صيد النجوم
العدد 272 | 29 تموز 2022
فكري عمر


كان يتقلَّبَ في طبقات الظلام كدودة في شرنقة، ولولا أنه أحس بشيء له كثافة طاغية على صدره وقدميه لما أزاح البطانية عن جسده، ومد قدميه إلى حافة السرير؛ ليهبط بهما على الأرض، ثم يشد جذعه المتراخي ويقف على بلاط الغرفة البارد. في حالات كهذه كان يضربه الارتباك؛ فهو لا يعرف الوقت الذي نام فيه. هل كان مساءً أم ظهرًا؛ لأنه حين يستيقظ مع الخيوط المرتخية الحنون لشمس مغادرة يكون لديه نفس الانطباع بأنها شمس تبدأ في الشروق. حينها كان يقضى بعض الدقائق يتذكر آخر مرة نام فيها. حين يدرك أنه نام بعد الغداء، فإن فرحًا خفيًا يُولد داخل صدره؛ فالليل بطوله لا يزال أمامه قبل أن ينام بمنتصفه مرة أخرى؛ ليصحو أول الصباح يجهز نفسه لعمله. الآن تبدو كل الأشياء كأنها ملفوفة في طبقات الظلام. لا يظهر منها أي طيف مغامر؛ ليدرك منه شيئًا. حتى شباك الغرفة لا يلوح من ورائه أدنى بصيص من الضوء كإشارة على وقت محدد.

تراخى مرة أخرى على طرف فراشه، دعك عينيه من شدة الارتباك، ثم مال باتجاه “الكومودينو”، سحب تليفونه المحمول ضاغطًا بعض أزراره؛ ليعرف كم الساعة الآن، وقبل ذلك ليرى من خلال الوميض الخفيف لشاشة التليفون الملونة شيئًا مما حوله، فتعود إليه الطمأنينة، لكن التليفون بعد كثير من الضغط العصبي على الأزرار لم يومض. ربما فرغت البطارية من شحنتها الكهربائية وهو نائم. ما يذكره هو أن البطارية كانت ممتلئة قبل أن ينام، وأن تليفونه جديد، اشتراه منذ شهرين بدلًا من تليفونه القديم. يتبقى الظن الوحيد المقنع أن التليفون نفسه جزء من لعبة كبيرة تمارس بكل قسوتها عليه. هكذا حدّث نفسه وهو ينادي كل الأسماء التي يعرفها حوله بالبيت واحدًا واحدًا.. كل اسم يناديه مرتين، أو ثلاثًا وبصوت متفاوت بين الانخفاض، والارتفاع؛ ليسمع صوتًا يطمئنه. لم تأته أي ردود، ولا حتى صدى صوته تردد داخل شقته كتكرار رتيب يُكرس للضياع.

كان قد قرأ قصة رمزية عن الظلام الذي يغطي كل شيء، ولما لم يجد كل واحد من أبطال القصة نقطة من النور يسترشد بها في عالمه يتصاعد الغناء فجأة من الأفواه جميعها كاتفاق سري في نفس الوقت، مع تنوع درجات عذوبة الأصوات، أو نشازها. في النهاية لا يهم سوى كون هذا الصوت، مهما حدث، هو الصوت الخاص لكل شخص. هو ما سوف يتبقى لكل واحد على حِدَة في عالمنا بعد موته، أما من ليس لهم صوت متفرد فلا أثر لهم بعد ذلك أبدًا. كاد يبتسم؛ لأنه يحلل رمزية قصة قرأها منذ وقت طويل في واقع جديد شديد الاضطراب، وجَرَّت القصة على ذهنه رواية جوزيه ساراماجو “العمى” حين أصيبت القرية كلها بالعمى واحدًا فواحدًا، لكن الضوء كان موجودًا، كما أن حُرَّاس المستشفيات ظلوا يبصرون وقتًا طويلًا. زوجة الطبيب نفسها كانت مُبْصِرة وسط العميان. هناك فرق جوهري بين حالته، وحالة الأبطال الضائعين بـ (العمى)، لكنه ليس بطلًا لقصة قصيرة، أو لرواية سيبحث له مؤلفها عن مَخْرَجٍ ولو رمزي؛ يعطي مصائبه معنًى أعمق، يجعل الجميع يشعرون أن الحياة مُلْهِمة، وتستحق أن تعاش بكل تفاصيلها: الجميلة والسيئة.

قصصه التي يكتبها هي الأخرى حافلة بنوع من الفانتازيا، لكنها فانتازيا تُبجِّل الواقع؛ فلا يمكن مثلًا أن يضع بطلًا في مكان مغلق، ويتركه يصارع مصيره العبثي. وراء كل فانتازيا هدف. هل يدفع في تلك اللحظات ثمنًا لهذه القصص؟! دائمًا ما كان يعتقد أن القصص التي يكتبها إما أنه جرّب أحاسيسها بنفسه، أو أنها ستحدث له في وقت من الأوقات كنوع من تأكيد النبوءة الخرافية الخاصة بكُتَّاب القصص. وحين كان يجرب إحساسًا خانقًا رصده بقصة له من قبل كانت تنتابه مشاعر متناقضة من الخوف والفرح. كأن خياله أشد صدقًا من الواقع نفسه، لكن ليس كل القصص بالضبط، فلو كان الأمر كذلك لفارقت روحه جسده منذ فترة طويلة.

مشى بحذر مادًّا يديه الاثنتين أمامه متفادياً الأبواب المواربة، والأجهزة الكهربائية الصغيرة، والكراسي، والسفرة. اتجه إلى حوض الماء، وفتح الصنبور، فنزلت خيوط باردة منعشة على كفيه، قطعت من رأسه أيَّ علاقة لما يحدث بعالم الأحلام. غسل وجهه. فتح باب الحمام وشباكه؛ لعل الضوء يهل من خلاله، لكن بعد كل ذلك لم يحظ بأي كمٍّ منه.

الرائحة الغريبة لليمون بحلقه بدأت في نفس اللحظة التي فكر فيها بالهاجس السيء، ربما فقد بصره، وما ذلك إلا حلاوة الروح الأولى. اِنْتَظَرَ سماع صرخة مواسية من زوجته، أو أحد أبنائه الصغار، أو أي من والديه وإخوته، فيما ستمتد إليه أكثر من يدٍ؛ لتؤازره في عالم الظلام الذى سيرافقه ما بقى حِسه في الحياة، وأن مشواره الذي اتخذه الآن سيعدّ بعد ذلك بطولة استثنائية عليه ألا يكررها؛ حتى لا يصاب بأذى أكبر من ذلك، لكنه خلال اللحظات الثقيلة التي تسمَّر فيها واقفًا مكانه ممزقًا بالحيرة لم تمتد له أيَّ يد مؤازرة. أخذ يفرُّ إلى ذكرياته القريبة، لم يصب فيها بذلك الداء. آخر مرة خلال هذا النهار كان قد هبط من سيارة الأجرة التي تقله في طريق العودة من إدارته، قابل أصدقاءه، وتناول غداءه وهو يشاهد فيلمًاعربيًا قديمًا، ثم اعترته الرغبة في النوم، فنام.

ها هو الآن واقفًا بالطرقة أمام الحمام يُجفِّف وجهه، ويديه بالفوطة المبلولة بالماء. يتحسس عينيه، يفتحهما، يُقرِّب إصبعه من جفنيه حتى يلامسه، فتُغمض عيناه تلقائيًا، ثم يرتفع الجفنان، تحدق عيناه بكل قوة في الظلام حتى إن حلقات ضوئية ملونة كالتي كان يراها أحيانًا وهو مستيقظ في فراشه صباحًا بدأت تتشكل أمامه. استدار ببطء إلى المطبخ، لف مفتاح البوتاجاز ذاتي الإشعال، فأحدثت ضغطته تكة ولم يشتعل الموقد؛ لأن شرارة الإشعال لم تومض ولا مرة واحدة مع كثرة لف المفتاح وضغطه إلى الداخل.. لا بد أنه ترك الأنبوبة فارغة قبل أن ينام دون أن يبدلها، وهو أمر نادر الحدوث؛ فهو يحب أن ينهى كل الأشياء داخل شقته قبل أن ينام؛ ليستيقظ فارغ البال. الاحتمال الوحيد، إذن، أنها هي الأخرى قد تواطأت مع التليفون المحمول، ولمبات الكهرباء المعلقة بالسقف كخفافيش نائمة، والثلاجة المطفأة، والشارع الذي لا تلوح فيه أي إشارة ضوئية. كما لو تم قنصه بالفعل داخل رواية من الروايات العجائبية التي تتناول غياب كل شيء بدءًّا بالماء، وانتهاءً بالبصر. يدرك أنها تُكتب تحت فكرة كلية واحدة، لكنها في نفس الوقت تدفع كل واحد منا للتفكير في مصير البشر لو حدث ذلك، لكن الرواية التي يعيش تفاصيلها الآن تبدو حقائقها أشرس من الكوابيس، ولا تلوح لها نهاية قريبة. عليه أن يصمد إلى النهاية؛ حتى لا يموت؛ لأن مؤلف القصص الغريبة لن يلتفت حينذاك إلَّا إلى من استطاعوا الصمود، والصبر، والمثابرة؛ ليكملوا معه رحلة تبدو الآن في بداياتها.. هكذا تحامل على نفسه القلقة، دخل غرفته الأخرى حالكة الظلمة، فتح دولاب ملابسه محاولًا أن يتحسس قمصانه، وسراويله ليبدل ملابسه، ثم أوقفه خاطر مزعج: ما فائدة الملابس في عالم ليس فيه قطرة ضوء؟! وقريبًا لن تكون هناك قطرة ماء داخل خزانات المياه طالما أن الكهرباء نفسها فيما يبدو مقطوعة، وأن الجميع سيضطرون إلى الذهاب إلى الأنهار، ومصارف المياه؛ ليحصلوا على الماء مباشرة منها، أو ليمارسوا احتياجاتهم المُلحة كالحيوانات الضالة بالعراء.. العراء نفسه لن يكون فضيحة طالما أن الجميع يسبحون في العتمة. لن يُقلل هذا إطلاقًا من الهمجية بعد ذلك في ممارسة الحياة. أما الهاجس الأكثر إزعاجًا أمام دولاب الملابس فكان في القدرة على تحديد الفصل المناخي الذي تمر به البلاد. كان الذهاب إلى الباب؛ لفتحه، وتلمس الهواء بوجهه، ويديه لمعرفة أي نوع من الفصول هو فيه الآن لمغامرة كبرى؛ فالعودة غير مأمونة في ظروف أشد غموضًا من الموت. ارتدى قميصًا من قمصانه، وبنطالًا ثقيلًا من الجينز. تناول معطفًا في يده وهو يخرج من باب الحجرة.

كأن طبقات الظلام تزداد كثافة فوق كثافتها، تنبئ بظهور جدران صلبه لن يستطيع عبورها بعد ذلك. قذف نفسه من باب الشقة؛ ليهبط إلى الشارع الغارق في ظلمة كثيفة كطبقات الصوف. تخيل أنه سمع أصواتًا مضطربة خائفة وهي تزعق بطلبات متباينة في الظلام.

– يا ناس! ما الذي نعيشه الآن؟

– واحد منكم يتبرع ليشعل لمبة، شمعة، نار.. لم نعد نرى شيئًا.

– البطاريات كلها مُطفأة.

– هل نحن بالليل، أم بنهار خُسِفتْ شمسه دون إنذار؟!

سمع ضحكات متقطعة ترد على صاحب الهاجس الأخير.

– لا أحد يستطيع أن يطمئنك بجواب. نحن في الشارع منذ ساعات، والشمس لم تظهر بعد.

– قد نكون في الليل والقمر محاق؟!

قال بصوت هادئ، لكن الردود السريعة التي أكدت له أن الصوت أصبح هو اللغة الوحيدة للتفاهم، ردت بعدوانية:

– هل أنت شاعر؟! لا قمر ولا نجوم في السماء.. لا برد ولا حر.. نحن نسينا أصلًا اسم الفصل المناخي الذي كنا نعيشه بعدما حدثت الكارثة.

عاد الصوت أداة للتواصل مرة أخرى، فتذكر أنه لو ظلت الأمور على هذا الوضع العجيب سيخطو العالم في العماء كما كان في بداياته، وفى ومضة من تفكير الخائف أحس بالسخافة وهو يفكر بتلك الطريقة الفلسفية في واقع شديد الصرامة والكابوسية، تُبنئ أقل خطوة خاطئة فيه بالموت، أو على أقل تقدير بالإصابة بعاهة مستديمة. فجأة دهمته صيحة متكررة ممن حوله كأنها الإلهام: الكلاب، القطط، الكلاب.

ظن أنها سُبَّة قاسية لمن أدخلوا الجميع في التجربة، لكن بضع لحظاتٍ، مع التدافع في اتجاهات متناقضة، أدرك أن الجميع يبحثون عن الكلاب والقطط. كان هناك كلب يمر من أمامه، وعيونه الفسفورية تبرق في الظلام. قططُّ تَمُوء منزعجة وهي تراوغ الأرجل الكثيرة التي تلاحقها. تأكد أنه ليس أعمى، وأن الكون ما زال فيه بقايا ضياء نجوم بعيدة، لا نراها تحت ضغط الرعب، لكن عيون القطط والكلاب تصطادها، ثم تعكسها عبر طبقة شفافة في عيونها. أحس ببعض العزاء، لكن جسده كان يدور حول نفسه مُطاحًا به في حركات سريعة من بشر يسعون لاختطاف كلب أو قط، ومرافقته.

لم يكن يحب الحيوانات، حتى الأليفة منها؛ فهو يقلق من الأمراض المُعدية التي قد تنقلها. ينتابه رهاب من كل الكائنات الأعجمية التي لا يستطيع التفاهم معها أبدًا، حتى تفكيره بسفره إلى بلدٍ آخر غير بلده بين بشر يتحدثون لغة أخرى غير لغته. كان يرى أن صعوبة التفاهم هي أشد أنواع الخطورة التي يعانيها الإنسان المحاصر بغربته عمن حوله، أو غربة من حوله عنه. ومع أن البشر يتفاهمون بطرائق عدة غير الكلام، إلَّا أنه لا يجد غضاضة في أن ينتابه شعور بالتوجس؛ ليظل آمنًا من المفاجآت، فمع تأكيد الجميع أن العالم صار قرية صغيرة بعد هذا التطور التكنولوجي الأخاذ كان في دخيلته يدرك أن ذلك لن يحدث أبدًّا، وسيأتي ما ينهيه في لحظة. ها قد أتى الوقت؛ فلمَ يدور حول نفسه مرعوبًا رغم صدق حدسه؟! التفكير بمرافقة كلب أو قط الآن قبل أن يتأكد من حلول كارثة الظلام الأبدي لهي مغامرة لا تقل خطورة على حياته عن التحرك بأي اتجاه، فالقطط في هذا الوقت خائفة؛ لذلك ستخمش من يمسكها. قد تؤذي عينيه فيفقد البصر حين يعود الضوء. الكلاب ستتحول إلى حالة سعار مع التدافع والهجوم عليها. هو نفسه لن يستطيع فعل ذلك الآن حتى يرى النتيجة خلال لحظات. كان يطمئن نفسه بأن شيئًا مما يحدث لم يتأكد بعد. سمع من يقول:

– هل أنتم متأكدون أن البلد كلها قد ضربها الظلام؟!

– نعم.. وسمعت واحدًا يقول إنه كان مستيقظًا قبل حدوث المصيبة، ورأى الشمس تهوي ناحية الغروب بسرعة مجنونة. حتى أنه صرخ معتقدًا أنها القيامة.

تذكر أنه سمع صرخات استغاثة وهو يحلم، فرأى سيارات الإسعاف تحمل مصابين إلى أماكن متفرقة بالمدينة، وأناسًا يطيرون من شروخ الجدران البيوت إلى الشارع، فتتكسر أجسادهم كما يتكسر الزجاج، لذلك لم يستطع تَحَمُّل ذلك. أخذ يئن في نومه من دون أن يدري، وحين استيقظ راح يسمع أنينه، لكنه طرده من اهتمامه معتقدًا أنه من بقايا الحلم. نظر باتجاه السماء، ليستنجد بضوء نجمة بعيدة أرسلت أشعتها الضعيفة، فانعكست في أعين القطط والكلاب بالشارع. الحياة الآن مرهونة بذلك “السرسوب” المتواصل من النور البعيد، لأن غياب الشمس بهذه الطريقة يعنى أنها هوت في العدم، وأن الأرض ستفقد ذلك الخيط غير المرئي من الجاذبية مع الأجرام الأخرى. سوف يطير الكل في الفرغ المنبئ بالنهاية. ولأن ذلك لم يحدث حتى الآن فقد أحس ببعض الأمل في أن من رأى ذلك لا بد أنه يعاني من هلوسات بصرية. شيئًا فشيئًا سيعود النور إلى العالم المظلم. اندفع حينئذٍ في الحوار:

– أكيد سيخرج علماء من أيَّ دولة متقدمة ليبحثوا للبشر عن حل. النور سيعود فجأة كما رحل فجأة.

لم ترد عليه سوى ضحكات مُحْبَطَة. هو نفسه أوشك أن يضحك من تصوراته. الآن عليه أن يرافق أحدًا يحميه من الأخطار، التقطت أذناه حشرجة باكية بجوار الحائط، فأنصت إليها: “يا رب، لمَ خلقتنا بلا أيَّ قوة إضافية نواجه بها أخطار الدنيا، ليست لنا أسنمة كالجمال نحتفظ فيها بالدهون إذا عَمَّ الجوع والعطش، ولا عيون فسفورية كالقطط والكلاب إن شملنا الظلام كالحاصل الآن، ولا إحساس بالخطر قبل الكوارث وأثناءها كالكلاب. ولا دروع واقية من الزمن كالسلاحف العملاقة، ولا رئات تتلاءم مع الماء، والهواء كالحيتان”. أحس أنه سمع نفس هذا الصوت من قبل. كأنه قرأه في قصة تلوح فيها المناجاة الذاتية كوسيلة أخيرة للدفاع عن النفس البشرية ضد عجائبية العالم.

ألم يقل هو نفسه من قبل بأن الإنسان لا يحتاج إلى معجزات ليؤمن بأشياء أو ينفيها؛ لأن أكبر معجزة في العالم هي شروق الشمس كل صباح؟! كان ممتلئًا بالثقة واليقين حين قال تلك الكلمة. ها هي الوقائع مرة ثانية تؤكد ذلك. هل ما يعيشه الجميع هو نفاذ الفأل السيء لمجموعة من الكُتَّاب – هو منهم – ومخرجي السينما الذين طرحوا كل الأفكار الغريبة حول الحياة، وكل المصاعب المحتملة التي قد يواجهها الإنسان في كل مكان ذات يوم؟!

إن ترف الأفكار التي كانت تُعزيه منذ قليل قد سقطت فجأة مع التدافع في كل الاتجاهات، فأصبح مطالبًا بتوفير الحماية لنفسه، ثم البحث عن أي فرد من أسرته التي قد تكون نائمة بالشقة لم تغادرها بعد.

 تذكر أنه غادرها تاركًا بابها مفتوحًا. فكَّر أن يعود، لكنه لم يستطع تحديد الاتجاه، ولا كانت لديه الرغبة في اجتراح مغامرة غير مأمونة العواقب قبل أن يعرف أين رأسه، وأين قدماه.. حينئذ بدأت الأصوات تشتعل في الظلام. لا أصوات الغناء المميزة لكل حنجرة على حِدَة، ولا المناجاة التي تصدر من الضعيف إلى القوي، ليهبط الحل المفاجئ ببساطة شروق الشمس. إنما أصوات النباح، والمواء، والعواء، والنعيق. كأن الأسرة البشرية قد استحالت إلى قطيع من الحيوانات، ووقف صامدًا مرة أخرى؛ ليدرك الموقف قبل أن يتورط؛ فهو يعرف أن ميلًا جارفًا لدى البعض هو ما جعلهم يفعلون ذلك؛ ليمارسوا السطو على الآخرين، أو القتل دون أي تبكيت للضمير؛ ففرص الاستمرار حيًا تبدو ضعيفة. الكلاب، والقطط القليلة بالشوارع لن تفي رفقة كل هؤلاء. انسحب إلى جوار الأسوار والحوائط، وفي الوقت نفسه دهمه المارة المسرعون مرة أخرى وهم يتخبطون صارخين بأن الذئاب قد انتشرت بالشوارع رفقة الكلاب والقطط. أدرك المغزى الحقيقي لوجود ذئاب بهذه الكثرة، فقد اختلطت بالذئاب البشرية. أصبحا ينفذان نفس الطريقة في ترويع الجميع، ونهشهم بلا رحمة. يدرك في تلك اللحظات أن الفلسفات ستنهار، كذلك الجيوش والحكومات. كما أن ترف التفكير بالمغزى الكوني لما يحدث سيغدو ترفًا قد يؤدي بصاحبه إلى الهلاك فورًا، ويصير الإنسان نفسه أضعف من نملة، فكل واحد من بني الإنسان مطالب من الآن بأن يعتمد على نفسه، لأن النباتات لن تتحمل حياة الظلام، ولا يُعْرَف حتى الآن ما هو الضوء الداخلي الذي سيخطو الناس على هداه في حال استمرار الواقع الحي ماثلًا للجميع. قد يكتشف الإنسان هذا النور الخاص بعد مئات، أو آلاف من السنين كما اكتشف الإنسان البدائي النار بعدما تمزق طويلًا في مئزر البرد الشائك، لكن الحقيقة الماثلة الآن بلا أي رثاء أن البشر يرزحون في الظلام والجوع والضياع وما سوى ذلك هو خيال سخيف.

 

*****

خاص بأوكسجين