ذاكرة الحب
العدد 197 | 22 آب 2016
أميناتا فورنا


“حلمتُ ليلة أمس بـ يوليوس” يقول الياس كولي، “كنا في مكانٍ واسع مهيب كما لو في محطة قطارات أو مدرج مخصص للمحاضرات. كان المكانُ من تلك الأمكنة الحلمية، متغيراً على الدوام. بدا يوليوس بين جمهرة من الناس، كنتُ واثقاً أنه هو. يوليوس.لكن ما الذي كان يفعلهُ هناك؟ حاولتُ شق طريقي نحوهُ، كلما حاولتُ أكثر كلما ازداد الازدحام. حاولتُ نطقَ اسمهِ لكن صوتي خرجَ كصريرٍ باهتٍ ومضحك. فجأة أصبحت في مكان آخر. وكنت أمشي في طريق، وقد حلّ الغسق، وأمسيت استشعر المكان، حقول مترامية مفتوحة. رأيتُ يوليوس ماثلاً أمامي. يمشي مشيته المميزة و فخذاه يحتكان ببعضهما. ناديت “يوليوس” أردتُ سؤاله ما الذي يفعلهُ هنا؟  إلا أنه واصل ابتعاده، كان يمشي عل مهل كمن قطع مسافة كبيرة في زمن قصير. ركضتُ نحوه لكنه خلّفني وراءه”.

سأل أدريان “وماذا حصل بعد ذلك؟”

“استيقظتُ أو حلمتُ أنني استيقظت. حين استيقظتُ لاحقا شعرتُ بتنميل أصاب ذراعي، فعرفت أني فعلاً قد صحوت.”

 أشاح الرجل العجوز بوجهه عن أدريان ونظر نحو النافذة، كانت طائرة ورقية في الخارج علقت في سلك ماكينة الحلاقة. لم يكن من نسمة هواء في الخارج لكن الجناحين المصنوعين من بلاستيك أسود بدوا كما جناحي طائر.

 يأتي هذا الاستعمال بأمر من الذاكرة مع تقدم العمر. كغربلة نهائية، فرز وأرشفة لترك الأشياء مرتبة قبل أن نغادر. يسود صمت. في ذلك الوقت كنا مخلوقات من هواء  وأكثرنا كذلك هو يوليوس بالتأكيد.

 

2 آب 1969

 

اتصل بي عميد الكلية يوم السبت وسألني أن أحضر صافيا الى المكان الذي يعمل به جونسون. لم أسال أي سؤال فقط نفذت ما طلب مني. وصلنا وكلنا أمل أن يكون يوليوس قد أطلق سراحه. كذلك صافيا كانت قد حملت حقيبة فيها ثياب نظيفة كضمانة أو دلالة على الأمل الزائد. لا أتذكر بدقة كم انتظرنا تماماً. لا توجد أية إشارة على وجود جونسون؛ بما أني توقعت وجوده واحتملت رؤيته. انتظرنا في الطابق الثالث حيث رفض حارس الطابق أن يستلم حقيبة الثياب وذلك أضاف ظلاً ثقيلاً على أملنا النحيل. جلسنا ننتظرُ وننظرُ للجدران الرمادية المقشرة.أحضرَ الحارسُ مغلفاً موضوعاً في ظرف بني وطلب من صافيا التوقيع على استلامه.

كتبت اسمها؛ الغريب أن تتذكر تفاصيل، من قبيل تذكر شكل توقيعها أو أنها بالكاد وقعت. لم أكن قد رأيت أصلا كتابتها من قبل، خربشة واضحة كتوقيع طفولي خالٍ من أي أناقة.

فتحت صافيا المغلف والذي احتوى ساعة يوليوس، زوج من البراغي، ليفة، مفك معدني ثقيل، سبحته، ودواء الربو أيضاً. كان من المفترض أن يرافقه ذاك الدواء أينما ذهب لكنه كان ينساه في الغالب؛ شيء صغير لا يستحق التذكر بالقياس لمخيلته.

ذهبنا بسذاجة ما إلى قبو البناء عبر ثلاث طبقات من الأدراج وطبقة أخرى على طول الممر. نفق بجدران رمادية كانت هناك رطوبة وبرودة عالقة في الهواء. فتح الحارس الباب المفضي الى غرفة.

بأي براءة دخلنا، أية براءة.!! تخيلنا انها غرفة انتظار أترى؟ كنت أتحدث، ماذا كنتُ أقول أصلاً؟  توقفت عن الكلام حين وقع من المغلف الذي تحمله صافيا برغي تدحرج على الارض انحنيتُ والتقطته. كانت صافيا في الطرف الآخر من الغرفة نظرت نحوها وعرفت ما قد رأت. خطوت نحوها.

لا تفعلي… كان ذلك الشيء الوحيد الذي استطعت التفكير بقوله. لا تفعلي. بمجرد أن نمشي ونغلق باب تلك الغرفة وندير ظهورنا لما هو بداخلها. بفعل ذلك فقط؛ كان قول كلمة واحدة غير ممكن في الواقع؛ كنت جامداً.لم تسمعني أبداً. مدت يدها وسحبت الشرشف..  آآآه؛ كيف يصف الناس لحظات تغيير مصيرية كهذه! يقولون غالباً كل حركة تبدو بطيئة بشكل مفاجئ. كم هذا حقيقي؟

أتوقع أن خلايا الدماغ تجهد وتصارع لتقبل فداحة لحظة مثل هكذا لحظة. بعد ذلك لم يتبق لك سوى اجزاء مفككة؛ هذا الشكل الممدد على العربة.

يد صافيا على فمها، وجه يوليوس، عيناه نصف مفتوحتين، الحدقتان غير مطفأتين لكنهما ساكنتين كما لو كان ينظر نحو الباب وينتظر دخول أحدهم. يد صافيا على وجنته.

لم يكن هناك أي صوت قادر على مداراة دقات قلبي. يا للسكون المرعب لهذا الجسد؛ حالما تغادره الحرارة والضوء. قناع الموت، نظرة حادة غريبة عنك، أنت الحي.  وضعت صافيا يديها على وجنتي يوليوس؛ سحبتها وارتخت للوراء ملتصقة بي، حاولت وفشلت في أن أمسك بها. تهاوت للأمام بالحركة ذاتها، مزقت الشرشف الذي يغطي جسد زوجها وضغطت بجبينها على صدره، بدأت بتقبيل وجهه؛ توسلت إليه أن يستيقظ. استمرت بتقبيله بإلحاح متصاعد وهزت كتفيه، اعتدلت بجلستها، بقيت دموعها على وجه يوليوس. بدأت بتفقد جسده فكرت فقط بأي إشارة لما يمكن أو من يمكن أن يفعل ذلك به.

ما الذي كان يفعله الحارس؟ لم تكن لدي أي فكرة على الإطلاق هل قال شيئاً؟ هل حاول التدخل؟  لا أظن ذلك. أعتقد أنه انتبه في تلك اللغة لحجم الخطأ الذي ارتكبه. هل سجلتُ ذلك؟ أتساءل الآن إن كان بإمكاني تذكر وجهه. بدلاً عن ذلك انتبهت أن يوليوس كان يرتدي نفس الثياب التي ارتداها في ذلك المساء؛ ليلة الهبوط على سطح القمر.

كانت صافيا تفك أزرار قميصه وتضغط بوجهها على صدره القوي هامسةً: لا تذهب إلى هناك أرجوك يا حبيبي. إنه مظلم مظلم جداً، ابق معي. مررت أصابعها على بطنه وصدره العاريين، على عظام كتفيه ويديه. أمسكت يديه بيديها. استشعرت أصابع يديه على وجهها واستقصت جانبيه. لم يكن هناك أي أثر لشيٍ، لا جروح، لا رضوض، لا كسر أو حرق.

أتذكر كل ذلك، التماعات متشظية، صمتُ صان عويل صافيا. انقطع المشهد بحركة مفاجئة في الممر وصراخ جونسون بحارس المكتب، محاولته العقيمة لتغطية وجه يوليوس بالشرشف. غضب صافيا وهي تضرب بقبضتيها جونسون، ما أزاح  كبرياءه. علي الاعتراف أن ذلك أسعدني، لقد بداً متفككاً أخيراً.

 أعرف أن هناك نمطاً للحزن. كما أول زخات المطر بعد موسم الجفاف. يفشل في البداية، يزيح التربة، يدحرج غبار انعدام الإيمان. لكنه مع كل يوم يستحضر مطراً جديداً. فعلت صافيا ما كان متوقعاً منها. أتى الناس لتعزيتها، النساء للجلوس معها. والرجال ليقدموا مبالغ مالية  لمراسم الأسبوع والأربعين. كنت هناك أساعد بكل ما استطعت. صاح الإمام، كم كان لذلك أن يغضب يوليوس. جلست صافيا بين النساء. ارتدت عباءة قطنية سوداء. وشعرها ملفوف بغطاء للرأس لا مكياج ولا إسواره ولا خاتم ولا عقد ما عدا خاتم الزواج الذهبي.كانت جميلة جداً.كانت تكافئني على جهودي بابتسامة مستقدمة من الآخرة. أقول الآخرة، لأنه منذ تلك اللحظة في البناء الرمادي حين رفعت صافيا الغطاء عن وجه يوليوس، انتقلت إلى مشهد ما من أحد حي فيه إلاها.

بدأ الطلاب بالعودة بعد العطلة، كأسراب الطيور بعد هجرة طويلة، متبعثرين مثنى وفرادى، مميزين بعضهم البعض من السنة الفائتة.

ذاك اليوم الذي أفكر فيه؛ اليوم الذي استدعاني فيه العميد لمكتبه. فتحت الباب لأجده عند النافذة، من حيث يستطيع مراقبة حقله أوهكذا بدا لي. بدا فقط في ذلك اليوم أنه يركز على شيء باهتمام خاص.

قال لي، “تعال” متابعا تحديقه من النافذة.

فعلت كما طلب مني.

“ما هذا؟”

نظرت إلى الأسفل، كانت الباحة مليئة بالطلاب، مئات منهم. كانوا جميعاً يرتدون الأبيض، الذكور قمصان وسراويل والبنات بفساتين. بعضهم غطى رأسه. كان من الصعب معرفة ماذا كانوا يفعلون. إن كانوا يقومون بمظاهرة، أين هي اللافتات إذن؟

قال العميد: انزل لتحت وتبين ما يحصل.

كنت على موعد في بيت صافيا- بيت صافيا كيف بدأت أفكر بسرعة بذلك – بعد أقل من ساعة، ستكون ذكرى أربعين يوليوس. ساعدتُ صافيا في كل الترتيبات وكنت متردداً في فعل أي شيء يؤخرني. تابعت تحديقي من فوق رؤوس الطلاب المجتمعين. كان الكثير منهم ما زالوا يتوافدون، وبلا سبب وقع بصري على طالب محدد بعينه، صبي. ربما لأنه كان يجلس وحيداً عل درج المكتبة. كان هناك شيء أليف في وجهه حتى من هذه المسافة. إنه الصبي الذي رأيته مع يوليوس في ذلك اليوم الذي راقبته من نافذتي ، كانا مستغرقين في النقاش بعمق لدرجة نسيان نفسيهما منقوعين بالمطر لإنهاء حديثهما. بعدها بوقت قصير قصد يوليوس غرفتي واستدان مبلغا ًليشتري مشروبا خفيفاً. أتذكر ذلك كأنه حدث البارحة، كان الصبي يرتدي الأبيض، وينتعل زوجي حذاء تنس أبيض. كان شعره مرفوعاً للأعلى كما موضة تلك الأيام. ما هو ذلك الشيء الذي كان حول ذراعه؟  ملت قليلاً للأمام ونظرتُ إليه كانت شريطة يد. حولت نظري إلى طالب آخر قربه.كان هو أيضاً يرتدي شريطة يد سوداء. الفتاة التي كان يتحدث إليها لفت شعرها بوشاح أسود. كان هناك الفتاة السمينة بالتنورة الطويلة والحزام الأسود.  شريطة يد أخرى وأخرى …

قلتُ للعميد: “استميحك عذراً”، كان يقف وذراعيه مطويتين، حاجبيه معقوفين للأسفل. تشكلت ملامحه لإعطاء انفعال انزعاج غريزي وعام. تذكرت محادثتي معه صباح ذلك السبت الذي طلب مني فيه أن آخذ صافيا من بيتها إلى مكتب جونسون. بدا من صوته على الهاتف أنه كان متضايقاً. كما لو أنه أحداً ضايقه بإيقاظه في مثل هذه الساعة من النهار. بغض النظر عن ذلك لا بد أنه كان قد عرف أصلاً ما حدث. لا بد أنه عرف بموت يوليوس. في الأسفل، في الساحة بدأتُ بالتحرك نحو حشد الطلاب وخارجه. لم أر أحداً من أعضاء الكلية.حياني واحد أو اثنين من الطلبة. إيماءة هنا، مصافحة هناك. التقط صبي يدي ولم يفلتها. بدلا عن ذلك رفع رأسه وبدأ بالبكاء.

رنّ جرس المكتبة عند الساعة الثانية وكان هناك حركة عادية، ثم كان هناك هرج ومرج حين بدأ الناس ينظمون أنفسهم على شيء من الاتساق. سمحت لنفسي أن أنضم إليهم، حينها أدركت تماماً ماذا كانوا يفعلون. بغض النظر عن جو الحداد واليوم الكئيب والغيوم المنتفخة التي طفت فوق رؤوسنا في الهواء، والرطوبة الضاغطة من كل الجوانب. كان هناك خفة في الهواء وشعرتُ بشكل لا يفسر بأنني مرفوع به. لم يقلقني ما إذا كان العميد يراقب ذلك وينتظرني لأرفع له تقريراً بذلك. كل هذا سأتعامل معه لاحقاً. انضممتُ حينها لتظاهرة الطلاب وخرجنا من البوابة متخذين طريقنا نحو البلدة عبر ممر فيه صف من الأشجار.  

 

كان هناك غناء ولكن ليس كثيراً . كان الصمتُ حاضراً أكثر. مشينا أربعين دقيقة، دقيقة عن كل يوم مر. وصلنا أخيراً.

من لم يجد مكاناً في الغرف وقف في الحديقة، ومن لم يجد مكاناً في الحديقة وقف في الشارع، حتى أصبح البيت الزهري في أعلى التلة محاطاً بالكامل.

مات يوليوس بنوبة ربو. هذا ملخص ما قيل لنا. كان قد فات الأوان حين تم اكتشاف ذلك، لم يعد يجدي أي شيء لإنقاذه. كان دواءه قد أبعد عنه مع باقي الأشياء الشخصية. خطأ . حظ عاثر. لم يسمعه أحد وهو يحتضر، في الغرفة التي احتجز فيها، في قبو المبنى. 

_____________________________________________________

هذا الفصل مأخوذ من رواية “ذاكرة الحب” للكاتبة أميناتا فورنا، ويمكنكم الاطلاع على قراءة للرواية ضمن زاوية كتاب في هذا العدد.

*****

خاص بأوكسجين