سوناتا الفراشة المحترقة
العدد 262 | 04 كانون الأول 2020
عبدالله المتقي


 

 

لا تنظري إلى ثقوب جوربه، انظري إلى ثقوب قلبه لتعرفي كم رصاصة طائشة رأتها عيناه ولم يسقط على الأرض

*ثقوب – سعيد منتسب

——

   ها هما الآن في السيارة، وصيفة العايدي تستمتع بسوناتا “هزة الشيطان” Devil's   Trill  للإيطالي جيوسيب تارتيني، وكم حكت له بتلك الطريقة الغريبة عن تارتيني الذي رأى الشيطان في حلمه وأنه طلب منه أن يكون خادماً له، وفي نهاية الدرس الموسيقي، سلّم كمانه إلى الشيطان ليختبر قدراته، فبدأ الشيطان على الفور بالعزف على الكمان ببراعة فاقت الوصف إلى درجة أحس بها (تارتيني) بتقطع أنفاسه، وبعدها عاهد الشيطان مقابل بيع نفسه له موسيقيا.

   وكم كان عبدالله الداودي حينها يتمنى لو تم تبليسه، تسلمه رجليها، ليعزف على أصابعها بلسانه سوناتا الشهقة الأولى، وكي تحس أنها بيانو، تسترخي فتحملها لذة النوتات على بساط من الرعشات، إلى تلك المرأة المفتقدة بداخلها، المرأة التي تسابق خطاها كي تلتقي بها .

   وللحقيقة، لم يكن زوجها  أمجد النبسي يحس هذه المعزوفة، لم يكن يحس بأحلامها، ولا بالحرائق التي تنغل بداخلها، ولا بالفاكهة التي تتساقط  من جسدها ..  لهذا لم تكن تشعر بشفتيه السكرانتين تلتهمان فمها،  كانت كومة تبن باردة وكفى، حتى أنها لم تعد تشعر بنطفته حامية وتقشعر كما القطة، وأنها كانت تمسح فمها من بقايا قبلاته بكلينيكس وردي كلما انتهى من حراثته اليدوية، و… كان يهيج كالثور لهذا المحو لشفتيه من فيها .

    و.. أخيرا سقط عبدالله الداودي من السماء كالمائدة، قال السارد، ولم يحدث معه الشيء نفسه يوما، قليل من نبيذ Mdaillon  يكهربه ويعيد له حيويته، وينهض من كرسيه ذي الأربع عجلات، كي يتشاركا الرقص والاهتزاز على إيقاع موسيقي الشيطان أمام دهشة الأولاد.

   هذا ما حدث فعلاً، في الشقة الأولى على اليمين بالطابق الثالث، يضيف السارد، وكانت وصيفة ترقص، وتضع رأسها على كتفه وتتغنج، ولم تنس تفاصيل تلك الليلة الموسيقية، ولا رائحة عرقه، ولا أنفاسه الحارقة، عيناه المدورتان والمضيئتان، شاربه الكردي، قبعته البنية، ثم رقصته الكوميدية التي كانت تدمع عيون الأطفال بالضحك الذي عاذ للشقة صفا صفا بعد غياب .

    تحب وصيفة العايدي الموسيقى، وتحب عبدالله الداودي لأنه يقول لها حين تشتعل السوناتا بداخله ويشعلها بداخلها، أن الحب بلا موسيقى يشبه طاحونة بلا ماء، ويضيف أن القبلة معزوفة، الشهقة الأولى أنشودة، وأن الله يحب الموسيقى والصوت الحسن، وإلا ما كان أزعجه نهيق الحمير.

وكانت وصيفة تضحك وتلاعب تسريحتها، وتقول بفرح:

” يعطيك دودة أيها اللعين ”  .

    الزخات التي ترشق زجاج السيارة التي تسابق الشارع صوب مدرسة الأولاد، ذكرته بالزمن الماضي، بنكهة اللقاء الأول، العناق الأول،  بالموسيقى الأولى، بطبق بيتزا فواكه البحر، ثم الاختباء خلف الشجرة كي يستغفل الأولاد،  وتكتشف وصيفة العايدي أنه طفل بشاربين غليظين، ولا يبالغ حين تتوتر العلاقة بينهما ويقول مخاطبا  بصراحته المعهودة :” إلا الأولاد “،  هذا التعلق بـ” الصغيرين ” تعرفه جيدا، تعرف أن شعر رأسه يقف، ويدب في قلبه النمل، كانت تظهر وتختفي كما ذئب محمد زفزاف، كي تقليه في الزيت بعد أن تكون واعدته بالظهور على الواتساب والحديث مع الأولاد، ولن تحرمه من عيونهم اللامعة والصافية، ومن حنانه الذي يذبحها .

 وفي هذه اللحظة، لا يعرف الداودي لماذا تذكر صورة أمجد النبسي، ونسي أنها قالت له في المقهى، وهي ترى وجهها في المرآه :

–        ”  المرآة بدورها تغوي وليست بريئة كما نتصورها “

انتبه عبدالله الداودي لتواصل وصيفة :

–        ” فكم من الأحيان ألبس فستانا تشتهيه المرآة ، ولا أشتهيه …”

لا يقول عبدالله الداودي أي شيء، فهو على الأقل يعرف أن وصيفة تصارع هذه الحياة الرديئة، و تفتك من أنياب الدنيا ما يفرحها، تدوس عليها، وهذا يدفعها أضعافا لتمد حلمها مساحة بلا أطراف، وأحيانا تكره جسدها، فتنشب أظافرها في وجهه .

و.. انتهى كل شيء داخل وصيفة وعبدالله، انتهت “هزة الشيطان” Devil's Trill، دق الجرس،  و.. هرع الأطفال صوب السيارة، كان يعرف أنهم سيقبلونه ويختبؤون في أحضانه، ويعرف أن الملائكة ستحيط بروحه ويطير الفرح إلى أعلى، وأن الأمور تجري كما يحب، وأنه اتخذ قرار تعويض الأب، وهذا شيء مرغوب فيه عند الأطفال، ولهيب متقد بداخلهم، لكن وصيفة العايدي كانت تتعذر دوما بصمت لا معنى لها، فقط تقبّل أصابعه، وتقول له :

– ” أحبك وأفكر فيك “

ينظر إلى وجهها، يمرر عليه أصابعه، قبل أن تنتقل لتسقر على شحمتي أذنيها، تتحرك بهدوء على رقبتها القصيرة، وتختفي أخيرا في تسريحتها، و.. يسمع طنين الذباب في رأسها، وهذا يصعقه على الأغلب، ويتفتح في مخيلته أن الطنين يعني أن الحلوى عارية في مخبزتها.

قال السارد في نفسه لنفسه: تبدو وصيفة للداودي كذيل الطاووس، فاتنة، حامية، وباردة أحيانا أخرى، ويضيف السارد، ويحدث أن تقطع المسافة بينها وبين الداودي، تنبذه من الفايس، تجمد في الواتساب، بعدما تتهمه في رسالة بالياهو بأنه مالكي مغلق يؤمن بوحدانية الحب، وأنه يستبد بالجسد.  .

 وصيفة العايدي لا تعرف، وعبدالله الداودي يعرف أنها مرت بتجارب مدمرة، كما حكت له صونيا العاجي، وكان يتعامى لأنه يعي أنها تحيي كل الشهوات التي قتلها فيها أمجد النبسي، وهذا يعني أن زوجها كان يلقي عليها القبض تطل من نافذة بالفايس على بيت الجيران.

وصيفة لا تصلح امرأة على كثرة مغامراتها التي لا تعرف سببا وجيها يدفعها إلى أن تكون فراشة مشتعلة، وأن تتوهم أنها تعيش بإحساس جديد في هذه الشقة الصغيرة، وتتفل على العالم من نافذتها.

————

من رواية تصدر قريباً للكاتب بعنوان “يعطيك الدورة”.

*****

خاص يأوكسجين

 

 


قاص وشاعر من المغرب. من اصداراته: "قصائد كاتمة الصوت"" 2005، و"" الكرسي الأزرق"" 2005، و""قليل من الملائكة"" 2009"

مساهمات أخرى للكاتب/ة: