عن المسرات الصغيرة
العدد 206 | 07 شباط 2017
هرمن هسّه


 

 

   إنَّ أعداداً غفيرة من الناس اليوم يعيشون حياتهم في خَدَر بليد خال من الحب. والحسّاسون يجدون أسلوبنا الباهت في الوجود ثقيلاً ومؤلماً، فيختفون عن الأنظار. وفي الفن والشِعر، وبعد تراجع عصر ازدهار المذهب الواقعي الوجيز، برز السخط في كل مكان، الذي كان أوضح أعراضه الحنين إلى عصر النهضة وعصر الرومانسية.

   تهتف الكنيسة “ما ينقصكم هو الإيمان”، ويقول أفيناريوس[1] “ما ينقصكم هو الفن”. ولعلهما على صواب. أنا أعتقد أنَّ ما ينقصنا هو الفرح؛ الاتّقاد الذي يمنحه الوعي الفائق بالحياة، تصوُّر الحياة كمنبع للسعادة، كاحتفال – أي، قبل أي شيء، ما يُبهرنا ويجذبنا في عصر النهضة. لكنَّ القيمة العليا التي نُحمّلها كل دقيقة من الزمن، فكرة الاستعجال بوصفها الهدف الأهمّ في الحياة، هي دون أدنى شك أخطر أعداء الفرح. إننا، ونحن نرسم ابتسامة حزينة، نقرأ القصائد الرعوية، وعن الرحلات العاطفية، والعصور الماضية. ما الذي لم يكن لدى أجدادنا الوقت لفعله؟ ذات مرة وأنا أقرأ مرثاة فريدريش شليغل عن الكسل لم يسعني إلا أنْ أفكر : كم كنتَ ستتنهد لو أنكَ تعمل بكدّ واجتهاد كما نفعل!  

   إنَّ من المُحزن ولا مفرّ منه أنَّ هذه السرعة العِدائيّة قد تركتْ أثرها الضارّ علينا منذ أيام الدراسة المبكِّرة. فوق ذلك، من المؤسف أنَّ ازدياد وتيرة سرعة الحياة الحديثة قد قضت منذ ذلك الحين على القليل من وقت الفراغ التي كان يتوفر لنا حينئذٍ. إنَّ أساليبنا في الاستمتاع لا تقلّ إثارة للغضب وتحطيماً للأعصاب من ضغط عملنا. والشعار هو “أكبر كمية ممكنة، بأسرع وتيرة ممكنة”. وهكذا يزداد الترفيه باطراد ويقلّ الفرح باطراد. وكل مَنْ شهِدَ احتفالاً كبيراً في بلدة أو مدينة أو قام بزيارة مرابع الترفيه في المدن الكبرى الحديثة سوف يحتفظ في ذاكرته بالانطباع المؤلم والمُنغِّص لتلك الوجوه المحمومة، والمشوّهة، بعيونها الجشعة. وهذا السعي المرضيّ إلى الاستمتاع، الذي يحثّه السخط المتواصل ويُشبَع على الدوام، يوجد في المسارح أيضاً، ودور الأوبرا، وقاعات الحفلات الموسيقية والمعارض الفنية. إنَّ زيارة معرض لوحات فنية لم تعُد تمدّ بأي قدر من السرور .

   حتى الثري من الرجال لا يُستثنى من هذه الشرور. ويمكن أنْ يُستثنى لكنه لا يستطيع ذلك. يجب أنْ تتكيَّف، أنْ تبقى au courant (على اطلاع)، أنْ تبقى على القمة.

   إنني كأي إنسان آخر ليست لدي وصفة ناجعة ضد هذه المساوئ. أود ببساطة أنْ أتذكر وصفة خاصة قديمة وأيضاً، ويا للأسف، غير رائجة على الإطلاق. إنَّ الاستمتاع المعتدل هو استمتاعٌ مُضاعف. وأيضاً: لا تتجاهل المسرات الصغيرة!

   إذن – الحل هو الاعتدال. وفي أوساط معيَّنة يتطلّب عدم حضور افتتاح حفل موسيقي شجاعة. وفي أوساط أوسع يتطلب عدم قراءة مطبوعة جديدة بعد ظهورها ببضعة أسابيع شجاعة. وفي أوسع الأوساط قاطبة، يتعرَّض المرء للسخرية إذا لم يقرأ الصحيفة اليومية. لكنني أعرف أشخاصاً لا يندمون على ممارسة مثل هذه الشجاعة.

   إذا استطعنا أنْ نجعل المُشترك في سلسلة مسرحية أسبوعية لا يشعر بأنه يفقد شيئاً إذا لم يطّلع عليها إلا مرة كل أسبوعين، أنا أضمن: سوف يكون رابحاً.

   فلنجعل شخصاً متعوداً على أنْ يتفرّج على عدد كبير من اللوحات في معرض فني يُجرِّب مرة واحدة، إنْ كان لا زال قادراً على ذلك، أنْ يقضي ساعة أو أكثر أمام تحفة فنية واحدة ويكتفي بذلك في يوم واحد. وسوف يكون رابحاً.

   فلنجعل قارئاً نهماً يجرِّب شيئاً مماثلاً. أحياناً سوف ينزعج لعدم استطاعته المشاركة في حديث عن كتاب معيَّن؛ أحياناً سوف يدفع الآخرين إلى الابتسام. ولكنه سرعان ما سيعرف ما هو أفضل ويبتسم هو نفسه. ولنجعل أي شخص لا يستطيع أنْ يستخدم أي وسيلة كبح نفس أخرى يحاول أنْ يتعود على أنْ يأوي إلى السرير عند الساعة العاشرة على الأقل مرة في الأسبوع، وسوف يُذهَل من حجم المكافأة التي سيحصل عليها من تقديم تلك التضحيات الصغيرة بالزمن والمتعة. إنَّ المقدرة على رعاية “المسرات الصغيرة” متصلة اتصالاً حميماً بعادة الاعتدال. لأنَّ هذه المقدرة، التي في الأصل هي فطرية عند كل إنسان، تفترض أنَّ أشياء معيَّنة أضحت مجهولة في الحياة اليومية الحديثة أو ضاعت تماماً، هي معيار رئيس للمرح، والحب، والشِعر. هذه المسرات الصغيرة، الموهوبة خاصة للفقراء شديدة الغموض ومبعثرة على نطاق واسع في أرجاء حياتنا اليومية بحيث أنَّ العقول البليدة لأعداد غفيرة من العاملين لا تلاحظها. فهي ليست بارزة، ولا تظهر في الإعلانات التجارية، ولا تكلِّفُ مالاً ! (الغريب في الأمر، أنَّ الفقراء بالذات هم الذين لا يعلمون أنَّ المسرات الصغيرة هي دائماً تلك التي لا تكلِّف مالاً)

   من بين المسرات المذكورة أعلاه تلك التي تمنحنا إياه صِلتنا اليومية بالطبيعة. إنَّ عيوننا، وقبل كل شيء العيون التي يُساء استخدامها، العيون المُرهَقَة للإنسان الحديث، يمكن أنْ تكون، فقط إذا شئنا، مصدراً لا ينضب للمسرَّة. عندما أمشي متوجهاً إلى مركز عملي في الصباح أرى العديد من العاملين الذين أيضاً زحفوا ولا زالوا ناعسين من أسرَّتهم، يهرعون في الاتجاهين، يرتعشون وهم يسيرون على طول الشوارع. معظمهم يمشون مسرعين ويركزون عيونهم على الرصيف، أو في أحسن الأحوال على ملابس المارَّة ووجوههم. ارفعوا رؤوسكم، يا أصدقائي الأعزاء! فقط جربوا مرة واحدة  – يمنكم أنْ تشاهدوا شجرة، أو على الأقلّ مقطعاً هائلاً من صفحة السماء. ولا ينبغي بالضرورة أنْ تكون سماء زرقاء؛ فبصورة أو بأخرى يجعل نور الشمس دائماً نفسه محسوساً. عوِّد نفسك في صباح كل يوم على أنْ تنظر قليلاً إلى السماء وسوف تعي فجأة وجود الهواء من حولك، عِطر نضارة الصباح الذي وُهِبَ لك بين النوم والكدّ في العمل. سوف تجد في كل يوم أنَّ قُبّة كل منزل لها شكلها الخاص، وإضاءتها الخاصة. أوْلِها بعض الانتباه وسوف تحصل على مدى ما تبقّى من النهار بقايا رضا  ولمسة من التعايش مع الطبيعة. وشيئاً فشيئاً وبدون بذل جهد تتدرّب العين على بثّ العديد من المباهج الصغيرة، وعلى التأمُّل في الطبيعة وفي شوارع المدينة، على استحسان المرح الذي لا ينضب في الحياة اليومية. ومن هناك وحتى العين البارعة المُدرَّبة جيداً تقطع النصف الأصغر من الرحلة؛ أما الجزء الأساسي فهو البداية، فتح العينين.

   مقطع من السماء، جدار في حديقة تتدلى منه أغصان خضراء، حصان قويّ، كلب وسيم، مجموعة من الأطفال، وجه جميل – لماذا نرغب في انْ يُسرَق منا هذا كله ؟ إنَّ كل مَنْ اكتسب البراعة يستطيع خلال فترة وجيزة أنْ يرى أشياء نفيسة من دون أنْ يفقد دقيقة من الزمن. زيادة على ذلك، إنَّ هذا النوع من الرؤية لا يُتعِب؛ على العكس، إنه يُقوّي ويُنعِش، وليس العين وحدها. إنَّ كل الأشياء لها جوانبها الحيوية، حتى التي لا تُثير الاهتمام والقبيحة؛ على المرء فقط أنْ يرغب في الرؤية .

   ومع الرؤية يأتي المرح والحب والشِعر. إنَّ مَنْ يقطف للمرة الأولى زهرة صغيرة لكي يضعها إلى جانبه وهو يعمل يخطو خطوة نحو السرور في الحياة.

   أمام المكان الذي أعمل فيه منذ وقت طويل مدرسة للبنات. وكانت غرفة درس لفتيات في العاشرة يقع فناؤها على جانبي من المبنى. في تلك الأيام كان لدي الكثير من الأعمال أقوم بها، وأحياناً أعاني من ضجيج الفتيات وهن يلعبن، لكنَّ كمَّ السرور والشوق إلى الحياة الذي تمنحني إياه نظرة خاطفة واحدة إلى الفناء كان يفوق طاقتي على وصفه. فتلك الملابس البراقة، وتلك العيون الحيّة، المرحة، والحركات العصبية، اللدنة، كانت تزيد من ابتهاجي بالحياة. وربما مدرسة لركوب الخيل أو مرتع للدجاج كان سيكون لهما الأثر نفسه. إنَّ كل مَنْ راقبَ ذات مرة عبث الضوء على سطح مُلوَّن بشكل متساوٍ، كجدار في منزل على سبيل المثال، يعلم مدى السهولة التي تقنعُ بها العين، وأي مصدر للسرور هي.

   تكفي هذه الأمثلة. لا بدّ أنَّ القارئ قد فكَّر من العديد من المسرات الصغيرة، ربما خاصة في مسرَّة مُبهجة كشم زهرة أو ثمرة فاكهة، أو الإصغاء إلى صوته الخاص أو إلى أصوات الآخرين، أو إلى ثرثرة الأطفال. ونغمٌ يُهمهَم أو يُصفَّر عن بُعد، وآلاف الأشياء الصغيرة الأخرى يمكن للمرء أنْ يصنع منها قِلادة برّاقة من المسرات الصغيرة  لحياته.

   نصيحتي لمَنْ يُعاني من افتقاره إلى الوقت ومن فتور الهمة هي ما يلي: ابحث في كل يوم عن أكبر عدد ممكن من المسرات الصغيرة، وادّخر باقتصاد المسرات الأكبر، والأكثر إثارة لأيام العطل والساعات المناسبة. إنَّ المسرات الصغيرة قبل أي شيء هي التي مُنِحَتْ لنا لتجديد النشاط، للراحة اليومية والتحرر من عبء العمل، وليس الكبيرة منها.

*****

خاص بأوكسجين

 

[1] – ريتشارد أفيناريوس (1843-1896) : فيلسوف ألماني-سويسري .                   – المترجم