زيارة خاطفة
العدد 241 | 03 شباط 2019
طارق يوزباشي


بعد 6 سنوات من الغربة وكربتها قررت أن أعرّج على مدينتي، لكن هذه المرة لن تكون زيارةً على مذهب الGoogle Maps البخيل وغير المضياف والذي يستقبلك دوماً بـ”قهوة مع السلامة” وبتكشيرةٍ غريبةٍ تشعرك لوهلة وكأنك في زيارةٍ إلى بيت زوجة أبيك أو “بيت خالتك” لا قدر الله! زيارتي ستكون عن طريق “معبر الذكريات” والذي لا يحتاج إلى جواز سفرٍ ساري الصلاحية ولا إلى تأشيرةٍ مختومةٍ بالوجع ولا حتى إلى تفييشٍ حدوديٍ والذي يكون شبيهًا إلى حدٍ ما بصحيفة أعمالك التي ستعرض عليك يوماً عند السؤال! وأنت وحظك فلا يوجد شيء مضمون ولا تستطيع أن تطلب في مثل هذه الحالات شهادة ضمانٍ أو كفالةً كتلك التي كنت تحصل عليها عند شراء آلة لصنع القهوة أو صاعق البعوض الكهربائي!

 

منذ أن قدمت إلى هذه البلاد الباردة وأنا أطلب طعامي عن طريق تطبيقٍ هاتفي يجمع لك كل محلات الأكل والمطاعم العالمية في مكانٍ واحدٍ وما عليك سوى أن تختار، وكلمح البصر يصبح طلبك عند باب بيتك ويا دار ما دخلك شر! المهم طلبت هذه المرة أن يأتيني الليل بعتمته، وهذا بالفعل ما حصل فلم يتأخر علي الليل كعادته ووصل على وقته، فحتى الليل هنا مختلف عن الليل في بلداننا والذي غالباً ما يصل متأخراً جراء الوقوف على طوابير الأفران والغاز والمازوت ودفع الفواتير والحصول على التواقيع والأختام والطوابع وشهادات حسن السلوك غير المأسوف عليه!

 

أطفأت أنوار شقتي كاملةً حتى أصبحت تبدو وكأنها قطعة من الليل، تمتمت دعاء السفر بصوتٍ خافتٍ وقلت يا مسهل يا الله! ها أنا أصل إلى مشارف المدينة وضوء النهار ما زال يشعر بالنعاس وعلى ما يبدو لم يشرب قهوته بعد! المهم بدأت أراقب بعض الأشخاص وهم ينتظرون عند موقف الباص.. آخرون يمشون على عجلٍ وكأن أحداً يلاحقهم.. والغالبية العظمى لم تكن قد استيقظت بعد، فالشوارع تبدو وكأنها أطباق طعام فارغة تنتظر الوجبة الرئيسية!

 

ورغم قلة من صادفتهم في طريقي حتى الآن، إلا أنني لاحظت بأن أغلب من وقعت عليهم عيني لا وجوه لهم! رجالٌ ونساءٌ وأطفالٌ يمشون دون وجوه وكأنهم ولدوا كذلك، وكأن وباءً ما حل بالبلد، وكأن الوجوه أصبحت حكراً على الأغنياء ورجالات السلطة والجاه، والغريب في الأمر أن الجميع يتصرف بشكل طبيعي وكأن الناس اعتادوا أن يتعاملوا مع بشرٍ من لحمهم ودمهم دون أن يكون لهم وجوه تميزهم وتجعلهم كغيرهم!

 

دعوت الله في سري أن يكون ما شاهدته وهماً أو أضغاث حلمٍ أو خيالاً أو صدمة عاطفية ناتجة عن سعادتي بعودتي إلى مدينتي التي غبت عنها لسنواتٍ ولم تغب عني قط! وصلت إلى حيّنا الصغير الوديع الذي لم يذكر لا في شعر ولا في روايةٍ أدبيةٍ كسكانه الدروايش، وبعض الدكاكين كانت قد بدأت تفتح أبوابها أملاً بالرزق والكسب الحلال. هرعت بسرعة إلى دكان أبو محمود ودخلتها كريحٍ عاصفة قائلاً: “يسعدلي صباحك يا أبو محمود”، لأسمع صوتاً بارداً كبرودة الطقس في كندا يردّ: “أهلاً”! ليستدير بعدها أبو محمود باتجاهي وإذ به دون وجه! لم أعرف ماذا أقول لكنني حاولت أن أتمالك نفسي وهربت من الموقف بسؤالي أبو محمود عن أحواله وإن أسعفته ذاكرته ليتذكر من أنا! للأسف لم تفلح محاولتي في الهروب فعلى ما يبدو أنني أصبحت منسياً هنا مثلي مثل الفرح والضحكات والكهرباء وأنابيب الغاز والأحاديث المحقونة بالأمل، فلم يتذكرني أبو محمود!

 

بالله عليك يا أبو محمود، أخبرني ما الذي حصل لك! أين وجهك؟ هل أنا أتوهم أم أنني مسست في عقلي؟ تنهد أبو محمود تنهيدة ربما سمع صداها في أروقة الأمم المتحدة، ليجاوبني بعدها كالتالي: “وجهي أعطيته لابني محمود قبل سفره عندما ودّعته في المطار! كنوعٍ من التذكار حتى لا يشتاق لي. قال لي ما حاجتي أنا للوجه وولدي محمود ليس بقربي؟ الوجوه خلقت لتضحك، لتطبع القبل، لتستمتع برؤية الأبناء، صدقني لا حاجة لي للوجه بعد الآن! ويا سيدي عندما يعود محمود بإذن الله فأنا متأكد بأن وجهي سيكون في الحفظ والصون”!

 

خرجت من الدكان وكل ما في هذا الكون من حزن مدفون في صدري. أسرعت قليلاً ورحت أتجه مباشرةً نحو العمارة التي تحتضن بيتي دون أن أنظر إلى أحد، وعند باب العمارة التقيت بجارتنا “أم سعيد” والتي هي بدورها قد فقدت وجهها! ألقيت عليها تحية الصباح بصوتٍ خجولٍ بالكاد يسمع، وإذ بها تقول لي:”يسعد صباحك، ما انت جارنا فلان والله عرفتك من صوتك”، قلت لها نعم هو أنا بشحمه ولحمه ووجهه! ماذا عن وجهك يا أم سعيد، هاتي حديثيني؟

 

تنحنحت أم سعيدٍ وكأنها ستلقي خطاباً أمام ممثلي الدول الصديقة وغير الصديقة وقالت بصوت مشبعٍ بالأسى:”انت كنت بتعرفوا لسعيد، كان بعمرك بتوقع؟ اي والله راح سعيد وراح معه وجهي!” هنا شعرت بالسخط تجاه كل لغات العالم! يالله ماذا سأقول لها؟ هل تنفع “I am really sorry for your loss” في مثل هذه المواقف أم “العوض بسلامتك” تبدو أكثر واقعية؟ اللعنة على كل المصطلحات وعبارات المواساة التي لن تعيد سعيد ولا وجه أم سعيد، آه كم تمنيت لو كنت أخرس في هذه اللخظة بالذات، هكذا رددت بيني وبين نفسي! وكيف مات سعيد يا أم سعيد، حدثيني؟ “والله يا ابني كان راجع من شغله هيك العصريات وإذ برصاصة طائشة بتصيب نص قلبه، تركت كل شي وأخدت قلبه المسكين وقلبي معه!” صمتت أم سعيد لبرهة وصمت معها كل هذا الكون، وأتبعت بعدها: “ومشان وجهي دفنته في قبر سعيد مشان يدير باله عليه، وشو بدي بوجهي أنا بلا سعيد قلي؟”!

 

بلعت لساني بعدها ولم أنطق ببنت شفة وتابعت صعودي الدرج تجاه بيتي، وعند الطابق الثالث التقيت جارتنا أمل والتي كانت تكبرني بسنواتٍ قليلةٍ والتي لطالما رأيتها أجمل فتيات الحي! لم أمعن النظر في وجهها متمنيًا ألا يكون قد حدث معها ما حدث مع الآخرين. وألقيت عليها أيضًا تحية الصباح وسألتها عن أحوالها؟ لترد علي بصوتها الدافىء: “يسعد صباحك والحمد لله على سلامتك”، هنا تجرأت ونظرت إلى وجهها الذي رحل عنها على ما يبدو. لم أستطع التظاهر بأن كل شيء طبيعي وصرخت بصوت مرتفع: “يا أمل ليش هيك صار؟” دون أن أكون دقيقًا في سؤالي، لتجاوبني أمل:”سافر زوجي بعد ما اتزوجنا بشهرين على ألمانيا من 3 سنين وقدملي طلب لم شمل ولهلأ ما انقبل الطلب، فقررت ابعتله وجهي بالـDHL على أمل يساهم بتسريع الإجراءات ويختصر مدة الانتظار”!

 

كان يفصل بيني وبين بيتنا طابقٌ واحدٌ فقط، في الحقيقة تلك المسافة كانت تفصل بيني وبين كل شيء جميل وحنون تركته يوماً داخل ذلك البيت. تخيل أن تجد نفسك قريبًا كل ذاك القرب من ذاك المكان العجائبي، من أصوات أحبابك ووجوههم التي اشتقت إليها وكل تفاصيلهم. لكنك لا تستطيع المضي! لم أستطع إكمال تلك المسافة القصيرة، شعرت ولسبب ما أنني لا أمتلك الشجاعة الكافية لأدخل بيتنا! أدرت ظهري وعدت أدراجي من حيث أتيت دون أن أنظر حتى إلى باب البيت! نعم فكرة أن أرى أحدًا من عائلتي في مثل تلك الحالة جعلتني أشعر بالشلل الكلي، أرتعد خوفًا، فكيف لي حتى أن أتحمل هكذا موقف؟ لا، فأنا أضعف من ذلك بكثير ولا أخجل من الاعتراف بذلك.

 

اهرب يا صبي.. أسرع.. أسرع.. لا تنظر إلى الخلف.. وبينما أتمتم تلك الكلمات.. صادفت أحد الأصدقاء القدامى عند باب العمارة فصعقني بصوته الذي شعرت بحباله الصوتية تلتف حول عنقي حين تكلم:”ايمت رجعت؟”، لم يسألني حتى عن حالي ووفر على نفسه أي نوع من أنواع التحية، فجاوبته بحزن: “ويا ريتني ما رجعت” ودون تردد أردفت:”وشو مشان وجهك؟” ليجيبني بغضب: “شو وين عايش انت؟ ما سمعت عن الأطفال السبعة يلي ماتوا حريق بسبب ماس كهربائي؟ كيف بدك إنو ارفع وجهي بين الناس بعد هيك خبر؟”. لأستنتج بعدها أنه خلع وجهه عنه ذاك اليوم وأحرقه بعقب سيجارته قبل أن ينفس دخانها الأخير!

 

هربت من ذاكرتي كالجندي الجبان المنهزم الذي يفر من ساحة المعركة، هربت مسرعًا كطفلٍ صغيرٍ تاه وسط الزحام وراح يبحث عن أمه هنا وهناك. هربت من وجوه الناس التي هربت بدورها من تلك الحياة المشبعة بكل أنواع الحزن والأسى! هربت خوفًا على بقايا ذكرياتٍ وقصصٍ جميلةٍ كنت قد خبأتها في زوايا ذاكرتي كزادٍ أستعين به في رحلتي الطويلة. نعم أنا لا أريد لما تبقى من ذاك الزاد أن ينفد، لا أريد لكل تلك الوجوه التي أعشق أن تنشق من ذاكرتي وتعلن لجوءها في عالم النسيان. لا أريد لأصوات تلك الضحكات التي استهلكناها يوماً أن تخفت في ذاكرتي، لا أريد أن أستبدل وجوه الناس التي أحب باللاشيء، بالقهر، بالوجع، بالسخط، بالغضب، بالاستسلام..

 

وجدت نفسي جالساً على الكنبة الوحيدة التي تتوسط غرفة المعيشة، كان الظلام يغطي كل ما حولي وكأنني غرقت في أعماق محيطٍ لجيّ، كل شيء كان ساكنًا وكأن زلزالاً مر من هنا. مشيت باتجاه مفتاح تشغيل النور وأضأت الغرفة، لتتحول فجأةً إلى فراغٍ كبير لكنه مضاء هذه المرة. نظرت في المرآة المشنوقة على حائط الغرفة لا لذنبٍ اقترفته، لأكتشف أنّ لا وجه لي!

 

أين وجهي يا الله؟ هل ما زلت هناك؟ صرخت، بكيت، جننت، ورحت أحطم كل ما وصلت إليه يدي وسط ذاك الفراغ لكن لا جدوى… أيقنت حينها أن كل ما يذهب لا يعود ولن يعود.. ربما نسيت وجهي هناك؟ ربما هرب مني وسط كل تلك الأوجاع؟ ربما خُطف؟ تلك هي العبارات التي كنت أرددها وأنا أعد فنجان قهوتي التي أفضلها مغليّةً جيدًا ودون سكر!

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية.

مساهمات أخرى للكاتب/ة: