق كان مُضاءً وهُناك رائحة سجاد غرق فى مياه تَحتلُ المُحيط. أمي كانت تَقول إنني أُضَيّع الأشياء، أوقِعُ الأشياء وأسكبها، تحسستُ جيوبي بقَلق، محفظتي كانت هُناك بينما المفاتيح غائبة. لا يهُم، المُهم أنها ليست صاحية والحمد لله. لقد قُلت لك مَرتين أن الأمور لا تَسير دائمًا هكذا؛ إنه التاسع عشر من إبريل، عيد زواجنا، وأنا كُنت أمارس السباحة فى مياه البطيخ وناسيه.

الرجل فى محل الحلوى أخبرنى أن هُناك عماصًا فى عيني. لم يكُن معي مناديل فمسحتهما بأصابعي واشتريتُ كعكة شيكولاتة وفطيرة تُفاح بالقرفة كموج بحر هادئ تتحرك شفتاها وهى تَلوكها. الرجل وضع العلبتين فى كيس أبيض وقال لي مُبتسمًا وهو يمد يَده “حضرتك لسه في عُماص فى الناحية اليمين”.

كُنت كراقصة باليه مُصابة بالبارانويا على الرصيف ألتَفِتُ إلى اليسار حيث اعتادت أن تَمشي معي وتُشاور على المحال معلّقة على هذا وذاك.. “البليلة هنا زفت والراجل فى المكتبة عنده خمسين سنة وبياخُد نمر البنات الصغيرة، امتى هيقفل المحل الخره ده؟ والناس بقت شطافات حمام يا محمد يا ابني”.

تَهَدَل كتفاي حتى كاد الكيس أن يلمس الأرض أمام محل العطور. سألتُ بائع الصحف المُجاور “لو سمحت ماتعرفش المحل ده هيفتح امتى؟” ناوَلني “المصري اليوم “وقال لي “يعنى تقدر تقول ساعة كده يا أستاذ.”

قصدتُ كافيه صغير جوار ستاد بنها. جلستُ على كُرسي وطاولة تحت مظلة على الرصيف وطلبت دونات ملونة وقهوة بالبُندق، بملعقة واحدة حزينة من السكر.

النادل قال “قهوة بندق مظبوط”.
 رَفعت يدي وقُلت “لأ لو سمحت، معلقة واحدة سُكر”.

 لبس الرجل عباءَة الجدية على وجهه وقال” المظبوط هي مَعلقة واحدة سُكر”.

“آآه، تمام كِده، يبقى مظبوط”.قُلتُ.

خلع الرجل العباءَة وضحك “ولَّا معلقة واحدة سُكر؟”

الشَمس مُتحمسة تصفع قَفاي وأفواج من الطلاب بُلهاء من الكُليات القريبة يتدافعون في نظارات شمسية وأحذية متربة أمام مطعم سوري. فى شَفقة تَفَقدتُ العُلبتين المُحتاستين فى الكيس على الطاولة البنفسجية وعَدَّلتُ من وضعية المظلة بحيث يكون الظل بالكامل على الطاولة بينما أُسلق أنا فى الشمس. لم ينجح الأمر فطلبتُ من النادل أن يضح الكيس فى ثلاجة العرض الصغيرة. رفع حاجبه وقَال “لو في مكان هَحطهولَك حاضر.” لو فى مكان هَحطهولك؟ كَررتُها فى رأسي، ماشي يا عَم ماشي. أوقَعتُ المظلة وأنا أحاول إعادة الظل إلى الكُرسي، ضحكَت فتاة أمام صرَّاف المطعم المجاور حين سُكب قليل من القهوة عَلّى والكلمات المتكونة على جبين النادل الذى كان يُراقبنى كانت “انت إيه إللى خرجك من البيت النهارده بس يا حَاج؟”

طَلبتُ دونات أخرى وهربتُ فى الجريدة، لم يَكُن هُناك شئ مُهم يُذكر.

 

على الطاولة المُجاورة اشترك إثنان فى مُحادثة بيد أنهما يستمتعان بها

زي محمود بَكر كِده، قال أحدهما.

“مالهُ محمود بكر؟ “سأل الآخر.

“كان بيعلّق بطبيعتُه والدنيا فُل، يتكلم براحتُه مَحدش يقول لأ، يكلم الناس إللي كانت بتشرب سجاير فى البلكونة أو يقول لعّيب مكان لعّيب، باسم يوسف مكان باسم مرسي أو مايقولش أصلًا، ما بتفرقش. الدنيا كده كده ماشية. فى آخر سنة تعليق خدوه مش عارف فين وخلّوه يتكلم بسرعة ولهوجة، كإنه خايف إنه يغلط، راجل معدي الستين وعدالة السماء نزلت على استاد باليرمو وكُل حاجة بس ماتغلطش. قالوا له يمشي على قشر بيض وهو لابس جزمة سيفتي. فجأة الناس مابقتش تشرب سجاير فى البلكونات؟ طب هيعمل إيه الراجل إللي كان فى البلكونة وبيشرب سيجارة لما يرجع؟ محمود بكر مابقاش محمود بكر إللي كُنا نعرفه وبعدها مات.”

“المغزى إننا نبقى نفسنا ومانغيرهاش؟” سأل الآخر.

“يمكن؟ ويمكن المغزى إننا محتاجين نرتكب حماقات كتير، يمكن ما فيش مغزى أصلًا، أنا تافه يا عَم.”

نَظر الرجل نحوي فأخذتُ رشفة أخيرة من كوب القهوة ونَظرتُ بعيدًا. ثم جاءَت مُتسولة، طفلة لم تتخطَ الخامسة وضعت على كل الطاولات علب مناديل وأخذت تنتظر. كان شكلها مُنفرًا وغير مُتناسق، شعرها أصفر جربان وترتدي نظارة شبه مُهشمة. كانت تشبه مستر هايد. الرجلان على الطاولة المُجاورة أعطياها ما فيه النصيب ومُجند مُختال أمام ثلاجة العرض غمزها بعشرة جنيهات ولَبس وجهًا يُخبرنا أنه لا يُبالي وأمه أيضًا لا تُبالي. دعبستُ فى جيوبي، لم أجِدُ فكة. “الله يسهل لك، “قُلت. مَدَّت يدها وقالت “حاجة لله؟” بيد أنها كانت عازمة على شئ وبيد أنى كُنت أقطع عليها طَريق هذا الشيء.” قُلت “مش معايا فكة والله”. اقتربَت منى وعبثت بالجريدة المطوية وفَحَّت “حاجة لله؟”

“والله مش معايا فكة، هى خمسين جنيه أهى، مش معايا فكة، أغنيهالك؟”

“هات أفُكها.” قالت البنت وأخرجت كيسًا قُماشيًا صغيرًا من جيب الجلباب الملطخ بلون الشارع.

“تُفكيها؟” ضَحكتُ، “لأ مش عاوزك تُفكيها لي، اتكلي على الله، الله يسهلك.”

اقتَربَت مني ولم تُنزِل عينيها الغريبتين عن وجهي. أمسَكَتْ كوب القهوة وألقت بما تبقى منه فى وجهي وصدري وجَرَت.

“يا بنت الكلب.” صَرختُ وضحك الرجلان على الطاولة الأُخرى.

“كُنت اديها الخمسين جنيه” قال أحدهما.

“كان لازم تديها الخمسين جنيه” قالَ الآخر.

نَظرتُ إلى الطاولة وقلتُ “دي سابت علبة المناديل.”

“يمكن علشان عارفة إنك هتحتاجها،” قالها الرجلان معًا وضحكا معًا.

 

مَسحتُ حالي وتسللتُ إلى محل العطور. “يومك سعيد يا فندم” قال البائع هُناك.

قُلتُ في سُخرية ”بجد والله؟ فعلًا؟”

رماني باستنكاره الذى تضاعف حين سألته في “حاجة بين عينىي”؟

“حاجة؟ حاجة زى إيه؟”

“عُماص؟” وَضّحتُ.

تَردد قَبل أن يُجيب “لأ، بس فى حاجة سودا على خدك الشمال.”

أخرجتُ منديلًا من علبة المناديل التى تركتها مستر هايد ومسحتُ خدي الشمال ثم سألتُه “انتم فتحتم امتى؟”

“من حوالى ساعة كده،” أجاب.

لعنتُ في داخلي ألف مرة سنسفيل أم بائع الصحف.

“حضرتك عاوِز حاجة مُحددة ولا تحب أعرض لك مجموعة؟” سأل البائع الذي – خمنتُ – قد طَهق من أهلي.

“كان فى علبة لونها أزرق فضي كده، فى الصف التالت من تحت، كان جنبها إزازة جوّاها سائل أصفر.”

“ثواني كده أشوفها لحضرتك.” وتَحرّك الرجل.

أوقَفته وقُلت “لأ، هى مش بره دلوقتى، تقريبًا اتباعت.”

“طب حضرتك مش فاكر اسمها أو كان مكتوب إيه على العلبة؟”

لأ، أجبتُ، “كان فى كتابة بالأبيض. أصل مراتى من شهرين شاورت لي على العلبة بس أنا كانت دماغي مشغولة”.

أخرج البائع هاتفًا محمولًا وقال “معلش يا فندم أصلي جديد هنا، ممكن أتصل بخالد زميلي هنا وهو يعرف.

“مش مُهم”، تنهدتُ ثم طلبتُ منه أن يعرض عليّ مجموعة وخلاص.

 

أعطانى كيساً آخر. بائع الصحف يزعق فى زبون لم يُرجِع جريدة إلى مكانها، ومستر هايد تَهزُّ طفلًا صغيرًا فى شارع جانبي. كاد أن يراني زميل لولا أنني انزلقتُ بنعومة إلى صيدلية حيث اشتريتُ فرشاة أسنان ومنتوس مُقابل الإختباء لدقيقة. أخذتُ كيس الحلوى الأبيض من النادل العابس وأمام كُلية الهندسة كادت تدهمني سيارة ونفس الـ “انت إيه إللى خرجك من البيت النهاردة بس يا حاج؟” قرأتُها على جباه من قالوا لا حول ولا قوة إلا بالله.

المصباح أعلى باب شقة مدام إجلال وأستاذ طارق لا يزال مُضاءً ومُوسيقا مُبهمة مألوفة تتسرب بصعوبة من الباب. ضغطتُ زر الجرس، لَم تُجب علياء. ضغطتُ مَرة وأخرى وأخرى. وضعتُ الكيسين على الأرض. يَد تطرق على الباب والأخرى ترن الجرس، علياء؟ ناديتُ وكان بإمكاني سماع دبيب أرجل القط فى الجهة الأخرى من الباب. علياء؟ مدام إجلال فتحت بابها ورائي. التَفتُّ، كانت ترتدي مريولة مطبخ قديمة وفي يُمناها ملعقة وشعرهُا الأبيض أقصر من شعري. سألتني “أنت كويس يامحمد؟” نظراتها قلقة والطارئ على وجهها لم أتمكن من تَبين ماهيته. “الحمد لله،” قُلت، “أنا بس نسيت المفاتيح جوّه،”  “وعلياء” قطعت كلامي وعادت بسرعة إلى الداخل. قُلت “نور اللمبة إللى قدام الباب شغّال يا مدام إجلال” وعدتُ أخبط على بابي وأنا أُكرر “شغّال، شّغال شّغال يا مدام إجلال”. الموسيقا واضحة لكنني كنتُ محتارًا، القط يلف ويدور فى الجانب الآخر ومدام إجلال أَمسكتْ كتفي وقالت “خُد يابني، علياء الله يرحمها كانت سايبة معايا المُفتاح ده من أيام المصيف ونسيت تاخدُه، تقولش كانت حاسه إنك هتحتاجه.”

آآخ، كُنت قَد تذكرتُ وسألتني مدام إجلال “انت كويس؟” ويدها لا تزال على كتفى.

قلتُ “الحمد لله” وأخذتُ المفتاح من يدها، خبطتُ فَردَتيّ حذائي ببعضهما، حككتُ رأسي وقضمتُ من ظفر إبهامي الأيسر وسألتها “انت فاضية النهاردة بالليل انت وأستاذ طارق؟”

“في حاجة ولّا إيه؟” استفسرتْ.

ابتسمتُ خجلًا، “أصل النهارده المفروض عيد جوازنا” وتوقفت قليلًا قبل أن اُردِف “ومش عاوز أحتفل بيه لوحدي.”

أسر وجهها احمرار واختلاجات تتابع، كانت تبحث عن هواء وسَط قولها “طبعًا يا حبيبي طبعًا “ثم أعطتني ابتسامة حلوة دامعة العينين وهي تُغلق الباب. المصباح لا يزال مضاءً لكن الموسيقا لم تعد مُبهمة، بتعلق معاي اعلق، ما بتعلق ما تعلق. مش فارقة معاي؟ أليست هذه أغنيتك المفضلة لفيروز يا صاحبي؟ القصة مش هاي؟ مش قصة هاي؟

*****

خاص بأوكسجين