سكينة
العدد 205 | 17 كانون الثاني 2017
رضوان آدم


تفتح سكينة عينيها على صوت ندبة تسرح فوق رقبتها. الصدمة سلّمتها إلى ندبة أكبر. كان أولها عند أسفل حلمة أذنها الأيمن ونهايتها متعرجة. البقع البيضاء التي تلطخ صدرها، تركت مسافة مناسبة لنمو بقع خضراء طوّقت سُرّتها الغليظة وأشعرتها بألم. ماتت أمها بعد شهر من ظهور نفس الندبات. لا تخشى سكينة الموت لكن شهرًا واحدًا غير عادل، ومضغوط. لن يُمّكن التسعينية من إعادة حياكة ثوبها الأبيض الذي يتسع من تلقاء نفسه.

أغلقت الباب الرئيسي بإحكام. كمية كبيرة من القلق تناوشها منذ طلوع الفجر. تنتظر قدوم حفيدها بفارغ الصبر. كل صباح تتناول فطورها على طلة صبري محسوب: الطفل المُعظم. كان الذكر الوحيد الذي أنجبته ابنتها الوحيدة، نفيسة، على خمس بنات. عمّدته الجدة رجلاً قبل الأوان.

تسارع الزمن ولم تأبه سكينة. اشترت له علبة سجائر كليوباترا قبل أن يبلغ الثامنة. لما هاجمه القطران ضربته حُمى وبرزت عيناه. كاد صدره يهرب من الألم. صرخ ثلاثة أيام فجهّزت نفيسة نفسها لدفنه في البيت، شأن أشقائه الذكور الذين ماتوا قبل أن تحفظ ملامحهم. جُنّت سكينة. تشعر بالذنب. غسلت وجه صبري بماء بارد مخلوط بنعناع وبُن. فرحت سكينة وصبغت شعرها بالحناء. يضحك صبري قبل يومين ويعاتب الجدة: “كنت هتموتيني يا جدة”.ابتسمت وناولته سجائره التي نسيها على المصطبة: “الدُخان حياق الفتوات يا واد. أنت بسبعة أرواح يا نور عيني”.

تجرّعت سكينة مرارة انتظار صبري سنوات طويلة. ترقبت طلعته كي يحمل نعشها إلى مدافن العائلة في الناحية البحرية للقرية. مرّة، قالت لنفيسة التي تتلوى من آلام الحمل: “بّه بّه. المسافة طويلة للقبر والفراق عِفِش يابت. مين هيشيل خشبتي يا حبيبة؟. وحياة الرسول ربنا ما هايكسفك”. تقاطع سكينة دموع ابنتها: “متبكيش علىّ. أنا شديدة. وربنا هيجبر بخاطرك. متبكيش يافقرية. قلبي حاسس. خلي عشمك بس في السيدة زينب والغوالي. وحياة أبوكي ليطلع واد. صبري؟. إدعي يابت. ريحته في مناخيري”.

بعد أسبوعين صغُرت سكينة خمسين عامًا. رقصت حافية مع الفتيات والنسوة المُهنئات. كشابة في العشرين مشت إلى سوق السبت واشترت بخورًا وخمس “دستات” من الشموع البيضاء وثلاثة أكياس من الفول السوداني ومثلهم من الحمص. ذبحت جَديين ونذرت ثالثًا للأولياء.

لا تتضايق سكينة لأن صبري يقضي تدريجيًا على ثروتها. يتم كل شيء برضاها. كانت تعتقد أن هذا سيجعله قريبا منها دائمًا. كان يحبها حقًا لكن مزاج الجدة المتعكر في الأسابيع الأخيرة لأسباب، لا يعرفها هو، جعل سكينة ترفض منحه المال لشراء السجائر ودفع ثمن جِلساته على مقهى السكة الحديد.

بينما تفشل سكينة للمرة الخامسة في عّد الندبات السوداء في رقبتها تسمع صوتًا غريبًا في صحن البيت. كان صوت الدجاج الذي اشتم رائحة أصابع بشرية في الجوار. المياه الزرقاء التي لا تساعدها على الرؤية الجيدة دفعتها إلى الاقتراب أكثر من الأقنان لعلها تفهم. الخربشات التي تسمعها غير معروفة المصدر. عندما لفت جسدها الهزيل ناحية السقيفة أطلقت الماعز إنذارًا شدها ناحية السور. البرودة التي تضربها الآن تسحب خديها الأصفرين إلى أسفل.

لم تفقد تماسكها لكنها تضايقت. كان صبري هو الذي ينط من فوق السور الطيني العالي. كان مشهدًا مؤسفًا لم تتوقعه حتى في كوابيسها. انخلع قلب سكينة عليه وهو يحاول عبور السور. لم يكن متمرسًا لذا بدا مُنهارًا. أطلقت سكينة ضحكة صغيرة حتى يقلل من توتره فلا يتأذى من شوك النخيل ورؤوس الزجاج. كان السور مُجهزًا لردع سارقي البهائم في ليال الشتاء. وضعت سكينة يدها فوق ذقنها. حاولت أن تتكلم، ثم انتظرت ما يسقط من فمها المرتعش.

“ليه يا وليدي؟. تنقب بيت جدك يا صبري؟”.

“يا جدة.. والله!..”.

تخلى عنه الكلام كأنه أخرس يتأته. ينظر صبري بخجل بالغ إلى أقدام الجدة. كأن ثلجًا نزل فوق رأسه لا تخرج العبارات سليمة من الطفل الذي يعشق الكلام والحكايات. لم يتحرك من مكانه. كان نصفه السفلي يتدلى في الشارع ونصفه الآخر في مستوى نظر جدته. تغلق سكينة جفنيها وتفتحهما بانتظام. ضربته بنظرة غير مفهومة خلعت قلبه فكادت حمولته تُسقطه إلى خلف.

عضّت سكينة على شفتيها من الدهشة. لا يبادلها صبري الكلام. بدا شعره واقفًا كأنه يستسلم للورطة. كان متعثرًا في العبور حتى قبل ظهور الجدة. تركته مُعلقًا ولم تتكلم. أفسحت طيور البيت مجالاً لخطوة سكينة المفاجئة. ركضت الجدة كأنها تهرب من طاعون. طار مداسها في الهواء. اختفى الأوز في الناحية القبلية ودخل نصف الدجاج أقنانه. ارتعب صبري لأن جدته قد لا تسامحه. التمعت عيناه عندما بكى من الخوف. كان على وشك الهروب، لكنه تذكر أن الأشباح ترتعب من جدته. فكر أن يُلقي بجسده فوق الوقيد الذي ينتظره بالأسفل، لكن عقله لا يستجيب. التصق صدره أكثر بالسور حتى لا تنكسر رقبته. إذا لم تساعده الجدة في الهبوط سيقتله الخوف إن لم تطأ قدماه الأرض.

 فتح صبري فكيه ليصرخ، لكنه بسرعة أبعد عن ذهنه أن الجدة تجهز لمهاجمته. بينما يُعدّل من وضع جسده يستغرب اختفاء سكينة لأكثر من خمس دقائق. قبل أن ينادي عليها باغتته الجدة بقهقهة عالية. يشاركها صبري بمكر. استغربت قدرته على التحمل كل هذا الوقت وهو لم يتعد العاشرة من عمره. “العرق دسّاس يا صبري”.

منعت ما يشبه دموع الفرح. كأنها ترى صورًا متحركة لمغامرات جده مسعود عمران. كأنه حبة فول وانقسمت نصفين. تترحم على الرجل مُعتبر السيرة. أقسى رجال نجوع الشرق في كل السّير. كانت سكينة تبادله شفقة عميقة لأنها ابنته الوحيدة على ذكر مات في الرابعة بالحصبة. قبل أن يموت أبوها أوصاها أن تزوره بانتظام. طبطبت على كتفه العريض فلم تجف دموعه إلا بعد أن خرجت روحه من النافذة. تُعيد وتزيد سكينة سيرته في كل جِلسة. تُحّفظها للصغار بشرط أن يقرأوا للمرحوم الفاتحة في أول الحكاية وفي طرفها الأخير.

الشمس الحامية التي تضرب جبهة صبري كادت تُسقطه من فوق السور. صمت الجدة بدا كأنه جزء من خطة تدريب. بعد أن شعرت أن حفيدها تعب، ضربت سكينة الجاموسة الكبيرة فوق مؤخرتها بعصا خيزران، فالتصقت بحائط السور. المسافة بين صبري وظهر الجاموسة لا تتيح له نزولاً آمنًا. تعمدت الجدة تركه يتصرف. نجا صبري. تلقفته الجدة بين ذراعيها فهبط سالمًا فوق الأرض. هللّت الماعز وأسراب الدجاج. بعد أن سلّم نفسه لسكينة، حاول أن يشرح لها الأمر، لكنها منعته برفق. أخرجت من جيب جلبابها الفضفاض جنيهًا، كأنها تكافئه.

يبلع صبري ريقه ويسألها: “بس يا جدة.. ده أنا..”.

لم ترد عليه سكينة. تقدمته بخطوات محسوبة. توقف مخ الصغير عن التحليل فأبطأت قدماه. يعتقد أن جدته جُنّت. نادته من الداخل. طلبت منه أن يذهب إلى الدُكانة ليشتري لها كيس مدغة، كثير الورق ، قليل المطرونة، ويشتري له علبة سجائر.

كانت سكينة دائمًا تحتفظ بكيسي مدغة في طاقات بيتها لأن نفيسة كانت ترسل صبري، عندما تخلص جُرعتها خصوصًا في أواخر الليل. المسافة التي غاب فيها صبري فوق الحائط كانت كافية لأن تُخفي سكينة ما بدأته عند أذان الفجر.

كانت تعد الهالات السوداء إلى أن يأتي صبري. لما شعرت أنه تأخر أخرجت المرآة الكبيرة من صندوقها الحديدي الذي لا تفتحه حتّى في وجود صبري. عندما شعرت سكينة أن عدد الندبات ليس هينًا تشاءمت. قضمت أظافرها وكسّرت المرآة المنحوسة وسبّتها بعنف. استعانت بالمرآة الصغيرة التي تُظهر الهالات هينة. عندما توقفها في وضع عمودي، بعيدًا عن الشمس، تستعيد سكينة رقبتها من غير ندبات. تم لها هذا قبل قدوم حفيدها بدقائق قليلة.

وصل صبري قبل أن تبدأ بجمع حُطام المرآة. كان يضع أذنيه أسفل النافذة. مر عليه فلاح متجه إلى أرضه فتظاهر بأنه يبحث عن شيء في الأرض. لا يمكن أن يتجسس على جدته ويسرقها في يوم واحد. يزداد شعوره بتأنيب الضمير كلما فكر أن جدته سامحته وكافأته بعد جريمته التي لا تترك صدره يرتاح.

حصّل صبري كمية لا بأس بها من التساؤلات والأسرار الناقصة. لم يفهم مع من تتعارك جدته، ولماذا تتحدث مع نفسها بصوت مسموع وتذكر اسمه عدة مرّات. فكر أن ينبهها حتى لا يسمعها المارة فيتهمونها بالجنون، لكنه قرر أن ينتظر ويسكت. خشي أن تسأله عن تفاصيل ما سمعه ثم تعاقبه لأنه كان يتنصت فتضيع الهبات وأسرار الصباحات التالية.

“يا جدة سكينة..افتحي”. يتنفس صبري بسرعة كأنه وصل للتو ثم يشعل، سيجارة قبل أن يرى جدته.

تلملم سكينة بعض تفاصيلها في كيس قديم. ضربها ذعر خفيف. بطرحتها السوداء، غطت صدرها المعطوب وفتحت الباب. ناولها “الهون” لطحن المدغة، وراح يعد لهما كوبين من الشاي المغلي. بينما يغسل الأكواب في الطلمبة الحمراء نظر لصورته في الحوض الصغير. كان وجهه مشدودًا إلى صوت يسمعه لأول مرة. الطريقة التي تضرب بها الجدة المطرونة في أوراق التبغ غريبة. لم تكن ضرباتها التي تعودها. كانت تئن وتضرب المدغة كأنها تُعذبها.

ينظر صبري لجدته كأنه يراها لأول مرة. بدت مفاصل يديه أقل مرونة. فيما يرتفع صوت ضربات الهون يتدخل صوت أعلى رغم بُعد مصدره. فكر صبري في احتضان جدته الآن. كان تأثير الصوت الذي يعرفه يهز فروة رأسه. وقعت السيجارة من يده لأنه شعر أن البومة تستهدفها. اقترب صبري من سكينة أكثر. يوم مُرهق جدًا. يفهم أن نعيق البومة دليل دامغ على قُرب موت الجدة. خاف أن تموت خلال الدقائق التالية. الارتباك يضرب سكينة التي تتذاكى كأنها لا تهتم بالبومة المضروبة.

قرر صبري مراقبتها كظلها لمنع الموت من اختطافها. حاول أن يربط بين ما سمعه من الجدة وبين ما يحدث الآن. عندما فرّت منه دمعات لم تسمعه الجدة. كانت سارحة في خوف حاولت إخفاءه لكنها فشلت. ورث عنها صبري الفراسة والتركيز. صوت البومة يقترب أكثر كأنه يخترق الحوائط. كانت البومة تنعق فوق السور ثم انتقلت إلى سطح البيت. كأنها شعرت أن أحدًا لم يسمعها، طارت على مسافة منخفضة من مدخل بيت سكينة. يُغلق صبري الباب الذي كان مُغلقا بالفعل. تتلفت سكينة لحفيدها في صمت كأنها تودّعه. راقبت دموعه التي تنهمر وصدره الذي تكهرب. ركنت المدغة جانبًا. تتنفس سكينة بصعوبة كأنها تموت. قبل أن يصرخ صبري أغلقت الجدة فمه وابتسمت في وجهه. أشعلت معه سيجارة وطلبت منه أن يسقيها.

“كرشة نفس يا حبيبي. أنا رايقة يا صبري”.

يُحضر صبري الماء من القُلة الصغيرة التي كادت تقع من يده. عيناه تُكذّب الجدة التي تبلع ريقها ثم تضمه إلى صدرها. كأنها ستموت بعد دقيقة أوصته أن يكون قويًا وبطلاً كمثل جده مسعود.

يحاول صبري السيطرة على نفسه. تنفسا الصُعداء معًا. غابت البومة فعادت أنفاسهما حرة. تسأله الجدة عن شقيقاته فيطمئنها عليهن. يفهم صبري مقاصد السؤال فيطلب منها أن تقوم معه فورًا لزيارة أمه، فترفض فاهمة قصده وساخرة منه.

“خايف على جدتك. حِنيّن زي جدك. بس البومة لو قاصداني مش هينفع أهرُب”.

رفع صبري حاجبيه، فكشف عن أسنان أبادتها الحلوى والسجائر. لم تستقر ملامح وجهه إلا عندما طمأنته سكينة أن البومة تمر منذ سنوات فوق بيتها لتستريح. يضحك وتقهقه سكينة.

أشعل سيجارته الرابعة، وتناولت جدته ما يعادل الخمس جرامات مدغة. هزت صدرها إلى أمام ثم عادت به إلى الوضع الطبيعي كأنها ترقص. كررت سكينة الحركة مرتين. طريقتها الخاصة مع المدغة تُشبه رقصة صحراوية قديمة تعلمتها من الجدّات والخالات: تحرك صدرها ورأسها مع أول دُفعة مدغة فيتحرك صدرها كأنه يرقص، ثم تهدأ قليلاً حتى يمتص مخها المسحوق. يضحك صبري، فتحرك سكينة صدرها لطفلها الذي قهقه.

 يحفظ صبري في عمره هذا أكثر من أربعين مغامرة لجده مسعود عمران. يوقف جدته التي تحاول إعادة إحداها على مسامعه: “عارفها. ويدخل جدي عليهم بالجرار الروماني، ويهد بيوتهم. قريت الفاتحة بس عايز واحدة جديدة. ولاّ شطبتي؟”.

لم تكن سكينة على طبيعتها مع صبري. هربت كل الحكايات من عقلها الذي ينبه أذنيها إلى أن البومة لم تبتعد كثيرًا عن بيتها. تعكر مزاجها وبدا أن نبوءتها ستتحقق. تتناول بعضًا من المدغة حتى لا يقلق صبري فيقلقها أكثر. تفكر في إخراج ثوبها الأبيض من الصندوق لتعديل مقاساته لكن صبري يُؤجل الرغبة.

يراقب صبري جدته التي تتمتم بكلام يشابه ما سمعه. يعتقد أن المدغة خدرتها. كانت ترُج رأسها يمينًا ويسارًا كأنها تستعد للوقوع فوق الأرض. حركات الجدة كادت تقضي على صبري الذي يستمر في تدخين سجائره تنفيذًا لرغبتها.

سكينة التي شعرت أنها خفيفة، ما يمكنها من مطاردة البومة التي تنعق الآن بشكل متقطع، تقلب في رأسها تاريخ القرية التي غيرت جلدها مرات. كانت في كل زيارة للبومة تتأهب للموت. تُضّيق مقاسات كفنها الذي اشترته قبل أعوام طويلة. تعتقد أن ملك الموت لن يُخطئها هذه المرة. كبُر صبري، ويستطيع الآن حملها ودفنها وأخذ عزائها كرجل بالغ. تتيقن سكينة بطريقة ما أن الموت لن يُمهلها حتى الشهر. كان قريبًا جدًا: فوق البيت.

تترك صبري وحده في السقيفة وتُغلق عليها غرفتها، ناسية أنها علمته قراءة أفكار الغير. تفتح الصندوق وتُخرج ثوبها الذي يحتاج إلى تصغير الأكمام وتقصير في الطول وكشكشة في منطقة الخَصر. ما يجري الآن في غرفتها لا يدخل في باب الحكايات التي يجب أن يعرفها صبري. ربته الجدة من أجل المهمة التالية.

تُنفذ الجدة وصية أبيها الذي يبتسم على سطح القماش. تجرح الإبرة سبابة يدها اليسرى. تسمع أنفاس صبري الذي يتلصص من خُرم الباب. لا يعرف أنها اشتمت رائحته عندما كان يراقبها من تحت النافذة. علمته قراءة بعض أفكارها، لكنها احتفظت لنفسها بكل مفاتيحه. لم تعاتبه لأنها تحبه. نقطتا دم تنزلان فوق الكفن فلا تهتم سكينة. أوشكت على الانتهاء من ضبطه على جسدها. يفرك صبري في السقيفة كمجنون. غابت جدته نصف ساعة واقترب صوت البومة أكثر. خاف أن تهاجمها البومة من النافذة، فأمسك بعصا طويلة وجدها في صحن البيت.

خرج إلى الشارع وطاردها ثم رماها بطوبة. ابتسمت سكينة في صمت. يغلق الباب ويتراجع إلى مقعده. العرق النازف من جبهة سكينة تزامن مع أنفاس متقطعة أسعلت صدر حفيدها. القلق يعصف بالجبهتين لكن ناحية سكينة كانت الأمور أكثر اضطرابًا. كانت تبكي جسدها الذي أكلته الأيام. شعرت أن روحها تقاوح مع هيكلها العظمي. برودة مكثفة تسري في عظامها كأن فرسًا يركض.

قصّت مترًا كاملاً من القماش ورمته داخل الصندوق. لم يتحمل صبري قلقه على الجدة. فتح الباب الرئيسي وأسرع وراء صوت عال. كان الصُراخ في بيت محمود الداوي. كان بيته يبعد بخمسة بيوت عن بيت سكينة. أنهت البومة مُهمتها. تأملت سكينة سماء غرفتها ثم أغلقت صندوقها، كأنها تحتج على هذا العذاب. كادت تقع فوق الأرض من الرجفة. قاومت فقط من أجل صبري الذي أشعل سيجارة بسرعة عندما رآها. فتحت سكينة عينيها على الشارع فتسمّرت مكانها. لا تنظر إليها البومة التي تطأطئ رقبتها كأنها تعتذر.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وصحافي من مصر. من أعماله مجموعة قصصية بعنوان "جبل الحلب"" 2013"

مساهمات أخرى للكاتب/ة: