زجاج مطحون
العدد 201 | 24 تشرين الأول 2016
إسلام أبو شكير


خسرنا الثلاثيني..

في كلّ حرب لا بدّ من ضحايا. طبعاً. ونحن لسنا استثناء..

حدث هذا بعد بضعة أشهر من الحرب..

لم نتوقّع أنّها ستطول إلى هذا الحدّ. تخيّلناها حرباً خاطفة. أسبوعاً أو أسبوعين في الأكثر.. لكنّنا كنّا مخطئين. فالبنّ، رغم مرور كلّ هذا الوقت، ما زال رديئاً. والسجائر لم تعد تصلنا بالكميّات المعتادة. كما أنّهم توقّفوا عن تنظيف الأرائك، فاضطررنا إلى فعل ذلك بأنفسنا.. وبشكل عامّ فإنّ معظم طلباتنا صاروا يستجيبون لها متأخّرين، أو يتجاهلونها أحياناً..

كان واضحاً أنّها حربٌ شرسة ومكلفة.. معركة حياةٍ أو موت..

في تلك الليلة كان النقاش ساخناً حول الحرب.. إلى أين نمضي؟.. أصدقاؤنا. أعداؤنا. الخيانات. التحالفات. الخرائط. الحدود. الأسلحة… والمرايا بطبيعة الحال، والتي يكلّفنا غيابها المزيد من الدماء كلّ يوم..

تكلّم الثلاثيني كثيراً تلك الليلة. ورفع صوته. وكان يضرب الطاولة بقبضته. ويعضّ على شفتيه. ويبتلع ريقه إثر كلّ عبارةٍ يقذف بها من فمه. وعندما غادرنا إلى فراشه رأينا وجهه محمرّاً، وكان ثمّة عِرقٌ ينبض على جبهته.

في الصباح وجدناه جثّةً متخشّبة. أطرافه كانت باردة. وانتبهنا إلى أنّ شفتيه كانتا زرقاوين. مات وهو يعضّ عليهما. أثر أسنانه كان واضحاً.. أغرب ما في الجثّة العينان. كانتا مفتوحتين. رأينا ما يشبه صرخة استغاثةٍ ما تزال عالقةً فيهما.. هل كان يصرخ؟.. لم لم نسمع شيئاً إذاً؟..

كتبنا لهم نخبرهم بالحادث المفجع. وانتظرنا يومين كاملين. لكنّهم لم يفعلوا شيئاً. قدّرنا أنّها أعباء الحرب تشغلهم عنّا. الحرب لعينة دائماً..

– لديهم مسؤوليّاتهم..

قلنا..

لذلك فكّرنا أن نتصرّف..

كنّا نخشى أن يدهمنا الوقت. فالجثّة ستتفسّخ حتماً. عاجلاً أو آجلاً ستتفسّخ.. لذلك قرّرنا أن نضعها في الحمّام، لا لأنّه أبرد قليلاً وحسب، بل لأنّه المكان الذي ندخله أقلّ من سواه. لم يكن لائقاً أن تظلّ أمام أعيننا طوال الوقت، ونحن نجلس، أو نستلقي، أو نتمشّى، أو نأكل، أو ندخّن، أو نخاطب مخدّاتنا.. من حقّ الجثث أن تكون بعيدةً عن أنظار الآخرين. من حقّها أن تعيش موتها في صمتٍ وهدوءٍ وعزلة. فالموت في النهاية شأنٌ شخصيّ جدّاً. حالةٌ خاصّة وسريّة.. أن تموت وحيداً. لا أحد يراقبك. لا أحد يتلصّص عليك. لا أحد يقف فوق رأسك وبيده ورقة وقلم ليدوّن سجلّاً مفصّلاً بالتحوّلات التي تمرّ بها جثّتك، بدءاً من الجسد الممدّد البارد وصولاً إلى كومة العظام المنخورة..

يضاف إلى ذلك – لمزيدٍ من الصراحة – أنّ هذه التحوّلات بالذات كانت تقلقنا أكثر من أيّ أمرٍ آخر. كنّا نتخيّلها فنصاب بالرعب. تتملّكنا رغبةٌ في الإقياء..

تورّم الجثّة. واسودادها. وتشقّق جلدها. واندلاق أحشائها. ورائحة العفن وهي تتسرّب من مسامات جلدها المفتوحة كفوهات البراكين على شكل بخارٍ سرعان ما ينعقد غمامةً زرقاء كتيمة تحوّم فوق رؤوسنا. أسراب الدود تقرض اللحم في إيقاعٍ رتيب يتلف الأعصاب. الدمامل وهي تحتقن بالسوائل، وتنمو شيئاً فشيئاً، ثمّ تنفقئ ليلاً دون صوت، ويتطاير منها رذاذ القيح الأصفر اللزج، لنراه عندما نستيقظ من نومنا وقد لطّخ وجوهنا وملابسنا..

أشياء لا نستطيع غضّ النظر عنها. لا نستطيع تحمّلها.. باختصار.. نكذب على أنفسنا لو قلنا إنّها لا تعنينا. نعم. الثلاثيني صديقنا الجميل الذي سنفتقده حتماً. لكنّ هذا شيء، وأن نعيش مع كومة نفاياتٍ تتحلّل شيءٌ آخر..

– لا ندخل الحمّام إلّا للضرورة. ولا داعي للاغتسال إلّا بعد أن نجد حلّاً للجثّة.. قضاء الحاجة أيضاً لا يتمّ إلّا بعد أن يتعذّر علينا الاحتمال. نضبط أنفسنا قدر ما نستطيع، وحين لا يعود ثمّة إمكانيّةٌ للانتظار فينبغي أن ننتهي من الأمر بأقصى ما يمكن من السرعة. علينا أن نتخلّى عن بعض عاداتنا المفضّلة. الالتصاق بمقعد المرحاض، مستغرقين في تأمّلاتنا حول الوجود والخلق ومستقبل البشريّة والحرب والسلام والحبّ والجمال، وتطوير تكتيكاتنا في لعبة الشطرنج، واختراع وصفاتٍ جديدةٍ للطعام. لا مجال لذلك. أوقات الرفاهية انتهت..

وأضفنا:

– هذه هي الحرب. استثناءٌ في كلّ شيء. حالة طوارئ على مدار الساعة. وتنازلاتٌ مؤلمةٌ لا بدّ منها دائماً..

في قرارات أنفسنا لم نكن راضين تماماً عن هذا التصرّف. أن نترك صديقاً عزيزاً في الحمّام يكابد موته وحده، ونجلس هنا. نعم. هنالك خصوصيّة للموت يجب أن تحترم، ولكن ليس بهذه الطريقة. ليس في الحمّامات..

كان سلوكاً فيه الكثير من الخسّة والدناءة. نعترف بهذا علناً، وبكلّ جرأة.. ولكن.. ماذا عسانا نفعل؟. الحياة في غرفة النوم إلى جانب جثّةٍ في طريقها إلى التفسّخ أمرٌ لا يطاق. ثمّ إنّها حرب.. حرب.. وفي الحرب عليك أن تتقبّل أنماطاً من السلوك لا تحبّها، ولا ترضاها..

لكنّ الحمّام يبقى حلّاً مؤقّتاً. لقد أمضت الجثّة حتّى الآن يومين كاملين في الحمّام. حان الوقت إذاً لنفعل شيئاً..

اقترح أحدنا أن نفرغ الثلّاجة من محتوياتها، ونضع الجثّة داخلها..

– نكسب وقتاً إضافيّاً. يمكن لها أن تصمد داخل الثلّاجة شهراً أو أكثر..

– نعم.. وخلال ذلك نتدبّر أمر الطعام والشراب. هنالك أولويّات تفرض نفسها علينا، ولا بدّ من مراعاتها..

غير أنّ الحلّ لم يبد لنا عمليّاً..

تفطّنّا إلى الأمر فاستدركنا:

– مؤكّد أنّ الثلاجة لن تتّسع له جسداً واحداً كاملاً. سنضطرّ إلى تقطيعه كذبيحة، ووضعه في أكياس..

– لا طبعاً. لا يليق بنا أن نفعل ذلك. لسنا سفلةً إلى هذا الحدّ..

– وهو شاعرٌ أيضاً. ومناضلٌ صاحب قضيّة. يجب ألّا ننسى. يجب أن يعامل باحترام..

– والأهمّ أنّنا في حرب. لا تنسوا. قد تنقطع الكهرباء في أيّ لحظة. ما الذي يمكننا فعله بأكياس اللحم عندئذٍ؟..

تحاورنا طويلاً. ثمّ قلنا:

– لماذا نذهب بعيداً؟. المكان الطبيعيّ لأيّ جثّة هو القبر. من الحمق أن نخالف سلوكاً اعتادت عليه البشريّة منذ ملايين السنين..

– هنا؟. ندفنه هنا؟!!..

– لم لا؟..

– نحتاج إلى معاول ورفوش..

– نطلبها. نعمل ما علينا، وعندما لا يستجيبون نفكّر في حلّ آخر..

– نتّفق أوّلاً على المكان الأنسب للقبر..

وأردفنا:

– المهمّ أن يكون بعيداً عن الأسرّة حيث ننام..

تلفّتنا حولنا. نعم. هناك. كان واضحاً أنّه ما من مكانٍ أفضل..

– أسفل النافذة..

__________________________________

مقطع من رواية “زجاج مطحون” الصادرة أخيراً عن منشورات المتوسط في ميلانو.

*****

خاص بأوكسجين


قاص وروائي من سورية. من مؤلفاته: "استحواذ"" (2011)، و"" الـ 0 سلبي.. الأحمر والمشع"" (2012)، و""القنفذ"" (2013)."