ريما توزع الحلوى
العدد 266 | 01 آب 2021
هيثم عبد الشافي


 

من مقام النهاوند أقولها.. صباح الخير.

وتر أنا في عود قديم، مجموعة أوتار في خزانة معلمنا السابق، جلد ناعم على رق بلدي، المهم أنا بين يديك الآن وأقولها.. صباح الخير.

اسمي “تيم”، وقبلتك الصغيرة هنا تهديني كل ليلة أغاني وحكايات قبل النوم، قبلة واحدة جعلتني أحب هذا المكان أسبوعًا كاملًا.

باب المدرسة وفصولها، حارس البوابة وكفوف عمال النظافة، دروس الحساب والنحو.. تعرفين، أحفظ أماكن متفرقة تصفين فيها سيارتك، وأحجزها بأكوام الحجارة وحقائب أول عشرة في صفنا طبعت قبلاتك علي جبينهم.

الآن.. أحب صوت أمي في الصباح وهي توقظني، رائحة القهوة ودخان أول سيجارة في يد أبي وسعاله المتواصل في الحمام، نظرات جارتنا ورائحة غسيلها وحفر الطريق، أحبهم لأنهم محطات قصيرة، بعدها بإمكاني اللعب مع الفراشات الصغيرة على شعرك ورسم جواربك القصيرة وتفاصيل أكثر عن حذائك الشتوي.

تذكرين “ريما”.. ها هي هناك أسفل الشجرة، قالت لنا أمس إن الوحش بداخلها مات في حضنك، وتعيش أسبوعًا كاملًا في أهدأ حال.

“ريما” ترقص معنا وتوزع الحلوى على الفراشات.. آخر بنت تضع قدمها على سلم الأرجوحة “ريما”، وآخر ولد عضته وخطفت حذاءه أنا.

ليس “تيم” وحده يا حياتي.. أنا اخترت معك أسماء لندللهم، وعرفتهم كأنى بينكم ومعكم.

كنت حارس الحقائب في الشارع الخلفي الأسبوع الماضي، وعلمتهم كيف يركلون الحصى الصغير في الشوارع والأزقة، ولمست محبتهم الكبيرة لفراشات شعرك، وعرفت حكاياتهم عن مشيتك وماذا تخبئين في جيوب معطفك الأحمر.

أعرف بينهم من يرسم أصابع يدك اليمنى خلف باب الفصل، وآخر يقلد صوتك، وثالثة سحرتها شاماتك فسرقت كحل أمها ورسمت واحدة صغيرة على رقبتها.!

“تيم”.. يعرف أنه سيكون أمامك مرة منتصف الأسبوع، ويقلب الدنيا ويعد الأيام ويحسبها، يحكى عنك لأمه طوال اليوم، ويسأل ألف مدرس عن ميعاد الدرس الثالث، ويمر أمامك كل ساعة مرتين على الأقل.. لا يعرف أني أعيش في تغريبة بين المرايا والرفوف بالغرف المظلمة، وأصنع الذكريات من بقايا أظافرك على مبرد قديم، وأرتب زيوت شعرك وأختار لونًا مختلفًا لغرتك، لا يعرف أن كل ما تبقى لدينا ذكرياتنا والوجع اللذيذ.

مرة في بدايتنا قلت لى أنا أحب فيك هذه البساطة، الحياة معك أبسط، وبذاءتك قمة البراءة، فقط دعنا نسمح لأنفسنا بأن نحس طعم الضحكة ووجع البكاء.

كنا نختار ذكريات طفولتنا ونهديها لبعضنا.. كانت أجمل هدايانا ذكريات طفولتنا يا حياتي.

أخبر ي العالم كله أني كنت طفلك الثالث وحبيبك الأول والأخير، وأننا تصالحنا مع الوجع، وزاد الغرام بيننا في البعد وأيام الحزن اللذيذ.. قولى إنهم نزعوا من أفواهنا أبسط كلمة، وأن يوم الأرض المقبل لن نكون سويًّا، ولن أسمع مجددًا صوت ملعقتك الخشبية تداعب حبات الأرز، ولن أرافقك ساعات طويلة في مطبخك ويوم التنظيف.

أي حذاء في قدميك الآن، في أي شارع أنت يا حياتي، كم يومًا تأخرت دورتك الشهرية في الفترة الأخيرة؟!

حدثيني عن آخر مشادة مع عامل تسليم الطلبات في محال الوجبات السريعة، حدثيهم أن أحدًا لن يراك مثلي، وحلمنا وأغنيات “ذكرى” وتفاصيل حاجبك الأيمن وتدريبات الوجه وشد الرقبة وأقدارنا وعشقنا وطريقنا، شامات متفرقة على ظهرك وصدرك ورقبتك لن تتلاقى.

*****

خاص بأوكسجين

 


قاص وصحافي من مصر.