شجرتي
العدد 243 | 02 أيار 2019
محمد الخولي


توقفت عن عد السنوات…

أرغمت أوجاعي على ركوب قطار مجنون، ببطء تحركت العجلات، وداست على عشب نما بشكل عشوائي على القضبان. (كم عاماً مرّ لتنمو هذه الأعشاب؟) تأوهت كمن يُخلع قلبه، سرت رجفة في أحشائي، لم أستطع تحديد مصدرها. تمنيت لو توقف القطار، أو على الأقل تعطل للحظات، أزيد فيها النظر إلى الخلف، (لكن ماذا يفيد؟)

القطارات لا تتوقف عادة إلا في محطاتها، أو على جثث ركابها، وحتى الآن على الأقل لم أتحول إلى جثة.

انطلق القطار كطفل أبلغوه بعودة أبيه الغائب. سبق آخر شعاع شمس كان يودع الأرض. ترك خلفه كل الذكريات الجميلة، (الآن أصفها بالموجعة).

محطات كثيرة كان يقف قليلاً أمامها، ثم يعود مسرعاً يكمل طريقه، كسلي حرمنى النزول في أي محطة. (لدي من الشجاعة الآن لأعترف أن كسلي هذه المرة بريء، ورغبتي في الوصول إلى المحطة النهائية هو السبب.)

لا أعرف كم يوما استمرت الرحلة، مررنا بوديان وصحاري، واختفينا في أنفاق، ولولا شعاع الشمس الذي أيقظني هذا الصباح، لاعتقدت أن النفق مستمر.

سألت جاري: متى سنصل؟ ضحك وأكمل قراءة صحيفة ورقها باهت.

عدت إلى الشباك أراقب الأشجار التي تسابق القطار، ليس من بينها واحدة تشبه شجرتي.

يزداد حنيني إلى كوب شاي مغلي، على رأس الغيط، الرجال يدخنون الشيشة، حكايات السفر، والعمل في أراضي الغير. الثور يدور في الساقية، البهائم عائدة لزريبتها، وجوه الأطفال الملحوسة، النساء تحملن الصواني الكبيرة، فوران اللبن على صاج الفرن، حكايات الجن، والنداهة، وأبو لمبه (يظهر عند الترعة قبل الفجر ويختفى مع الآذان).

خطر لي أني سأجد قريتنا كما هي، الرجال يتسامرون، النساء تغسلن الأواني على شاطئ الترعة، والأطفال يلعبون إلى جوارهن بلا ملابس.

من بعيد جاءت البشارة، تبدأ حدود قريتنا قبل أن نصل مدخلها بربع ساعة، امتلأ صدري برائحة الياسمين، لا تنمو هذه الزهرة إلا في قريتنا. كأنها خلقت لنا وحدنا.

من هنا ظهرت مئذنة المسجد الكبير، خضراء كما هي، تقاوم الزمن، وتحاول الهرب من العمارات التي ارتفعت حولها، متى ظهرت تلك العمارات في قريتنا؟ تركتها وكانت جميعها من دور واحد.

على مدخل قريتنا، رأيت شجرتي فدبت الروح فيّ من جديد، هبت نسمة خفيفة فتمايلت الشجرة، “ترقص لي”، قلت لنفسي. وطارت منها ورقة طبعت على خدي قبلة، لولا أنها مقيدة بحكم إلهي، لجرت إليّ، وحضنتني… حضنتها أنا.

بيتنا هو الآخر يقاوم، يقف كمقاتل عجوز يرفض الاستسلام، سقط جزء من سوره العالي، وانتصر الزمن على رسمة المركب التي رسمناها عندما سافرت جدتي للحج، ضاعت معالمها، لكن جملة “حج مبرور وذنب مغفور يا حاجة” لازالت موجودة، طُمست بعض حروفها، وبهتت ألوانها لكنها تعافر وتصرّ على البقاء.

لا أحسب السنوات التي تمر بعيدًا عن تلك الشجرة، نبعاً واحداً شربنا منه، فدبّت فينا الحياة. نصحني أبي وأنا صغير أن أضع الماء أسفلها، حتى تظل حية، فكنت أشاركها في الماء، ولولا ماؤها لما كنت موجوداً حتى الآن. أنا أحب الحياة، أحب حياتها.

كان لأبي شجرة بجوارها، أطول وأضخم، وأوصاني أن أغلي أوراقها بالماء الذي يغسل به، وأدفنه بجوارها.

غرس أبي شجرتي، في نفس النهار الذي ولدت فيه، فكل طفل يولد في عائلتنا تُغرس له شجرة وتسمى باسمه. في حديقتنا عشر أشجار، سُميت كل واحدة باسم صاحبها، فإن مات خلّدت اسمه.

قال لي عجوز يوماً إنها عادةٌ ورثناها من الجدّ الأول. كان مهووساً بترك أثر له ولأبنائه. ليعوض ما خسره بعد هربه من الجبل بلبنان.

 كان جدي من المؤمنين بمشروع طانيوس شاهين، شارك معه في ثورة الفلاحين الفقراء على الإقطاعيين وملاك الأراضي في كسروان، وهرب بعدما انقلبت الثورة على أبنائها، وفشل مشروع طانيوس. عاد جدي من هناك حاملاً زوجته وأبناءه الثلاثة، وكيس به بذور شجر التفاح. ويوم استقر جدي على الأرض التي سيبني عليها داره، زرع خمس شجرات، لكل واحد منهم شجرة، وأوصى من يأتي بعده أن يزرع شجرة لكل مولود.

وقعت من عليها يومًا، فنظرت لها معاتبًا، انتفض أبي من على الكنبة، لكن وجهه المخضوض، انقلب، وانفجر في الضحك، ولم أفهم من كلماته المتقطعة سوى “أنت بتكلم مين يا ابن الكلب؟”

نظرت إليه متعجبًا وأشرت إلى الشجرة. كنت وحدي أرى قلقها عليَّ، انحنت فروعها، وسقطت أوراقها، كأنها تقبلني وتعتذر عن ذنب.

عاد أبي إلى مقعده، وعدّل الشيشة، وضبط النار على حجرها، وسرح مع صوت الراديو، وعدت أتحدث مع الشجرة.

على جزع شجرتها كتبت أول حرف من اسمي، هي مثلي لن تؤثر فيها تلك السنوات الكثيرة. بعدما اشتد عودها، كانت دموعها تسبق دموعي، وأنا ألقى عليها نظرة الرحيل. لعنت الوداع، وصفارة القطار، والجامعة، والقاهرة، أكان يجب أن أقول لها وداعًا؟ أكان ضروريًا أصلا أن أبتعد؟

ركبت القطار، تهت في العدم، لولا الوصية لكنت في مكان آخر الآن. لولا الصدفة لدُفنت في مزرعة بريف أوروبا. ولولا هروبي في آخر لحظة لكانت قدماي مقيدتين حتى الآن في كتلة حديدية، بسجن عربي. لربما كنت طعاماً شهياً لحيوان بري في أفريقيا. أنا موجود على هذه الأرض مصادفة. انقذتنى الصدفة وحبي للشجرة. كانت فروعها تطبطب على ظهري، وبرفق تمسح دمي، وتمشط شعري. في كلّ أزمة كانت الشجرة تمدّ يدها تمسك بي وتنقلني إلى عالم جديد.

كنت أخاف على شجرتي، وأخشى أن تحزن لفقدي، درّبت نفسي كثيراً على العيش دونها، وفشلت. تخلصت من الماضي كلّه إلا منها.

كبرت الشجرة، وصار عمرها أكثر من سبعين عامًا، انسدلت غصونها، وسألت نفسي: يا ترى إلى متى ستظل حية؟ تيبس الكلام في حلقي، واختنقت أنفاسي، صار المكان صامتًا، باردًا، عطنًا. اختفت الخضرة والطيور، وتحولت أعشاشها على الشجرة إلى خرابات، عجوز واقف في إشارة مرور، ينتظر اللحظة التي يعبر فيها إلى الجانب الآخر، وصل الخراب إلى عروقي، وأصابني بغربة، مِلتُ على شجرتي وهمست لها، هل ما زلت حيًّة؟

————————

القصة من مجموعة قصصية تصدر قريباً للكاتب.

 

*****

خاص بأوكسجين

 

 


كاتب وصحافي من مصر.

مساهمات أخرى للكاتب/ة: