صيف ما بعد الحرب 2/2
العدد 234 | 01 آب 2018
كازو إيشيغورو


“آه صحيح”، قال جدي في نهاية الأمر: “أتذكر الآن. كان ذلك في زمن الحملة على الصين. كان زمناً عصيباً على الأمة. كان من غير المجدي الاستمرار في العمل كما كنا في الماضي”.

 

“لطالما خالفتك الرأي يا معلمي. وهذا مدّني بالقوة جراء ذلك، وواجهتُك بذلك، وجهاً لوجه. وكل ما أطلبه منك الآن هو أن تقرّ للجنة ببساطة بهذه الحقيقة. فقط أخبرهم بدايةً بوجهة نظري، التي ذهبتُ فيها إلى حد الاختلاف معك علانية. وهذا بالتأكيد أمر غير معقول يا معلمي”.

 

ساد صمت قصير، ليقطعه جدي بقوله:” لقد استفدْتَ كثيراً من اسمي حين كان له وقع وصدى. أما اليوم فالعالم له رأي مختلف عني، عليك أن تواجه ذلك”.

 

عاد الصمت مجدداً لبعض الوقت، ثم تمكنتُ من سماع صوت إغلاق المنخل وانزلاقه.

 

لم ألحظ عند العشاء أي إشارات خلاف بين جدي والزائر، فقد كانا يتصرفان بأدب جم تُجاه بعضهما البعض. وفي الحمام المليء بالبخار مساءً، سألت جدي: “أوجي ، لماذا لم تعد ترسم أبداً”.

 

التزم الصمت بدايةً، ثم كسرهُ قائلاً: “عندما ترسم أحياناً لوحاتٍ ولا تسير الأمور كما ينبغي، ألا تشعر بالغضب؟ حتى أنك تريد تمزيقها، وعلى أوجي منعك، أليس ذلك صحيحاً؟”.

 

قلت: “أجل”، وانتظرت. بقيت عيناه مغمضتين، وصوتُه بطيئاً ومُجهَداً. “ومثل ذلك حصل مع جدك تقريباً. لم يقم بالأشياء كما ينبغي، لذلك قرر أن يتخلى عنها”.

 

“لكنك تقول لي دائماً ألا تمزّق لوحاتك، بل أرغمتني دائماً على إنهائها”.

 

“هذا صحيح، لأنك لا تزال شاباً يا إتشيرو، وستصبح أفضل من ذلك بكثير”.

 

في صباح اليوم التالي، كانت الشمس تغطي الأرجاء عندما خرجت إلى الشرفة لأراقب جدي. جاء صوتٌ من خلفي بعد فترة وجيزة من جلوسي، ليظهر الزائر مرتدياً ثوب كيمونو داكناً. سلّم عليّ، وعندما لم أرد، ضحك وتخطاني باتجاه حافة الشرفة. رآه جدي فتوقف عن ممارسة الرياضة.  

 

“استيقظتَ مبكراً جداً. أتمنى أن لا أكون قد أزعجتك”. قال جدي وهو ينحني ليلف حصيرة القش.

 

“لا على الإطلاق يا معلمي. لقد نمتُ جيداً. من فضلك لا تدعني أوقفك. كانت نوريكو سان تخبرني بأن هذا دأبك كل صباح صيفاً وشتاءً. إنه أمر مثير للإعجاب. من فضلك لا تتوقف، أنا متأثر جداً. لقد عقدتُ العزم أن أستيقظ هذا الصباح لأرى ذلك بأم عيني. لن أسامح نفسي أبداً إذا تسببتً في تغيير روتين معلمي. أكمل من فضلك يا معلمي”.

 

واصل جدي في النهاية تمارينه بجو من الإحجام والتردد، وكان من ضمنها الهرولة في المكان. توقف مرة أخرى على الفور قائلاً: “شكراً لك على صبرك. هذا بالفعل ما سأفعله هذا الصباح”.    

 

“لكن يا معلمي ستخيب ظن السيد الصغير هنا. سمعتُ أنه يستمتع كثيراً عندما تقوم بتدريباتك وحركات الجودو. أليس كذلك يا إتشيرو سان؟”

 

تظاهرت أني لم أسمع.

 

“لا ضرر إن لم أقم بها هذا الصباح”. أجاب جدي: “لنذهبْ إلى الداخل وننتظر وجبة الفطور”.

 

“لكن سيخيب ظني أيضاً يا معلمي. كنت أتمنى أن أتذكر براعتك الفائقة. هل تذكر أنك حاولت مرة أن تعلمني الجودو”.

 

“حقاً؟ نعم يبدو أنني أتذكر شيئاً من هذا القبيل”.

 

“كان موراساكي وإيشيدا معنا في ذلك الوقت، في تلك الصالة الرياضية في يوكوهاما. ألا تذكر ذلك يا معلمي؟ عندما حاولتُ أن أصرعك، لأجد نفسي ممدداً على الأرض. لقد انزعجتُ للغاية بعد ذلك. هيا يا معلم. أنا وإتشيرو نرغب في رؤيتك تقوم بتمارينك”.

 

ضحك جدي ثم رفع يديه. كان يقف بارتباك وسط الحصيرة: “في الواقع لم أعد أمارس تمرينات قاسية منذ فترة طويلة”.

 

“أنتَ على دراية يا معلمي أنني أصبحتُ خبيراً في فنون القتال بعد أن تدربنا كثيراً على القتال الأعزل”. نظر الزائر نحوي بعد أن قال ذلك.

 

“أنا على ثقة بأنك تدربت جيداً في الجيش”. ردّ جدي عليه.

 

“كما قلت، أصبحتُ خبيراً إلى حد كبير. ومع ذلك فإنني إذا كنت سأواجه المعلم مرة أخرى، فأنا على ثقة أن مصيري لن يختلف عن سابقه، سأكون ملقياً على ظهري على الأرض في طرفة عين”.

 

كان الضحك سيدَ الموقف.

 

أضاف جدي: “أنا متأكد أنك تلقيتَ تدريباً ممتازاً”.

 

استدار الزائر نحوي مرة أخرى، رأيتُ عينيه تبتسمان بطريقة غريبة. “لكن في مواجهة رجل بخبرة المعلم، فإن كل التمرينات ستكون بلا جدوى. وأنا على يقين أن مصيري سيكون كسابق عهده في تلك الصالة الرياضية”.

 

ظلّ جدي واقفاً على حصيرته، ثم أضاف الزائر: “أرجوك يا معلم، لا أريد إزعاجك. مارس تمارينك كأنني غير موجود”.

 

“لا حقاً. يكفي ما قمت به لهذا الصباح” انحنى جدي على إحدى ركبتيه وبدأ في لف الحصيرة.

 

استند الزائر على الشرفة الأرضية ناظراً إلى السماء.

 

“موراساكي، إيشيدا … يبدو أن زمناً طويلاً قد مر”. بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه، لكن بصوت عالٍ بما فيه الكفاية ليستمع جدي الذي كان يواصل لف الحصيرة محولاً ظهره نحونا.

 

“كلهم مضوا الآن” قال الزائر: “أنت وأنا يامعلم. يبدو أننا الوحيدان اللذان بقيا من تلك الأيام الغابرة”.

 

توقف جدي لوهلة قائلاً. “أجل”، ودون أن يستدير: “نعم ، إنها مأساة”

 

“كانت تلك الحرب خسارة، خطأً كبيراً”. كان الزائر يحدق في ظهر جدي.

 

“أجل، إنها مأساة”. كرر جدي كلامه بهدوء. رأيته ينظر إلى الأرض، بينما حصيرة القش ملفوفة للمنتصف ومستلقية أمامه. 

 

غادر الزائر ذلك اليوم بعد الفطور، ولم أره أبداً مرة أخرى. كان جدي متحفظاً في الحديث عنه، وكان يقول لي فقط ما عايشته بالفعل. ومع ذلك، فقد أعلمتني نوريكو شيئاً.

 

كنت أرافقها في أغلب الأوقات عندما تذهب للتسوق وشراء البقالة، وخلال إحدى المرات، سألتها: “نوريكو، ما هي الحملة على الصين؟”

 

افترضَتْ بشكل واضح أنني أسألُ سؤالاً “تثقيفياً”، فقامت بأسلوبها الصبور والقنوع الذي تتبناه عندما أطرح عليها أسئلة من مثل: أين تذهب الضفادع في الشتاء بالإجابة والشرح أن الجيش الياباني قام قبيل اندلاع حرب المحيط الهادئ بحملة على الصين حققت بعض النجاحات. استدركتها بسؤال إذا كان ذلك أمراً خاطئاً، لتنظر إليّ بفضول للمرة الأولى. لا ، لم يكن هناك أي خطأ في ذلك، لكن برز الكثير من الجدال في تلك الفترة. والآن بعض الناس يقولون إن الحرب لم تكن لتندلع لولا أن الجيش ضغط على الصين. استدركتُها مرة أخرى بسؤال “إذا كان الجيش قد ارتكب خطأً بغزو الصين”. قالت نوريكو: إنه لا يوجد خطأ في هذا الأمر، لكن كان هناك الكثير من الجدل واللغط حوله. الحرب ليست أمراً جيداً، الجميع أدرك ذلك الآن.

 

أمضى جدي مزيداً من الوقت معي خلال الصيف، حتى أنه توقف تقريباً عن العمل على إصلاح الجانب المتضرر من المنزل. وبتشجيعه ازداد اهتمامي بالرسم ليتحول إلى حماس حقيقي. كان يصحبني نهاراً في نزهات، وعند الوصول إلى وجهتنا، كنا نجلس تحت أشعة الشمس بينما كنت أرسم بالأقلام الملونة. كنا نذهب عادة إلى مكان بعيد عن الناس – ربما إلى منحدر مغطى بالأعشاب الطويلة مطلٍّ على منظر خلاب. أو كنا نذهب إلى أحواض بناء السفن، أو موقع لبعض المصانع الجديدة. وفي طريق عودتنا بالترام إلى المنزل، كنا نعاين الرسومات التي قمت بها في ذلك اليوم.

 

كانت أيامنا تبدأ كعادتها بخروجي إلى الشرفة الأرضية لمشاهدة جدي وهو يقوم بأداء تمارينه. لكننا أضفنا طقساً جديداً على روتين الصباح. فعندما ينتهي جدي من تدريباته على الحصيرة، كان يناديني: “تعال إلى هنا. دعنا نرى إذا كنت صعب المراس اليوم”. لأنزل من الشرفة، وأذهب إلى حصيرته، وأمسك ثوبه كما علمني – يد تحكم قبضتها على الياقة، وأخرى على الكُم بالقرب من المرفق، ثم أحاول بعد ذلك تنفيذ الرمية التي علمني إياها، وبعد عدة محاولات أنجح في رمي جدي ليقع على ظهره. ورغم علمي بأنه كان يسمح لي بهزيمته إلا أنني كنت أشعر بالفخر جراء ذلك. كان جدي يرى أنه ينبغي عليّ في كل مرة أن أحاول جاهداً أكثر قبل النجاح في هزيمته. ثم في صباح أحد الأيام، ورغم المحاولات الكثيرة، إلا أن جدي لم يذعن وينهزم.

 

“هيا يا إتشيرو، لا تستسلم. أنتَ لا تمسك ثوب الكيمونو بشكل صحيح، أليس كذلك؟”

 

أعدلُ من مسكتي.

 

“جيد. حاول مرة أخرى الآن”.

 

أستدير وأحاول مرة أخرى.

 

“نجحتَ تقريباً. عليك أن تعتمد على وسطك كله في ذلك. أوجي رجل كبير. لن تقوم بذلك بيديك فقط”.

 

حاولتُ مرة أخرى. لا يزال جدي صامداً. أحبطني ذلك.

 

“تعال الآن يا إتشيرو. لا تستسلم بسهولة. فقط حاولْ مرة أخرى، وقمْ بذلك بشكل صحيح. هذا هو المطلوب. أنا عاجز الآن. يمكنك أن تبطحني”.

 

لم يبدِ جدي هذه المرة أي مقاومة وانهار على ظهره. كان مستلقياً على الحصيرة وعيناه مغلقتان.

 

قلت له بتجهم: “أنت تمنحني الفوز دائماً”.

 

لم يفتح جدي عينيه. ضحكتُ، وعرفتُ أنه كان يتظاهر بالموت، ولا يستجيب لأي رد فعل.

 

“أوجي؟”

 

فتح عينيه متنبهاً لوجودي، ابتسم. نهض ببطء، وقد ارتسمت على وجهه تعابير مرتبكة، حكّ مؤخرة عنقه بيده، وقال: “حسناً.. حسناً.. تلك كانت رمية مناسبة”. تحسسَ عضلات ذراعي، لكن عادت يده حالاً إلى مؤخرة رقبته، ثم أطلق ضحكة ووقف على قدميه. “إلى الفطور الآن”.

 

“ألن تذهب إلى الشجرة؟”

 

“ليس اليوم. أعطيت أوجي كفايته هذا الصباح.”

 

كان يغمرني شعور عظيما بالنصر، فهذه هي المرة الأولى التي أظن أنني هزمت جدي من دون أن يسهّل عليّ الأمر.

 

“إذن سأذهب للتدرب عند الشجرة” قلت ذلك.

 

“لا لا” أشار جدي عليّ أن آتي معه، بينما لا تزال يده تحكّ رقبته.

 

“تعال وتناول الطعام الآن. على الرجال أن تأكل وإلا فقدوا قوتهم”.

 

لم يتسنَ لي رؤية أي عمل من أعمال جدي الفنية حتى الأشهر الأولى من فصل الخريف. كنتُ أساعد نوريكو في تخزين بعض الكتب القديمة في الغرفة الغربية في الجزء العلوي من المنزل، فانتبهتُ إلى عدة أوراق كبيرة ملفوفة بارزة من صندوق موضوع في خزانة. سحبت إحداها وبسطتها على الأرض، كانت أشبه بملصق سينمائي. حاولت تفحصها عن كثب، لكنها كانت ملفوفة منذ فترة طويلة من الزمن، فكلما أمعنتُ النظر فيها كانت تعود وتلتف. طلبتُ من نوريكو أن تمسك أحد الأطراف، وأنا توليت الطرف الآخر.    

 

أمعنا النظر في الملصق الذي كشف عن محارب ساموراي يحمل سيفاً، وكان العلم العسكري الياباني خلفه. كانت خلفية الصورة حمراء قاتمة منحتني شعوراً بعدم الارتياح، أعادت إليّ ذكرى الجرح والدماء عندما سقطت وأصبت ساقي. وفي أسفل طرف الملصق، ظهرت أحرف “كانجي”* بارزة، تمكنت فقط من قراءة كلمة “اليابان”. سألت نوريكو ماذا يخبرنا الملصق. كانت تتفحص قسماً آخر بمنتهى الدقة والاهتمام، وكانت محتارة في قراءة العنوان: “لا وقت للنقاش العقيم التافه، على اليابان أن تمضي قدماً”.

 

“ما هذا؟”

 

“شيء ما قام به جدك، منذ زمن بعيد”.

 

“أوجي؟” شعرت بخيبة أمل لأن الملصق لم يعجبني، وكنت أظن دائماً أن أعماله الفنية تحمل طبيعة مختلفة تماماً.

 

“أجل، منذ زمن طويل. انظر، هنا توقيعه في زاوية الملصق”.

 

كان هناك كتابات أخرى أسفل الملصق. أدارت نوريكو رأسها وبدأت في القراءة.

 

سألتها: “ما الذي تقوله؟”

 

استمرت في القراءة بتعابير جادة.

 

“ماذا تخبرنا الكتابات، نوريكو؟”

 

أفلتتْ نوريكو طرف الملصق، ليلتفّ على يدي فوراً. حاولت بسطه مرة أخرى، لكن لم تعد نوريكو مهتمة بذلك.

 

“ماذا تقول، نوريكو؟”

 

“لا أعلم” قالت وهي تعود إلى الكتب. “إنها كتابات قديمة جداً، قبل الحرب”.

 

لم أصر على معرفة هذه المسألة، لكنني قررت أن أكتشف المزيد من جدي نفسه.

 

ذهبت إلى الحمام كالمعتاد في ذلك المساء، وناديته من خلال الحاجز، لكنه لم يرد، ناديتُه بصوت أعلى. ثم وضعت أذني عند المنخل وأصغيت. بدا كل شيء في الداخل هادئاً. خطر في بالي أن جدي قد اكتشف رؤيتي للملصق، وهو غاضب مني. وبعد أن ذهب الخوف عني، فتحتُ الحاجز المنزلق، ونظرت إلى الداخل.

 

كان الحمّام عابقاً بالبخار، ولوهلة لم أتمكن من رؤية أي شيء بوضوح. ثم رأيت جدي بالقرب من الحائط يحاول أن يخرج من المغطس. استطعت أن أرى عبر البخار مرفقه وكتفه يحاولان التشبث في محاولة لرفع الجسم من الماء. كان وجهه مائلاً يلامس حافة المغطس. كان ساكناً لا يتحرك على الإطلاق، وكأن جسده كان عالقاً لا يمكنه الحركة. ركضت نحوه.

 

“أوجي”.

 

بقي جدي ساكناً. لمستُه بحذر شديد بعد أن وصلت إليه، لأني كنت خائفاً أن ينكسر كتفه ويغرق مرة أخرى في الماء.

 

“أوجي! أوجي!”.

 

جاءت نوريكو مسرعةً إلى الحمام، ثم تبعتْها جدتي. قامت إحداهما بتنحيتي جانباً، وبدأتا تصارعان لاستعادته. كلما حاولت أن أقدم يد العون، كان النهي يأتيني وأن أبقى بعيداً. رفعتا جدي بصعوبة بالغة من المغطس، ثم جاءني الأمر بالخروج من الحمام.

 

اتجهت إلى غرفتي وأصغيت إلى الجلبة الصادرة من المنزل. كانت هناك أصوات لم أعرف كنهها. وكلما فتحت الباب هامّاً بالخروج، كان أحدهم يأمرني بغضب أن أعود إلى السرير. بقيت مستيقظاً لفترة طويلة.

 

لم يُسمح لي برؤية جدي خلال الأيام التالية، ولم يخرجْ هو من غرفته. كانت تأتي ممرضة إلى المنزل كل صباح وتبقى طوال اليوم. كانت أسئلتي تتلقى دائماً الردّ نفسه: جدي مريض، وسيتعافى. كان من الطبيعي جداً، مثل أي شخص، أن يصيبه المرض من وقت لآخر.

 

واصلت الاستيقاظ باكراً كل صباح والتوجه إلى الشرفة الأرضية على أمل العثور على جدي وقد استعاد عافيته، وعاد لممارسة تمريناته مرة أخرى. عندما لم يظهر، كنت أبقى في الحديقة يحدوني الأمل، حتى تناديني نوريكو لتناول وجبة الفطور.

 

وفي إحدى الأمسيات، تم إبلاغي أنه يمكنني زيارة جدي، وأن بمقدوري أن أراه لفترة وجيزة فقط. وعندما دخلت غرفته، كانت نوريكو برفقتي لتأخذني بعيداً إذا قمت بأي تصرف غير مقبول. جلست الممرضة في زاوية بعيدة، وكانت رائحة المواد الكيميائية تعبق في الغرفة.

 

كان جدي مستلقياً على جنبه. ابتسم لي، وبرأسه قام بإيماءة صغيرة، لكنه لم ينبس بكلمة. شعرت بالرسميات تطغى على الموقف، فشعرت بالإنزعاج. في النهاية، قلت: “أوجي، أرجو أن تتحسن قريباً”.

 

ابتسم مرة أخرى، لكن لم يقل شيئاً.

 

“لقد رسمتُ شجرة القيقب يوم أمس”. أخبرته بذلك: “لقد أحضرتُها لتراها، سأتركها هنا”.

 

“دعني أراها” قال بهدوء.

 

أمسكتُ الرسم، أخذها جدي وأدار ظهره. عندما قام بذلك، ارتسمت على نوريكو بجانبي معالم القلق.   

 

“جيد” قال ذلك: “أحسنتَ”.

 

تقدمت نوريكو مسرعة وسحبت منه الرسم.

 

“دعيها هنا معي”. قال جدي: “سيساعدني ذلك لأتحسن”.

 

وضعت نوريكو الرسم بالقرب منه، ثم أخرجتني من الغرفة.

 

مرت أسابيع دون السماح لي برؤيته مرة أخرى. وحافظت على الاستيقاظ مبكراً كل صباح على أمل العثور عليه في الحديقة، لكنه لم يكن هناك، فأصبحت أيامي طويلة ورتيبة.

 

وفي صباح أحد الأيام، كنتُ في الحديقة كعادتي، عندما ظهر جدي على الشرفة الأرضية. كان جالساً لوحده عندما هرولت إليه وعانقته.

 

“ماذا كنت تفعل يا إتشيرو؟”.

 

خجلتُ بعض الشيء من إظهار عاطفتي الجياشة، هدّأت روعي قليلاً وجلست بجانبه متخذاً وضعية رجولية.

 

“كنتُ أتجول قليلاً في الحديقة”. أجبتُ: “أتنشق بعض الهواء النقي قبل الفطور”.

 

“فهمت”. قال جدي وعيونه تتجول في الحديقة، وكأنها تفحص كل شجرة وشجيرة فيها. لاحقتُ نظراته. كان الخريف قد حلّ في ذلك الوقت، وكانت السماء رمادية فوق جدار الحديقة التي امتلأت بالأوراق المتساقطة.

 

“أخبرني يا إتشيرو”. قال جدي، ولا تزال عيناه تتجولان في الحديقة. “ماذا ستصبح عندما تكبر”.

 

فكرت لوهلة، وأجبت “شرطي”.

 

“شرطي!” استدار جدي نحوي وابتسم. “هذه مهنة الرجل الحقيقي اليوم”.

 

“أحتاج إلى التدريب بجد إذا أردت تحقيق ذلك”.

 

“التدريب؟ ما الذي ستتدرب عليه لتصبح شرطياً؟”

 

“الجودو. لقد كنت أتمرن كل صباح قبل الفطور”.

 

عادت عينا جدي إلى الحديقة. “حقاً” قال بهدوء. “مهنة رجل حقيقي”.

 

راقبت جدي لفترة وجيزة. سألت: “أوجي، ماذا كنت ترغب في أن تكون عندما كنت في عمري؟”.

 

“عندما كنتُ في سِنك؟” استمر يحدق في الحديقة للحظات قليلة. ثم أضاف: “لماذا؟ أظن أنني رغبت في أن أكون رساماً. لا أتذكر أني كنت أتمنى أن أصبح شيئاً آخر في أي وقت”.

 

“أريد أن أصبح رساماً أيضاً”.

 

“حقاً؟ أنت رسام موهوب بالفعل يا إتشيرو. لم أكن بمستواك حين كنت في عمرك”.

 

“أوجي، راقب”.

 

“أين ستذهب؟” ناداني.

 

“أوجي، شاهد، شاهد”.

 

ركضتُ باتجاه الحديقة الخلفية، ووقفت أمام شجرة جدي.

 

“ياع!” طوقت جذعها وهجمت عليها محاولاً اقتلاعها. “ياع! ياع!”

 

نظرتُ عالياً، كان جدي يضحك رافعاً راحتيه مصفقاً. عدوى الضحك أصابتني أيضاً، غلبتني السعادة لأن جدي قد عاد إلى سابق عهده. ثم عدتُ إلى الشجرة متحدياً إياها مرة أخرى.

 

“ياع! ياع!”

 

كانت ضحكات جدي تتعالى قادمة من الشرفة الأرضية،  يصاحبها تصفيق يديه.

 

 

_____________________________

 

* رموز الكتابة اليابانية، جاءت من الصين مع الديانة البوذية.

 

*****

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: