رسالة من فلسطين.. إلى سورية
العدد 143 | 28 تشرين الأول 2013
آيات بكري


من الممتع حقاً أن تمسك الخريطة وتبحث عن الأماكن التي تحب زيارتها، تبحث أحياناً عن أماكن زرتها تستحضر في ذاكرتك شكلها بطريقةٍ رومانطيقية، غير أنني كنت أمسك الخريطة لأقيس المسافة الافتراضية بين بلدي وبلدك، وعندما تبدو قليلة، أقيس المسافة بين مدينتك ومدينتي، وأحصي الفروقات، أهمها وجود بحر.

ألقي الخريطة على وجهي، عند مدينتك بالتحديد، وعن كثب أراقبك، تبتسم وأنت تحدق في ساقيّ فتاةٍ جميلة، وعندما تحضر على “سكايب” تقول لي ذلك وتكمل حتى لا أغار: ” كانت تشبهكِ بطريقة مربكة”.

أزيح الخريطة العمياء عن وجهي، وأقوم لأصنع فنجان قهوة لشخص واحد هو أنا من دون أن يجلس شبحك المختلق بجانبي، حتى أنكَ لا تحب القهوة!

خلقت سيناريوهات عديدة في رأسي، عن شكل اللقاء.. ودائما هناك أتوقف، ليس لضآلة خيالي، غير أني أحب تلك اللحظة التي سنلتقي بها، تماماً مثل فيلم Before Sunset طبعاً شاهدته، كله كان يتحدث عن لقاء، يسيران في الطريق ويتحدثان ولا ينتهي الكلام، ثم لا يرغب في تركها تستمع لنينا سيمون وحدها.

أتخيل شكل الأريكة البنية المبقّعة  التي سنجلس عليها لتختبر صبري تجاه الكلام، تقول لي قصصاً لم تحدث عن حياتك، فأبتكر سيناريو قارس عن حياتي، تبكي عندما أنهي الحديث لشدة تأثرك.

طبعاً أدرك أنك لن تبكي على قصة مختلقة عن حياتي، فلطالما أزعجتك بالحديث عن مشاكلي السخيفة، حتى أنني كنت أرسلها لك على شكل رسائل هل تذكرها، نعم عندما بدأت الحرب في سورية ولم أستطع حتى الاطمئنان عليك بأي طريقة، كرهت الحرب عندها بقوة، أقصد كنت أكرهها ولكن كون بلدينا يقعان على خط الطول نفسه كان يزعجني أنك لم تقدر بجواز سفرك رغم تعدد طرق النقل الوصول للحدود الإقليمية لفلسطين، لهذا كتبت الكثير من الرسائل التي بدورك لم تجب عليها بأي كلمة، كنت أكتب لك عن كوني متعبة ومخذولة فتقول لي أن الحمية الغذائية مفيدة.. نعم كتبت حتى عن هوسي بصنع المعكرونة واكتفيت بإرسال وجوه مبتسمة جافة مثل فكرة الحمية لفتاة وزنها الحقيقي آنذاك فقط ثمانية وأربعون رطلاً وكانت الرسالة كالتالي:

“أكتب من السرير المحاذي للنافذة المقفلة بإحكام.

لست سعيدة.

أعني ذلك.

كل تلك الأمور البشعة التي تدخل حياتي تدور في دوائر .. دوائر وحسب، أتمنى أن يتغير نوع اللحن على أقل تقدير.

أريد سريراً آخر.. وسادة أخرى لا تتعب رقبتي، بيت بجدران أٌقل، مدينة بطرقات أطول. ومفارق كثيرة وسينما.. وبحر

 

وأنت لم تزل على حالك تأتي في الأحلام وحسب، البارحة كنت حزيناً على غير العادة. كنت حزيناً جداً، وقريباً لدرجة أتعبت حواسي خلال النهار.

لم أعد أستطيع المتابعة بهذه الطريقة…!

لن أطلب منك رداً على أي تعبير لغوي يرد هنا لكوني متعبة من نفسي بالدرجة الأولى، لكني عاجزة عن التغيير قيد أنملة، أنا وحيدة كشراع تالف في قاع السفينة دون أن يفكر أي شخص بإحساس الشراع..!

 

لا أحد.. 

لا أحد..

أنا أقف عند النقطة ذاتها منذ شهور، أناطح الغيم لا أريد الزواج ولكني أرى به حلاً لمشكلتي مع عائلتي.. حتى أصبحت أخاف أن أدخل مثل حشرة داخل إطار الدائرة التي رسمها الله لي دون رحمة.

 

لم يعد شيء يثير في نفسي الفرح، وبِتُ أفهم شعور عدم الاشتياق لأي شيء.. وأخالني شعرت به مبكراً..!!

 

أقول كلمة (مشتاقتلك..) لأنها دارجة.

 

 

مشكلتي الداخلية معقدة أكثر من عدم ممارستي للعادة السرية. إنها في كوني فظة وأقول “لا” معظم الوقت، وعصبية  بطريقة محزنة.

ولكن ما الفائدة!  هذا الأمر لن يتغير.. 

إنه يشبه شراء شريحة “وطنية” لأن الذي يحبني يمتلكها ولا يمتلك شريحة “جوال” التي أمتلكها..

 

ستتسأل لماذا لا يشتري هو شريحة “جوال” وينتهي الأمر .. هل كل المشكلة تكمن فيمن سيبادر ويغير شريحة هاتفه أولاً لأجل الآخر..!

 

أعتقد أن نصف سكان الكرة الارضية يعلمون ما هي المشكلة على وجه التحديد  “مثلي” ولكن لا أحد يريد المبادرة..

أكتب لك، ليس لكوني وحيدة، ولكن لأني متعبة، كما سبق وقلت لك ولا تصلني أية تربيتة على الكتف..

 

أشعر أنني أدفن ببطء.. 

أنا جائعة منذ البارحة، لم آكل شيئاً، أشرب بيرة رديئة وأدخن مثل بيت مهجور، ومتعبة.. لدرجة أني لم أعد أجد قدمايّ لكثرة ما مشيت.

قلت البارحة لصديقي في الجامعة..: بعد فترة لن أؤمن بالله.. إن استمر في  معاملتي بهذه الطريقة.. فهذه الطريقة تعني أنه غير موجود.. ولهذا كل هذه الأمور تحدث..”

 

سكت فهو يحب الله ويؤمن بوجوده لدرجة أستغربها.

أترى أن مشكلتي مع الله.. ! 

أمي باردة مثل ثلاجة قديمة وفارغة ولا داعي لوجودها، وأقول كلما كنت مغتاظة. لو الله موجود لأخذها.

هل تعتقد أنني سيئة..!

لم أعد أحب أحداً.. لم أعد ممنونة لله ..

ولا لشيء..

ولا لأحد…

 أنا متعبة فقط..

 

ديسمبر 2011 

***

ثم التصقت بالتلفاز مدة سنةٍ أحصي أعداد القتلى، وأراقب الأسماء ببلاهة، لو قلت هذا الكلام اليوم لأي سوري لضحك حتى أغمي عليه، لكون مدينتك بالتحديد لم يكن ليطالها الخراب الذي طال حلب مثلاً.

 

تخطر في رأسي كل هذه الجمل وأنا أتكلم مع صديقتي على الفيسبوك وتسهب في طرح فكرة مشروعها الغريب الذي يتحدث عن فناجين الشاي التي لا يشبه بعضها الآخر، فهناك فنجان تشتريه عندما تكون شخصاً، وفنجان آخر تشتريه وأنت شخص آخر مختلف كلياً بالمزاج والتجربة، هناك فنجان تترك نصفه، وآخر تكمله كله، فنجان تحضنه وآخر تتركه على طرف الطاولة مهملاً ووحيداً، وآخر تنسى أين تركته، وجميع هذه الفناجين بالتأكيد تتحدث عنا آخر النهار في المطبخ.

فكرة مشروعها هذا قادتني لأفكر بنا، بأننا وحيدين مثل تلك الفناجين، بحاجة لشخص يبتاعنا من خلف زجاج المحلات، لنثرثر معه، نشاركه الغرفة وقصص الأصدقاء.

ماذا لو مت، و اخترقت رأسك رصاصة، بينما أنا هنا في بيتي أنظف فرن الغاز، أو أقوم بصنع المعكرونة التي أحب، ستبكي أمك وأنا أقوم بتنظيف الصحون، وسيشيعون جثمانك وأنا أكنس الصالون، وأزيل الغبار عن التلفاز، هكذا ببساطة ولن يرد اسمك على “الفضائية السورية” لأنك لم تكن تحمل السلاح ولم تكن لواءً مهماً، كنت فقط صانع فرح يرتدي كنزة صوفية حمراء في الشتاء، ويحكي قصصاً للأصدقاء حتى يضحكوا، وسأعرف بعد عام من صفحتك على الفيسبوك التي قرر صديقك تركها كنافذة تطل على السماء لتقرأ ما يتركه الأصدقاء لك على شكل رسائل، نصفها مبللة بالدموع اللا افتراضية، ستضحك عندما أطلعك على الفكرة وستعتبر أن نقص البوتاسيوم الذي خسرته جراء عادتي الصحية السيئة في التغذية هي التي  سببت هذا الكلام.

 

الآن تختلط المشاهد في رأسي والكلام أيضاً الصورة تشوشت بصورة مباغتة كأن أحدهم ارتطم بالشاشة وحركها قليلاً. 

 

نعم لطالما شعرت وأنا قربك أنني مجرد دمية روسية بلهاء، وأنك قائد أوركسترا عظيم. 

غير أني لم أستطع تركك، لأنني كنت أعتقد أنك لم ترحل مطلقاً.

وهكذا واصلت إرسال رسائل تصلك على بريدك الإلكتروني، بينما ابتسامة جافة وقاحلة تماماً كالمسافة التي تفصل بيننا كانت تصلني منك فقط.

 

سبتمبر 2013

__________________________

كاتبة من فلسطين

 

الصورة من أعمال الرسامة والمخرجة المصرية سلمى الطرزي

*****

خاص بأوكسجين