عزلة حافلة المسافات الطويلة
العدد 248 | 04 تشرين الأول 2019
ماثيو بيكر


 

لا زلنا على متن هذه الحافلة  منذ سنوات . الحافلة حديثةٌ ذات طابقين، و سُلّمٌ ضيّق . تتسع لمئة راكبٍ بالضبط إضافة إلى سائقَين اثنين. لكل واحد منا مقعده الخاص، و يوجد فوق كل مقعد قابس ضوء، و فتحة تهوية تُستخدم  للتبريد أو التدفئة حسب الطقس.

يوجد أسفل كل مقعد مأخذ لجهاز شحن الهاتف المحمول، و مساحة إضافية تكفي لحجم حقيبة الظهر. الوسائد على المقاعد عليها نقوشٌ متنوعة، تذكّرنا بسجاد صالات السينما القديمة. لم تكن الحافلة مريحة ، لكنها ليست غير مريحة أيضاً، ولم تكن فَسيحةً و لا ضيقة . 

 

كان نصف الحافلةِ ممتلئاً، في مقدمة الحافلة سلة مهملات تُلقى فيها لفافات الطعام و قشور الفواكه بعد كل وجبة، و في مؤخرتها دورة مياه فيها مرآة تُستخدم لوضع المساحيق صباحاً وإزالتها مساءً. إنّنا ننام في المقاعد متوسدين مناشفَ مكومة، و أحياناً نتوسد سُتراً منفوخة بحشوات قطنية أو سراويلَ فضفاضة. كثيراً ما يحدّقُ بنا الناس قبل اجتيازهم لنا بسياراتهم على الطريق السريع.

 

لم يولد أحد منّا في الحافلة،  اختار كلّ راكب أن يستقلها، ويصعد إليها في محطة الحافلات؛ سواء في شارع عام يغمره الضباب، أو طريق مُغبِر، أو آخر مشمس، أو مفترق طرق ممطر، مجتازين ممرها باندفاع، مسترقين النظر إلى سائر الركاب.

كنا و لا زلنا هنا منذ ذلك الحين..

 

أحد ركاب الحافلة رجلٌ مسنٌ – يضع نظارة بنقشة درع السلحفاة، و يُعرف بولعه بحلوى الكاراميل المملح – أصيب قبل عدة أشهر بانسداد في الشريان التاجي فتوفي و هو على سلم الحافلة وتنائرت قطع الحلوى على درجاته. ثم حُمل بعيداً في تلك الليلة من قبل المسعفين الطبيين. و عدا الرجل المسن فإن أحداً منَّا لم يمت على متنها.                

 

لدى كل راكبٍ تذكرة ، مطبوعٌ عليها بأسلوب “الميتاليك” عنوان الوجهة المقصودة أسفل اسم الشركة.  بعض التذاكر أطرافها مهترئة أتلفها الكشط المتكرر، أما الأخرى تبدو بحالة جيدة فقد وُضعت بعناية داخل المحافظ.

 

شَهِدنا عبر السنوات التي أمضيناها – و ما زلنا-  داخل الحافلة، مختلف المناظرمن خلال النافذة، ناطحاتُ سحابٍ تلمع في مدن ذات شوارعٍ بديعة، وقرى بمناظر خلابة، وأخرى عَتيقة وعجيبة، وجبال وعرة مغطاة بالثلوج تَخضبُ بالزرقة وقت الغسق، وتلالٌ عشبيةٌ متموجة تصطبغ بلون وردي وقت الشفق، والندى المتلألئ في السهول، والضباب الذي يطفو عبر المستنقعات ، ونساء بالبكيني يتشمسن متمددات على شواطئ رملية، وراكبوا أمواج مرتدين بدلات الغوص يجلسون فوق قمم صخرية، وسحبٌ سوداء تتلامع خلفها وميض البرق، وحبات بَرَد تتساقط على شارع من المظلات المفتوحة، وثلج يهمي على جموع تكسوها معاطف وقبعات الفرو، وفرق موسيقية بزي موحد تسير في مواكبَ استعراضيةٍ مذهلة، ومغامرون يهتفون على عربات الكرنفال، وصيادون يصطادون السمك على أرصفة الموانئ التي تقشرت من محار البرنقيل الملتصق عليها، وجموع من راكبي يعدون عبر المزارع المكشوفة للريح ، ومقامرون يتدفقون نحو الكازينوهات ذات الأضواءِ الساطعة ، وضوء الشمس المتألق عبر الزجاج اللامع  في المقطورات المترامية بشكل عشوائي، ونجومٌ تتلألأ فوق بحيرات زجاجية تعجُّ بأكواخٍ متهالكة، وأطفال يتسلقون جرارات صدئة قرب منازل ريفية عائلية، وبيوتٌ صغيرة تبدّلت جرّاء المناخ؛ والأطفال حولها  يتمايلون على أراجيحَ شبكيةٍ معلقةٍ بين الأشجار، ومنازل فارهة في الضواحي وأطفال يتقافزون على “الترامبولين” في الأفنية، وأشخاصٌ يقفون بجانب صوامع الغلال، وآخرون يتجولون حول أبراج المياه، وأسطح تزلج مقوسة، ومنحدرات تزلج مُزيّنة برسومات وخربشات غرافيتي زاهية، وجسور سكة الحديد تكتسيها أعشاب القنب المزهرة، وألعابٌ نارية، وأقواس قزح، ولوحات إعلانية شاهقة. الجَلَبة خارج الحافلة مكتومة، وفي داخلها هدوءٌ عميق ؛ فالأحاديث تمضي على شكل تمتمات خافتة.

نضعُ سماعات الأذن عندما نريد سماع الموسيقى، لا يتم تشغيل أي موسيقى باستخدام مكبرات الصوت في الحافلة، و نادراً ما يقوم سائقو الحافلة بالإعلان عن شيء، فهم يقومون بذلك فقط عندما تستعد الحافلة للتوقف عند محطة وقود أو استراحة المسافرين. يُذاع الإعلان مرة أخرى حين يحين وقت المغادرة. يبدي كل فردٍ منا اهتماماً ملحوظاً عند اقتراب وقت الإعلان، شعورٌ من الإجلال و المهابة يخالطه شيء من التوتر.

*       *       *       *       *

 

تتوقف الحافلة في كل محطة لمدة ساعةٍ كاملة، نغادرها على عجل فور فتح أبوابها، وتلك هي المساحة الزمنية الوحيدة المتاحة للاستحمام، والتوجه إلى الحلاق، وغسل الملابس، وشراء الطعام وأدوات العناية الشخصية والأدوية، ولهذه المحطات أن تكون وسيلتنا الوحيدة في التواصل مع العالم الذي نرمقه من نوافذ الحافلة، وهي تجربة عظيمة، لا بل خارقة.

وبعد سنوات من التنقل المستمر أمسى  الوقوف مربكاً..كسكون التمثال، تتوقف الحافلة لتعبئة الوقود في المحطة، و نحن ننظر محدقين في قطع الحلوى الملونة، أو المكسرات المملحة أو المثلجات أو النقانق التي تتقلب يمنة و يسرة خلف الزجاج البراق.

تجرش صانعة السلاش الثلج بغرابة، و يهمهم موزع المشروبات الغازية ، بينما يثرثر أناس عاديون ويضحكون معاً في الممرات، ونبتسم لهم ونحن نشتري حاجياتنا، وكلنا توقٍ جامح لشيء من الوصل، للاحساس بالألفة، في توقٍ للرفقة.

ورغم سعينا أن نبدو لطفاء إلا أننا نشعر أن الابتسامات مخيفة وتشع ألماً و يأساً.

 

 لم يكن أحدٌ منا مجبراً على ركوب الحافلة، فليست لدينا أية التزامات، و نستطيع الرحيل متى ما شئنا، و بإمكاننا الانضمام لأي من هذه المجتمعات المستقرة السعيدة، لكننا إذا قمنا بالتخلي عن الحافلة فهذا سيعني أننا لن نصل أبداً إلى المكان الذي ستذهب إليه الحافلة. إن إمكانية بلوغنا هذه الوجهة المنشودة تستحوذ على تفكيرنا. بعد أن نلقي نظرة أخيرة على محطة الوقود ،أوالاستراحة ، نعود أدراجنا الى الحافلة لنستقر في مقاعدنا، بقلوب ملؤها الإحباط و الحماس..  زمجرة محرك الحافلة تعيده للحياة. تُقفل الحافلة عائدة إلى الطريق السريع، و نحن ننظر من النوافذ محدّقين في أضواء الفلورسنت وهي تتوهج بضبابية ،كما نحدّق في مصابيح السيارات الأمامية و الخلفية، ولافتات النيون الساطعة.  قد لا تصل الحافلة قط، نعلمُ ذلك جيداً. لكنها قد تصل. إننا مُبتهجون؛ بل نكاد نطير من الفرحة، لما تعدنا به هذه التذاكر التي بحوزتنا، لا بل إن عثورنا على هذه الحافلة هو معجزة بحد ذاته.  قبل عدة أيام، و في الوقت المخصص لخروج الحافلة من موقف خاص بالشاحنات، سَرَت همهمات بين الركاب و شهَقات و صيحات عشوائية، التفتنا جميعاً بذهول إلى النافذة لنرى إحدى الراكبات وقد تأخرت دقيقة واحدة تندفع مسرعة من بوابة موقف الشاحنات، ، بشعرها الذي لا يزال مبلولاً من أثر الاستحمام، مرتدية سروالاً قصيراً و حمالة صدر و فردة “شبشب” واحدة. أخذت تركض خلف الحافلة رافعة يديها ملوحة و متوسلة أن نعود،إلى أن تعثرت بحافة الرصيف ووقعت عليه وهي تهز رأسها متحسرة وتمسك صدرها منتحبة، بينما تشاهد الحافلة تتلاشى أمامها، ونحن نحدق ملياً فيها وقد أمست جزءاً من خلفية المشهد.

تِلك النظرة المريعة الطافية على وجهها، وقد أيقنت بأنه هُجرت، هي أكثر ما نخشاه في هذا العالم.

*****

خاص بأوكسجين