عن صداقات كاسترو مع عمالقة الأدب
العدد 204 | 17 كانون الأول 2016
إيميلي تمبل


رحل عن عالمنا رجل استثنائي حتى في صراعه المر مع المرض. أنهى القائد الكوبي الشهير فيديل كاسترو معركته الأخيرة هذه ليلفظ أنفاسه عن عمر يناهز الـ 90 عاماً نجح خلالها في قيادة بلاده تحت راية الثورة فترة طويلة من الزمن. لا يسعنا القول إن كاسترو ترك وراءه سمعة طيبة، لكنه بالتأكيد ترك إرثاً مربكاً انقسم الناس في الحكم عليه بين مناصر يمجد بطولاته الثورية ولاعن يشجب ديكتاتوريته الشرسة.

بالإضافة إلى تاريخه الثوري الطويل عرف عن كاسترو عشقه للأدب، فقد كان قارئاً لا يشق له غبار. قال غابرييل غارسيا مركيز ذات مرة عن علاقتهما:” ما يجمعنا هو صداقة فكرية”.

وقد ارتبط اسم كاسترو على مر السنين بالعديد من الشخصيات الأدبية التي جمعته بها علاقات تختلف ليس في مدى أهميتها فحسب، بل في مدى صحتها كذلك. 

نذكر هنا تاريخاً موجزاً عن علاقات كاسترو مع بعض أشهر الكتاب في عصرنا هذا، الناجحة منها والفاشلة، وحتى تلك التي لا تتمتع بمصداقية عالية.

 

فيديل كاسترو وإرنست همينغواي

من منا لم يسمع بالصداقة التي جمعت فيديل كاسترو وإرنست همينغواي؟ ألا تكفي كل تلك الصور الحميمة التي جمعتهما لتكون أصدق شاهد على صداقتهما؟  حسن، في الواقع تم التقاط كل هذه الصور الحميمة في يوم واحد، وهو اليوم الوحيد الذي جمع هذين الاثنين معاً، حتى أنهما لم يتبادلا فيه الكثير من الأحاديث.

ألقى جاكوبو تيمرمان الضوء على هذه الفكرة في ” ذا نيويوركر”: ” لم ينسجم ثوار تلك المرحلة مع همينغواي إطلاقاً، إذ لم تكن قضية كوبا تشغل حيزاً هاماً من تفكيره… يتولد لدى السائح في كوبا انطباع بأن همينغواي كان من أنصار فيديل كاسترو وجزءاً لا يتجزأ من ثورته، فيما لم يتمكن النظام على أرض الواقع من تأسيس علاقة متينة بين همينغواي والنظام الشيوعي الكوبي الذي أسسه كاسترو ، بالرغم من عدم المجاهرة بهذه الحقيقة بشكل صريح.

وماذا عن كل تلك الصور إذاً؟ اتضح أنه تم التقاطها كلها في يوم واحد، وهو أحد أيام أيار من عام 1960، حيث أجريت مسابقة لصيد السمك حينها على شرف همينغواي. كتب تيمرمان عن تلك الواقعة: “عدد هائل من الصور التقط في هذا اللقاء، وكلمات لا تستحق الذكر تم تبادلها فيه أمام الأشهاد، كلمات لا تتعدى كونها مجاملات شكلية.” على الأرجح كان جل ما يحاول همينغواي القيام به هو أن يصرف كاسترو عن مصادرة أرضه.

لذلك عندما تذهب في زيارة إلى تلك البلد، تذكر أن كل ما ستراه من أمور تشي بعلاقة قوية بين همينغواي وكاسترو هي بمثابة طعم لجذب السياح، (اقرأ: المال). في كل الأحوال، لا تدع هذا يثنيك عن الاستمتاع بكوكتيل الموهيتو الشهير.

 

فيديل كاسترو وبابلو نيرودا

صداقة هذين الاثنين كان من الممكن أن تكون، بل بالأحرى كان يجب أن تكون، لكنها للأسف لم تكن.

 يعتبر بابلو نيرودا، الذي كان شيوعياً بدوره (والذي شغل منصب السيناتور في الحزب الشيوعي التشيلي لفترة وجيزة)، من أشد المعجبين بفيديل كاسترو على وجه الخصوص، وعاشقاً ولهاً لكوبا على وجه العموم. في عام 1959 قام نيرودا بزيارة كوبا والتقى هناك كاسترو الذي كان يزداد قوة حينها. حصل ذلك اللقاء في مدينة كاراكاس، وقد ذكر نيرودا هذه الحادثة في مذكراته:

تحدث فيديل كاسترو لمدة أربع ساعات متواصلة في ساحة El Silencio الشاسعة التي تعتبر مركز كاراكاس. كنت واحداً من مئتي ألف شخص وقفوا ليستمعوا إلى تلك الخطبة الطويلة دون أن ينبسوا ببنت شفة. بالنسبة لي كما لكثيرين غيري، كانت خطب كاسترو بمثابة البوح الملهم. عند سماعه يخاطب الحشد بهذا الأسلوب، أدركت أن حقبة جديدة قد بدأت في أمريكا اللاتينية. أحببت النفس الحديث في لغته، إذ أن أفضل السياسيين والقادات العمالية كانوا يلجؤون إلى استخدام الصيغ والعبارات المعتادة نفسها والتي، وإن كان فحواها صالحاً بما يحتويه من أفكار، إلا أن مفرداتها أصبحت بالية ورثة لكثرة التكرار. تجاهل فيديل هذه الصيغ مستخدماً لغة واعظة لكنها فطرية. كان يبدو أن فيديل نفسه يتعلم أشياء جديدة عند مخاطبة الناس ووعظهم. 

يصف نيرودا أيضاً لقاءً سرياً جمعه بكاسترو بعد فترة من الزمن:

كنت بالكاد أصل إلى مستوى كتفيه. بخطوات سريعة تقدم نحوي وحياني: “أهلاً بابلو!”، قالها وذراعاه تطبقان علي في عناق يشبه عناق الدببة. فاجأني بصوته الصبياني البعيد عن الخشونة إلى حد ما. حتى مظهره كان فيه ما يشبه نبرة الصوت تلك.

لم يكن الانطباع الذي يتركه فيديل يوحي بأنه رجل ناضج، بل كان بالأحرى يشبه صبياً كبر فجأة، فنما جسده  قبل أن يتثنى له التخلص من وجهه الطفولي ولحية اليافعين المبعثرة التي كانت تكسو وجهه.

فجأة قطع عناقه لي بفظاظة واضحة وانتفض متحفزاً، قام بنصف استدارة واتجه بحزم إلى إحدى زوايا الغرفة. كان هناك مصور إخباري نجح في التسلل إلى الغرفة وتوجيه كاميرته نحونا من تلك الزاوية، ولم أكن قد انتبهت إلى وجوده من قبل. بحركة خاطفة واحدة تمكن فيديل من الوصول إليه والقبض على عنقه، ثم راح يهزه بعنف. سقطت الكاميرا على الأرض. هرعت إلى فيديل محاولاً التمسك بذراعه بعد أن شعرت بالهلع لرؤية المصور ضئيل الحجم يقاوم بلا جدوى، لكن فيديل دفعه نحو الباب بقوة جعلته يتوارى عن أنظارنا. استدار بعد ذلك نحوي مبتسماً والتقط الكاميرا عن الأرض، ثم رماها على السرير.

نشر نيرودا عام 1960 ديوانه Canción de gesta “أغنية مفخرة”. كان مجموعة شعرية تضمنت قصيدة بعنوان “فيديل كاسترو”، هي، كما تبدت لي أنا على الأقل، رسالة تحمل دعماً صريحاً وقوي اللهجة للقائد.

لكن كوبا أدارت ظهرها للشاعر بعد زيارة قام بها للولايات المتحدة عام 1966، والتي شملت دولة البيرو المعادية لكاسترو. في شهر تموز من ذاك العام قامت مجموعة من مفكري كوبا بتعميم رسالة تشهير قاسية تدين خيانة نيرودا لمبادئهم الشيوعية من خلال انضمامه لصفوف العدو، وذلك تنفيذاً لأوامر قيل أنها صدرت عن كاسترو نفسه. يعتقد كاتب سيرة حياة نيرودا، آدم فاينستاين، أن تفسير نيرودا لكتابة هذه الرسالة كان: ” لم يتقبل كاسترو التحذير شبه المبطن الذي وجهه نيرودا له (في قصيدته “فيديل كاسترو”) محاولاً من خلاله ثني القائد الكوبي عن تحويل نفسه إلى رمز مقدس من قبل جماهيره.” تملك نيرودا شعور بالإهانة والغضب، و أحس أن كاسترو قد كرهه بشكل شخصي، فلم يعد لزيارة كوبا أبداً بعد ذلك ، رغم أنه كان قد دعي إليها بعد سنتين فقط من تلك الواقعة.  

 

فيديل كاسترو وغابرييل غارسيا ماركيز

هذان الاثنان كانا صديقين، صديقين حميمين بكل معنى الكلمة. قال ماركيز في لقاء مع أحد المراسلين أجري عام 1977: “فيديل هو ألطف شخص عرفته في حياتي.”. أما كاسترو فقد صرح ذات مرة: “غارسيا ماركيز هو الرجل الأقوى نفوذاً في أمريكا اللاتينية.”. رغم أن الرجلين التقيا لأول مرة عام 1959، إلا أنهما لم يصبحا صديقين حقيقيين إلا بعد نشر رواية “مئة عام من العزلة” التي أثارت إعجاب كاسترو.

تقرب الاثنان من بعضهما لدرجة أن غارسيا ماركيز كان يعرض كل مخطوطاته على كاسترو ليقرأها قبل نشرها. ورد في كتاب عن صداقتهما* أن غارسيا ماركيز صرح مرة لمجلة Playboy بلاي بوي: “سبب ذلك هو أنه قارئ جيد جداً، يملك مقدرة مذهلة على التركيز، ودقة عالية في متابعة الأفكار. كان ينجح بسهولة في اكتشاف التناقضات الموجودة بين صفحة وأخرى في الكثير من الكتب التي قرأها.

… يتملك الشخص انطباع بأن هذا الرجل يحب عالم الأدب بحق، بل ويشعر بالراحة لدى تواجده فيه، كما أنه يستمتع بكتابة خطاباته بتأنٍّ وتروٍّ، والتي أصبحت تتكرر بوتيرة متزايدة في الآونة الأخيرة. قال لي مرة بنبرة لا تخلو من الحزن: “في حياتي القادمة سوف أكون كاتباً.” 

خلال تلك السنوات كان لا بد لغارسيا ماركيز أن يحصد بعض الغضب الناجم عن مثل هذه الصداقة. ذهب البعض إلى اعتبارها لطخة العار الوحيدة التي أمكن لها أن تلوث حياة ناصعة زاخرة بفكر وإبداع متقدين ، بالرغم من أن آخرين أكدوا على نجاحه في “تلطيف حدة بعض خصال كاسترو الأكثر قسوة” عندما كان يضطر إلى ذلك.

_________________________________

* (Fidel & Gabo: A Portrait of the Legendary Friendship Between Fidel Castro and Gabriel Garcia Marquez Paperback ) by Angel Esteban (Author)