طفولة تكبر على أعتاب محطة ‘اللواجات’!
العدد 264 | 14 أيار 2021
هيلان الماجري


 

     قبل أن أستلف من الشّاعر أحمد رامي كلماته “الحزن أدبني وهذب خاطري وأنالني أفق الخيال السامي”، لأن المرحلة مرحلة حزن متواصل منذ أن حملت رياح التغيير ذات جانفي 2011 الأمل بولادة غد أفضل، ليتبيّن لنا بعد عشر سنوات من إسقاط آخر أوراق النظام السابق في خريف عمر قبضته الأمنية الخانقة، أنها مجرّد أحلام لثائر طائش أراد أن يصنع من العاصمة تونس نسخة أخرى من هافانا كوبا، علّ روح العظيم والرفيق 'غيفارا' تحلق فوق سماءها وتردد أن الأغبياء لازالوا يعتقدون أن الثورة قابلة للهزيمة، ولثائر آخر رغب في إيجاد انسانيته داخل وطن امتهنت طبقته السياسية التنكيل بكل فرصه للنجاة، أود أن أكشف الغامض _لمن لا يفقه لثنايا العامية التونسية أسرارها_ عن آخر كلمات هذا المقال أو النص كما تشاء الرغبة لديكم في تسميته.

 'اللواجات' كلمة في صيغة جمع لكلمة 'لواج'، اسقطت عن معجم اللغة الفرنسية واستنسخت معربة عن كلمة هي ليست الأولى في سلسلة كلمات من الإرث اللغوي والثقافي للاستعمار الفرنسي في تونس، وهي كلمة “Louage “. بشكل وجيز، هي وسيلة تنقّل متمثلة في سيارة أجرة معدة لنقل 9 أشخاص بإحتساب السائق، يستأجروها الركاب بقطع تذاكرهم من محطة أعدت للغرض مقابل مبلغ من المال، فيؤمن لهم سائقها السفر من ولاية إلى أخرى…   

  أعود للحزن.. الطقس المضاعف والمستمر الذي بات يخيم على كامل جهات الوطن، والذي لمحته طاغيا بكل جبروته على وجه طفل وحيد حين كنت أقتطع تذكرة 'اللواج' التي سأستقلها للذهاب إلى عملي من ولاية سوسة إلى ولاية المنستير، صباح الرابع من شهر جوان/يونيو 2020. لا أذكر التاريخ لأجل إضفاء رشة الصدق على القصة، بل لأن هذا التقويم يوافق أول خروج لي من البيت بعد أول حجر صحي شامل فرضته السلطات في البلاد لمدة ثلاثة أشهر تقريبا. فترة توقفت فيها عجلة الحياة عن الدوران إلا فيما ندر، أول مصافحة للشمس ولنسيم الصباح وإعلان عودة لروتين حياة مملة يبدأ بالذهاب إلى العمل ويتنهي بالعودة منه، فقط بعض من التغيير قد طرأ على تفاصيل هذا اليومي إذ باتت الكمامة ومعقم اليدين أصدقاء يشاركوننا هراء العيش على حد الهامش وضيوف غير مرحب بهم. تاريخ لن يغادر ذاكرة كل الذين عايشوا رواية 'كوفيد -19″ وكانوا من شخوصها الذي استمدوا وجودهم فيها من ظل واقعهم المادي والحقيقي.

   رأيته.. يصارع الخوف من التقدم خطوة نحو داخل المحطة، يقف حذو الباب الخارجي وكل خجل العالم جاثم عند قدميه. يحمل بين يديه كيسا أسود وبعض علب البسكويت والعلكة. أردت أن أذهب صوبه وأن أعرف سبب الخوف الذي يعتلي وجهه إلا أن لحظة التوجه إلى العمل قد حانت ولا فرصة لدي بإضاعة مزيد من الوقت، حتى لا يسجل في دفتر 'الروبوت العامل' إخفاق تقني آخر يكلفي آخر انذار في ما تبقي لي من تحذيرات الغياب والتأخر عن مكتبي، أو أن يقطع لي يوم عمل من الأجر الشهري.

   طفل قصير القامة بشعر طويل مجعد وملابس أشبه بملابس فادي بائع الحليب، تلك الشخصية الكرتونية التي تأثرنا بقصتها ونحن صغار، وتعلمنا منها أول دروس الحياة وهي إن هذه الأخيرة ليست على قدر كبير من الطيبة والعطف حتى أنها لا تلين نحو أكثر فئات المجتمع هشاشة. على امتداد ساعات عملي ظلت صورته تلك تعانق ذاكرتي ولا أدري علة هذا التركيز وفرط الإنتباه لطفل ليس بالوحيد الذي امتهن بيع العلكة والبسكويت داخل المحطة. مئات بل آلاف الأطفال _ في ظل غياب أرقام رسمية تقدر أعدادهم_ الذين انتشروا فجاة في كل شوارع تونس وكأن يدا سحرية ضغطت على الزناد فانفجروا في كل الزوايا وفي كل الأرجاء، عند منعطفات الطرقات والشوارع الكبرى، في الأزقة والأنهج الضيقة، في الساحات العامة وبعض الأماكن الخاصة، في المدن الكبيرة والصغيرة، فرادى وفي مجموعات، برفقة أمهاتهم أو دونهن.. لا إجابة تفسر هذا، ولكن ربما هو انفجار حالة التعتيم الإعلامي التي فرضها النظام السابق قبل الثورة، والذي كان بموجبها ملف 'أطفال الشوارع' واحدا من جملة ملفات الكبرى كان يمنع الحديث فيها وتسليط الضوء عليها، وكان يرفض حتى تسميتهم بأطفال الشوارع ويكتفي بوصفهم بالأطفال المهددين أو أطفال في الشوارع بمعناها العام والفضفاض. بعد الثورة ورغم أن شوكة النظام قد كسرت فكسر معها حاجز الصمت والمنع، إلا أن التعاطي الإعلامي والحقوقي والتشريعي لم يكن على قدر من الأهمية والجدية، وأما الحديث عن هذه الظاهرة فلا يتجاوز كونه مؤشرا من مؤشرات النمو.

  صباح اليوم التالي لاحظته أيضا بذات الحزن وكيس أحلامه الأسود. لم أشأ أن أقترب منه، بل مررت بجانبه دون أن يطلب مني أن أشتري بسكويته ودون أن أطلب منه أن يبيعني إياه، لكنه انتبه إلى نظراتي المصوبة نحوه، ربما شعر أنه في محل تتبع منذ صباح الأمس فابتسم لي ثم أمال وجهه إلى جهة اليسار فتوارت شهقة شمس الصباح عن أنظاري. السابعة والنصف من صباح اليوم الثالث عند باب المحطة ألقيت نظري حولها غير أنه لم يكن هناك. حين هممت بالجلوس في المقعد الخامس لسيارة اللواج شعرت أن أحدهم قد شدني من حقيبتي اليدوية. التفت لأرى وجه ذاك الطفل يقول لي “تشري كلوروفيل؟” رددت له الإبتسامة بمثلها وأخذت منه العلكة مقابل مبلغ قليل جدا من المال والكثير من الخجل من يدي الممدودة لجنة البراءة الحزينة الخائفة.

في المساء وأنا أغادر أسوار المحطة كان يجلس على قطعة آجر تحت حائط المدخل الأول للمحطة.. كريفي ينظر نحو الأفق بعد أن أتم عدَّ خرافه عقب قضاء يوم صيفي في التجول عند الحقول والمرح بين الوديان والتلال. أخذتني خطواتي نحوه حتى أشاركه مجلسه كإبنة بارة لريف الوسط التونسي وأبادره بالقول:   

– ما اسمك؟ 

-…..

-وأنا أيضا انزعج لو طلب مني أحدهم أن أكشف له عن اسمي…  ولكن أحب أن ينادونني هيلان.. ألا يبدو جميلا؟ أمي تحبه…

-….

بعد عدة محاولات فاشلة في التودد له أخبرني أن اسمه و.ب يبلغ من العمر أحد عشر عاما. فقد أمه نتيجة إصابتها بمرض يستصعب لسانه نطقه لكن من المباح له لا بل يليق به وصفه باللعين والخبيث. أخبرني أنه يكره ذاك المرض كما يكره القدوم إلى المحطة لبيع العلكة. له ثلاثة أشقاء أصغر منه وأخت أكبر منه، تبيع المناديل الورقية في الشتاء وفي الصيف تبيع المشموم أمام ساحة 'سيدي يحي' وسط المدينة. أذكر أنني رأيتها هناك سابقا مرتين أو أكثر. لا أبا له أو هي علاقة أبوة/بنوة مع وقف للتأجيل ورفع إلى أجل غير مسمى حيث يقبع والده في واحد من السجون الصغيرة للبلاد لإرتكابه جرم سرقة وتعد على أملاك الغير _هذا ما استنتجته وسط موجة الكلام والثرثرة التي فاجئنى بها_. والده مقيد وهو حر في سجن البلاد الأكبر، هنا حيث محطة لا تهدأ وشوارع لا تنتبه لطفولة تغتال على أبوابها. كان يروي كشاهد عيان وبطل مسرحية درامية لم تنتجها بعد ماكينة 'برودواي' و 'ويست أند'. وأكثر ما يثير مخاوفي وما يصيبني بحالة هلع، التفكير بأن قسوة الحياة قادرة على ختمها بمشهد انتحار 'ويلي' وجنازته اللاحقة، تماما، كما أسدلت الستارة عن آخر مشاهد مسرحية آرثر ميللر 'وفاة بائع متجول'.

 

 حدّثني فيما حدّثني عن رغبته في أن يقضي جل وقته في المدرسة بين أترابه وصديقاته بدل أن يطوف حول اللواجات عارضا بضاعته على قارعة الرغبة لمن تسمح له المليمات في جيبه وارتفاع منسوب الإنسانية في قلبه، بأن يضحي بها مقابل علكة خضراء لا تسمن من جوع، أو علبة مناديل ورقية أخف من الهواء. لا يرغب في أن تتوالى السنوات أمامه دون أن يصيبه من التغيير الشيئ الكبير وأن يظل ظله متسمرا في مكانه وسط المحطة لا يبرحه. أو أن يمر شتاء اخر وهو على حاله دون حذاء يقيه صقيع الشمال المنفي إلى الساحل ودون أن يتغير لون جلده الأزرق إلى الأحمر القاني لحظة الشعور بالدفء والشبع.. أن يصير يوما ما يريد.

هي هكذا.. بعض من ملامح الطفولة في بلدي وحكاية من مئات الحكايات التي اختصر نجيب محفوظ معاناتها وعذاباتها بالقول “أحلام الأطفال قطعة حلوى، وهذا الطفل يبيع حلمه.”

*****

خاص بأوكسجين

 

 


كاتبة من تونس.