شاعر القلعة الكئيبة
العدد 159 | 06 تشرين الأول 2014
بول أوستر/ترجمة: أسامة منزلجي


   صافحتُه للمرة الأولى في ربيع عام 1967. كنتُ حينئذٍ طالباً في السنة الثانية في جامعة كولومبيا، صبياً جاهلاً ذا شهيّة للكتب واعتقاد (أو وهم) بأنني سوف أُصبح ذات يوم جيداً بما يكفي لأسمّي نفسي شاعراً، ولأنني كنتُ أقرأ الشِعر، كنتُ قد قابلتُ سمييّ في جحيم دانتى، متمثلاً في رجل يتخبّط في الأبيات الأخيرة من النشيد الثامن والعشرين من “الجحيم”. إنه برتران دو بورن، شاعر بروفنسالي من القرن الثاني عشر، يحمل رؤوسه المتعددة من شعرها ويؤرجحها جيئة وذهاباً كفانوس – وهي حتماً إحدى أشد الصور غرابة في قائمة ألوان الهلوسة والتعذيب التي تملأ كتاباً. لقد كان دانتى مُدافعاً عنيداً عن أسلوب بورن في الكتابة، لكنه حكم عليه باللعنة الأبدية لأنه استشار الأمير هنري في أمر تمرّده على والده، الملك هنري الثاني، ولأنَّ دو بورن تسبّب في إحداث القطيعة بين الأب وابنه وحولْهما إلى عدوّين، أصدر دانتى عقابه المشهور بفصله عن نفسه. وعليه أصبح الجسد مقطوع الرأس ينتحب في العالم السفلي، سائلاً الرحالة الفلورنسي إنْ كان هناك ألم أفظع من ألمه.

   عندما قدَّم نفسه باسم رودولف بورن، تحولت أفكاري في الحال إلى الشاعر. سألته هل من صِلة تربطك ببرتران؟

   أجاب،”آه، ذلك المخلوق البائس الذي فقد رأسه. ربما، ولكن أخشى أنَّ الأمر مُستبعَد. لا وجود لـ دو. على المرء أنْ يكون من النبلاء ليحظى بتلك الإضافة، والحقيقة المُحزنة هي أنني أبعد ما أكون عن النبالة”.

   لا أتذكّر سبب وجودي هناك. لابد أنَّ أحدهم طلب مني أنْ أذهب، ولكن تبخّرتْ صورة ذلك الشخص من ذهني منذ زمن بعيد. حتى أنني لا أتذكّر أين أُقيم ذلك الحفل – في خارج المدينة أم في قلبها، في شقّة أم في عليّة – ولا السبب الذي دفعني إلى قبول الدعوة أصلاً، بما أنني كنتُ قد نويت في ذلك الوقت أنْ أجتنب التجمعات الكبيرة، بسبب الجلبة التي تسودها، والإحساس بالحرج من الخجل الذي يمكن أنْ يغلبني في حضور أناسٍ لا أعرفهم. ولكن في تلك الليلة، ولسبب غير مفهوم، قبلت الدعوة، ورافقت صديقي الذي نسيته كائناً ما كان المكان الذي اصطحبني إليه.

   ما أتذكره هو ما يلي: عند نقطة معيَّنة من الأمسية، ألفيتُ نفسي واقفاً وحدي في إحدى زوايا الغرفة. كنتُ أدخّن سيجارة وأتفرَّج على الناس، أعداد غفيرة من الأجساد الغضّة محشورة ضمن حدود تلك المساحة، أصغي إلى خليط هدير الكلمات والضحك، متسائلاً ما الذي أفعله هناك بحق الله، وأفكِّر في المغادرة. كانت هناك منفضة سجائر قابعة على مشعاع التدفئة المركزية إلى يساري، والتفتُّ لكي أُطفئ عليها سيجارتي، فرأيت الوعاء الممتلئ بأعقاب السجائر يرتفع نحوي، مرتاحاً على راحة يد رجل. كان شخصان قد جلسا على المشعاع، من دون أنْ ألحظ ذلك، امرأة ورجل، وكلاهما أكبر سناً مني، بل أكبر سناً من أي شخص في المكان – هو في حوالي الخامسة والثلاثين، وهي في أواخر عشرينيات عمرها أو أوائل الثلاثينيات.

   شعرتُ بأنهما يُشكلان زوجاً متنافراً. بورن يرتدي بذلة مجعّدة من الكتّان الأبيض القذر قليلاً مع قميص أبيض ومُجعّد تحت السترة، والمرأة (التي اتّضح أنَّ اسمها مارغو) تتشح بالسواد. عندما شكرته على المنفضة، أومأ لي برأسه إيماءة شكر موجزة وقال بكل سرور مع لكنة أجنبية خفيفة جداً. فرنسية أو ألمانية، لم أتبيَّن أيُّهما، بما أنَّ لغته الإنكليزية كانت تقريباً خالية من العيوب. ماذا رأيتُ أيضاً في تلك اللحظات الأولى؟ بشرة شاحبة، شعراً أشعث مائلاً إلى الحُمرة (قُصَّ أقصر من شعر غالبية رجال ذلك الزمان)، وجهاً عريضاً، وسيماً، لا شيء فيه مميَّزاً (وجهاً عاماً، يمكن، بصورة ما، أنْ يضيع في أي حشد)، وعينين بُنيّتين ثابتتين، عينين نافذتين لرجلٍ لا يخشى شيئاً. لا هو نحيل، ولا ممتلئ، لا طويل ولا قصير، لكنه يوحي بالقوة البدنية، ربما بسبب ضخامة يديه. أما مارغو، فجلست دون أنْ تحرِّك ساكناً، تُحدّقُ إلى الفراغ وكأنَّ مهمتها في الحياة هي أنْ تبدو ضجرة. لكنها جذّابة، بل شديدة الجاذبية بالنسبة لي أنا صاحب السنوات العشرين، بشعرها الأسود، وسترتها الصوفية السوداء عالية الرقبة، وتنورتها السوداء شديدة القِصَر، وحذائها الجلدي الأسود عالي الساق، والمساحيق السوداء الثقيلة التي تُحيط بعينيها الكبيرتين الخضراوين. لعلها ليست جميلة، لكنَّها صاحبة جمال زائف، وكأنَّ أسلوب مظهرها ورُقيّها يُجسدان بعضاً من المثل الأعلى الأنثوي لذلك العصر.

   قال بورن إنه ومارغو كانا على وشك أنْ يُغادرا، لكنهما شاهداني واقفاً وحدي في الركن، ولأنني بدوت شديد التعاسة، قررا أنْ يقتربا ويبعثا السرور في قلبي – فقط ليتيقنا من أنني لن أحزّ عُنقي قبل ختام الأمسية. ولم أعرف كيف أقاطع تعليقه. وتساءلت، هل هذا الرجل يوجه إليّ إهانة، أم كان في الحقيقة يحاول أنْ يُبدي بعض الكياسة لشاب غريب ضائع؟ كان لكلماته بحد ذاتها سِمة معيّنة لعوب ومُلطِّفة، لكنَّ النظرة في عينيّ بورن وهو يقولها كانت باردة ومنفصلة، ولم يسعني إلا أنْ أشعر بأنه كان يختبرني، يوبخني بسخرية، لأسبابٍ فشلتُ تماماً في فهمها.

   هززتُ كتفيّ باستخفاف، ورسمتُ له ابتسامة صغيرة، وقلت: “صدّق أو لا تُصدّق، إنني أقضي أجمل أوقات حياتي”

   هنا نهضَ واقفاً، وصافحني، وعرَّفَ عن نفسه. وبعد أنْ سألته عن برتران دو بورن، عرَّفني على مارغو، التي ابتسمت لي في صمت ومن ثم عادتْ إلى عملها كمُحدِّقة إلى الفراغ بنظرة مجرّدة.

   قال بورن، “اعتماداً على سنّك، وعلى معرفتك بالشعراء المغمورين، أُخمِّن أنك طالب. طالب أدب دون أدنى شك. في جامعة نيويورك أم في كولومبيا؟”

   “كولومبيا”

   تنهّد. “كولومبيا. يا له من مكان كئيب”

   “أتعرفها؟”

   “إنني أُدرِّسُ في مدرسة العلاقات الدولية منذ شهر أيلول. كأستاذ زائر بعقد لمدة عام واحد. لحسن الحظ. نحن الآن في شهر نيسان، بعد ذلك سأعود إلى باريس لمدة شهرين”

   “إذن فأنت فرنسي”

   “طبقاً للظروف، والميل، وجواز السفر. لكنني سويسريّ المولد”

   “سويسري فرنسي أم سويسري ألماني؟ إنني ألاحظ النبرتين في صوتك”

   أصدر بورن فرقعة خفيفة بلسانه ومن ثم أمعن النظر في عينيّ. قال “لديك أُذُن حسّاس. في الواقع، أنا كلاهما – نِتاج هجين لأم تتكلم الألمانية وأب يتكلّم الفرنسية وقد نشأتُ وأنا أتنقّل جيئة وذهاباً بين اللغتين”.

   لمّا لم أكن أعرف بما أُجيب، سكتُّ برهة ومن ثم طرحتُ سؤالاً غير مؤذٍ: “وماذا تُدرّس في جامعتنا الكئيبة؟”

   “الكارثة”

   “هذا موضوع شاسع، ألا توافقني؟”

   “بدقّة أكبر، كوارث حركة الاستعمار الفرنسية. أنا أُدرِّس منهاجاً واحداً في فقدان الجزائر وآخر في فقدان الهند الصينية”

   “تلك الحرب الجميلة التي ورثناها عنكم”

   “إياك أنْ تستهين بأهمية الحرب. الحرب هي أنقى وأشد أنواع التعبير عن الروح الإنسانية حيوية”

   “بدأتَ تتحدث كشاعرنا مقطوع الرأس” 

   “أوه؟”

   “أفهم من هذا أنكَ لم تقرأه”

   “ولا كلمة. أنا فقط عرفته من تلك الفِقرة من كتاب دانتى”

  “لقد كان دو بورن شاعراً مُجيداً، بل ربما شاعراً ممتازاً – لكنه مُحيِّر جداً. ألّفَ بعضاً من قصائد الحب الرائعة ومقطوعة رثاء لموت الأمير هنري، لكنَّ موضوعه الرئيس، الشيء الوحيد الذي بدا أنه يأسر اهتمامه بكل شغف حقيقي، فكان الحرب. كان يجد فيه متعة لا حدود لها.”

   قال بورن، مبتسماً لي ابتسامة ساخرة، “فهمت. إنه رجل يجد هوى لديّ”

   “أنا أتحدث عن متعة مشاهدة رجال يُحطم كل منهما جمجمة الآخر، ومراقبة قلاع تتهاوى وتُحرَق، وعن مشاهدة الموتى وحرابٌ تخترق جوانبهم. إنه مشهد مُثير، صدّقني، ودو بورن لا يرفّ له جفن. كان مجرد التفكير في ساحة الحرب يملؤه بالسعادة.”

   “أفهم من هذا أنه ليس لديك أية رغبة في أنْ تُصبح جندياً”

   “أبداً. إنني أُفضِّل أنْ أذهب إلى السجن على أنْ أقاتل في فييتنام”

   “وعلى فرَض أنكَ تفاديت السجن والالتحاق بالجيش، ما هي خططك؟”

   “لا خطط. فقط أتابع ما أقوم به وآمل أنْ ينجح”

   “وهو؟”

   “فن الخط. فن الكتابة الجميل”

   “هذا ما حسبتُ أيضاً. عندما رأتك مارغو من الطرف المقابل للغرفة، قالت لي: انظر إلى ذلك الفتى ذي العينين الحزينتين والوجه المتأمل – أراهن على أنه شاعر. أهذا ما أنت عليه، شاعر؟” 

   “أكتب قصائد، نعم. وأيضاً أراجع الكتب لصالح صحيفة سبيكتاتور” 

   “تفاهة اللا متخرجين”

   “كل إنسان يجب أنْ يبدأ من مكان ما”

   “شيء مُثير…”

   “ليس كثيراً. إنَّ نصف الذين أعرف يرغبون في أنْ يُصبحوا كُتاباً”

   “لِمَ تقول يرغبون؟ إنْ كنتَ قد بدأت فعلاً، فالأمر لا يتعلَّق بالمستقبل. إنه موجود أصلاً في الحاضر”

   “لأنَّ الوقت لا زال مبكّراً لمعرفة إنْ كنتُ جيداً بالقدر الكافي”

   “هل تتلقّى نقوداً مقابل مقالاتك؟”

   “طبعاً لا. إنها مقالة جامعية”

   “حالما يبدؤون بدفع نقود مقابل عملك، سوف تعرف أنك أصبحتَ جيداً بالقدر الكافي”

   قبل أنْ أتمكن من إعطاء جواب، إذا ببورن يلتفت فجأة نحو مارغو ويُعلِن: “أنت على صواب، يا ملاكي. إنَّ صاحبنا الشاب شاعر”

   رفعت مارغو عينيها نحوي، وبنظرة تقييم، حيادية، تكلّمتْ للمرة الأولى، ناطقة كلماتها بلكنة أجنبية دلّتْ على أنها أوضح من لكنة رفيقها – لكنة فرنسية جليّة. قالت “أنا دائماً على صواب. من المُفترَض أنك تعلم هذا أصلاً، يا رودولف”

   تابع بورن، ولا يزال يُخاطب مارغو، “شاعر، أحياناً يُراجع الكتب، وطالب في القلعة الكئيبة فوق المرتفعات، مما يعني أنه ربما جارنا. ولكنه بلا اسم. على الأقلّ لا عِلمَ لي به”

   قلت، مُدركاً أنني أهملتُ التعريف بنفسي عندما تصافحنا، “اسمي ووكر. آدم ووكر”

   كرّر بورن، مستديراً عن مارغو وناظراً إليّ وهو يُشرق بإحدى ابتساماته المُلتبسة، “آدم ووكر. اسم أميركيٌ أصيل وجيد. ينمّ عن قوة شديدة، ورقّة، ويُعتدّ به. آدم ووكر. صائد الجوائز الوحيد في فيلم ويسترن بالسينما سكوب، يجوب الصحراء حاملاً بندقية بست طلقات على صهوة حصانة البنيّ الكستنائي. أو طبيب جرّاح رقيق القلب، ومستقيم في مسلسل تلفزيوني يُعرَض أثناء النهار، على علاقة حب مأساوية مع امرأتين في وقت واحد.”

   أجبت “يبدو أصيلاً، ولكن لا شيء في أميركا أصيل. الاسم خلعه عليّ جدي عندما استقرّ في جزيرة إيليس في عام 1900. ويبدو أنَّ سلطات الهجرة وجدت أنَّ اسم والشينكسكي صعب النطق، فاستبدلته بووكر.”

___________________________________________

فصل من رواية بول أوستر الأخيرة “لا مرئي”

 

الصورة من فيلم “كلاب شاردة – Stray Dogs” للمخرج التايواني تساي مينغ ليانغ

*****

خاص بأوكسجين