عزلة محمولة على الأكتاف
العدد 167 | 24 شباط 2015
فاطمة المحسن


أخبرت صاحب المقعد المجاور بعد تحية قصيرة بأن له وجها يصلح أن يكون صديقا للجميع بخلافي تماما. وأجبته على سؤاله الضمني (لماذا) بأني حملت معي الأمل من يوم إلى آخر ولم يخطر ببالي أني قد أنساه على الطاولة وأنا أتفاوض مع القدر، وأني صفر لم يعد يحتمل ثقل حكايته التي بدأها ولم يعد قادرا على إنهائها، وبتّ أتسلى في عزلتي المحمولة على الأكتاف بصيد النوايا. وقد طال صمتي حتى صار الشق أسفل أنفي محاولة فم، وما عدت أحتمل أن أظل حبلاً مشدوداً بين أصحابي يعلّقون عليه لحظات قلقهم. بدا جادا عندما تمنيت فناء الجنس البشري بسرعة لأن الدخان كان محاولتهم الفاشلة في محاكاة الغيم، وأنهم بلا استثناء جبناء يتركون الأشجار ويقطعون ظلها. وافترقنا بعد أن طلبت من صاحب المقعد المجاور أن ينسى هذا الهراء لأني قد لا أتذكره مستقبلا .. ففيما يختص بذاكرتي المرتعشة لا شيء يبدو أكيداً.

 

***

كن يدا للعتمة

كن مغامراتها الملوّنة

كن حافتها المفضوضة

ومزاجها غير المروض

كن بطاقة تعريفية لليل

كن أرجوحته القلقة

كن مصفاته، كن عينه

كن ضوءاً لا يفكّر مرتين

ولا يقدر أن يتصرف بحذر

***

ما عاد الناس في المدينة الهادئة التي انقطعت سماؤها عن الأزرق يغادرون منازلهم، وأصبحوا متشابهين بزوايا فمّ مرتخية وعيون خرزية. في المدينة الهادئة تاقت الشوارع للحكايات التي تتدلى من النوافذ، وللنظرات الكسيرة التي تجرح الأغصان الطرية. تاقت لمشاكسة العابرين بدحرجة الحصى داخل أحذيتهم، ولظلال حيّة تقضي الوقت في تخمين أصحابها، ولأكياس النايلون، جمهور الهواء المراهق.تاقت لنداءات السيدة التي تشبه نبرتها نبرة سوسن بدر بصوتها المتزايد خشونة سنة بعد سنة لدرجة صار يمكن معها تسلّقه، لضحكات الصغار الرنّانة بلمعتها الحريرية الخالية من تعريجات العمر الطويل، لغزل الشبّان المزركش، وكلماتهم العجولة الطائشة الخفيفة النكهة والقليلة الخيبات.

***

لست كاتبة محترفة لأني لا آخذ ذاكرتي على محمل الجد، ولأن الكاتب صائد نوايا وأنا لا أجيد الصيد. ولست روائية فأنا لا أجيد الاستيقاظ مبكرة وتوزيع الرزق على الشخصيات .. نعم يمكن للكتابة أن تخلق لك شعباً لكنّها لن تخبرك ماذا تفعل به. ليس في الكتابة دعة، الكتابة نهش في كتف التفاصيل والفكرة الأصلية لا تجعلك تكتب بل تمحو.

***

كان تلك اللمعة المتكسرة على وجه الماء. كان برقا منفيّا في بحر جاهد طويلاً ليكون سماء. عاش حياته بعبارات مالحة حفظت روحه من التلف. سافر كثيرا وأرهقته المفارز لدرجة أنه حسد السمك السابح في النهر الممتدّ كعرق نحيل بين بلدين لأنه في لحظة ما ودون أن يدرك يحمل جنسية أخرى. كان يبحث عن عالم يخصه وحده حتى لو كان هذا العالم جحيماً، لكنه اكتشف أن حتّى جهنّم طريقها شاقّ ووعر حيث يعترضك الكثير من الناصحين. بحث عن زوايا في الأرض تنفي عنها كرويتها وتعفيه من حتمية العودة إلى مكانه الأول. لكنه رغم سفره الطويل لم يصل إلى أي مكان فقد كان يحمل المسافات في رأسه. يرى دائما أفقا بطرفين مرتخيين عاجزين عن لفّ خصر الدنيا ولكنه لم يعرف أبدا كيف تسللت تلك السيريالية إلى عينيه. ظلت أحكامه غائمة، فدائما كان فزّاعة الحقل التي لا تعرف أبدا ماذا يحدث خلفها، وكان ينسى لأن النسيان أمر لا يمكن الانتباه له، ولا يمكن التقاطه في صورة .. ينسى لأن النسيان ليس فعلا على الإطلاق حتى أنه نسي لم سافر أصلا. وعندما عاد ظن أنه سيجدهم بانتظاره،لكنّهم تبعوه.

***

البحر هذا العظيم المقعد لم يسافر أبداً، وبكل ما فيه من اتساع وعمق يحسد الشجرة على ظلها.

***

نجلس أنا والحياة على كرسيين متقابلين، وهذا الوضع محرج لكلينا.

***

سيكشف أسراره يوما ما؛ الصدأ، طفيلي الحديد المزعج، وكيف يولد فنانا بالفطرة.

***

فناني المفضل؛ تشكيلات الجفاف في فنجان القهوة شبه الفارغ.

***

أمدّ يدي لألمس كل ما تراه عيني حتى لو كان غيمة. لا زلت وبعد كل هذا العمر أظنّ أن المسافة مجرّد فكرة.

_______________________________

كاتبة من السعودية

النصوص من كتاب صدر أخيراً عن “منشورات ضفاف” بعنوان “أقصر طريق لحل المتاهة”.

اللوحة للفنان التشكيلي السوري الدكتور غسان السباعي وقد رحل منذ أيام (1939 – 2015)

*****

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: