ديستوبيا الضجيج
العدد 227 | 19 شباط 2018
حميد يونس


كتبت في مخيلتي رواية ديستوبيّة سوداوية قاتمة جداً، ولم يمنعني من تدوينها ونقلها إلى الصفحات سوى إن روايات الديستوبيا على العموم قد استهلكت أفكارها واستنزف غرضها منذ الدوس هسكلي وجورج أورويل وراي برادبوري ومارغريت أتوود وآخرين. إلا أن الثيمة التي أطمح للكتابة عنها جديدة وغير مسبوقة، إذ تتمحور فكرتها حول “الضجيج”.

بتقادم السنين وتتابع الحضارات، تراكمت الضجّة وارتفع نشيجها، كذلك افترض دان مكنزي في “مدينة الضجيج” بأن “الطبيعة في الماضي السحيق كانت هادئة ومسالمة، إلا أن الحضارة الحديثة حملت معها الضجيج، بل -وبحسب تعبير مكنزي- كلما تطورت الحضارة، أصبحت أكثر ضجيجاً!”.[1]

لذلك تخيّلت في هذه الرواية المزمع كتابتها أن هناك دولة في المستقبل “غير البعيد” قد انقسمت الى مقاطعتين يفصل بينهما حاجز عملاق و(عازل للصوت)؛ الأولى تتسم بالاكتظاظ والصخب والضجيج، والثانية تتسم بالهدوء والصمت والسكينة، الأولى فقيرة والثانية ثرية، الأولى معدمة والثانية باقية، الأولى مرصودة والثانية راصدة، الأولى تسبق الثانية وتتبعها معاً.[2] إذ لم تكن المقاطعة الثريّة بعيدة عن الفقيرة جغرافياً فقط، وإنما كانت تسيطر عليها وتفرض قوتها وعدم تسامحها بالتنقل العشوائي بين المقاطعتين.

كانت الأصوات تتداخل في المقاطعة الفقيرة بلا حدّ ولا انقطاع؛ انفجارات وتفاعلات مصانع، دويّ أجوف للمكائن والآليات، رنين مترادف من الطرق المعدني اللامتناهي، صفارات إنذار، مكبرات صوت معلّقة في الشوارع مع شاشات عملاقة لدعايات وإعلانات وتسجيلات تبثّ أربعة وعشرين ساعة، زعيق أبواق السيارات والشاحنات وسيارات الأجرة في الطرقات الرئيسية والفرعية، كل ذلك يختلط مع جلبة وجلجلة الجماهير الآتية من كلّ الأرجاء!

كان المكان ببساطة مرجلاً مزمجراً هادراً، وبدلاً من أن يخبو الصوت فقد كان يتصاعد ويتصاعد مما يسبب من اضطراب حسيّ، وصمم أذنيّ، وتمزيق طبلات وأعصاب سمعية. وفضلاً عن كلّ ذلك، كان الضجيج يدخل الجسد مباشرة فيهزّ العظام ويرجها قبل أن يربك ويخدش الآذان التي لا تستطيع أن تتآلف وتتعايش مع هذا الكمّ المزعج من التنافر الصوتي.

نعم لا يوجد في تلك المقاطعة مكان للمحادثة والنقاش والهمس والهمهمة والهسهسة والضحك والمزاح والغناء والتنصّت والإصغاء. بل لا يستطيع الناس النوم براحة، ولا يستطيعون التفكير بأي شيء دون تشتيت، إلا اللهم إن دفعوا (فاتورة اشتراك) لذلك، وكأن الهدوء بحدّ ذاته أصبح سلعة مدفوعة الثمن وحكراً على شركات (الصمت)!.

ومن المفارقات، أن قاطني المقاطعة الفقيرة تعلموا كيفية تمييز الأصوات المختلفة وسط الضجيج، ومن ثم كوّنوا شعوراً عمّا كانوا يتعاملون معه، ولم يكن الأمر سهلاً البتّة. إذ كلما ارتفعت مستويات الضجّة الخلفية، سعى القاطنون لحجب الضجيج بأصوات أخرى من صنعهم، أي إنهم كانوا يدفعون الضجيج بسماع المزيد من الضجيج.

يقول موريس ميرلوبونتي؛ “دائماً ما تأتي الرؤية للإنسان من اتجاه واحد وفي وقت واحد، بينما الصوت يتجمع ويأتي في وقت واحد أيضاً لكن من كلّ الاتجاهات، فالإنسان في قالب العالم السمعي يتوطّد في جوهر الإحساس بالوجود”.[3] وهذا ما كان، فكلّ صوت يصدر في هذه المقاطعة الصاخبة، يدوّي ويرتد في كلّ الاتجاهات ويدوم بما يكفي ليندمج مع صدى الصوت الذي يتبعه ليصبح هيئة متماسكة ومعقدة من الضجيج المتواصل.

لم تكن لدى الجميع القدرة المالية على دفع فواتير “الهدوء”، لذلك أضطرّ الكثير منهم أن يتقبلوا هذا الضجيج –أو بالأحرى اضطروا لقبوله- بوصفه مرافقاً حتمياً لحياتهم. ربما حاول بعض الأفراد من الطبقات المتوسطة بناء بيوتاتهم خلف محيط المقاطعة وعلى جانبيها لغرض خلق بعض الخصوصية والهدوء، لكن تلك المحاولات كانت محض ترّهات. فالمال شحيح، ومخططاتهم المعمارية لا تتعدى أن تكون ترقيعاً عشوائياً.

وأما الأثرياء، فقد كانوا يفضلّون العيش في المقاطعة الهادئة المحصّنة، بمنأى عن ضجيج المقاطعة الأخرى. إذ إن هذه المقاطعة وبخلاف تلك، لا تمتلك أيّ مشتتات سمعية، ولا يسمح فيها بإصدار أدنى “ديسيبل” صوتي. وإن شاء أحد الأشخاص أن يستمع إلى شيء، فيجدر به ارتداء سماعات للأذن مهما كان. فالأثرياء استحقوا هدوءهم واشتروه بمالهم الخاص، ولا شيء كان رخيصاً، ولكلّ هدوء فاتورته الخاصة، ولا يحق لأيٍّ كان أن يعكّر هذا الهدوء الرزين، بل لا يسمح حتى بصوت وقع الأقدام ولا حتى تقاطر الماء في النافورات! وكان يعاقب ويغرّم من يصدر أي همهمة، بل حتى الأصوات العفوية مثل الكحّة والعطاس والشخير والنخير والفواق لم يتهاون بأمرها. وكم من شخصٍ نفي إلى الضفة الأخرى لعدم التزامه بالقوانين. وباختصار، تشددت المقاطعة الثرية بقوانينها أكثر، بعد أن أصبحت المقاطعة الفقيرة أشد صخباً، وحينذاك أصبحت قيمة الهدوء في ارتفاع أعلى وبسعر أثمن.

ولكن في كثير من الأحيان، لم تكن النفوس مستقرة ومرتاحة كما توقع لها. وبرزت بين أوساط الأثرياء معضلات نفسية ومقلقات جديدة؛ إذ كلما كانت الخلفية أكثر هدوءاً، كلما تحسسوا من الضجيج المفاجئ أكثر وشعروا بنشازه كأنه انتهاك. وكانت مساحات خلواتهم وخصوصياتهم متشنجة جداً، وفي الواقع، وتحولت القصور والممرات الخافتة إلى مكان أمثل للتنصت والتجسس وانتهاك الخصوصيات!

جعل عازل الصوت الهدوء سلعة خاصة، متاحة للأثرياء بدلاً من أولئك الذين يعيشون في ظروف أكثر ضجيجاً واكتظاظاً، وربما الذين هم في أشد الحاجة إليه. بل الأسوأ من ذلك، وهو ما يعني أن أولئك الأشخاص القاطنون بأمان وراء الجدران العازلة للصوت أصبحوا معتادين على الهدوء وحساسين بشكل مفرط تجاه الضجيج في الخارج، الذي وكما يبدو أصبح ذا نبرة أعلى وأكثر تهديداً من قبل، وأصبحت أصوات الناس التي يعرفونها ويحبونها فجأة تضرب آذانهم بوصفها ضجيجاً غير مرغوب فيه.[4]

ومع مرور الأيام، استفحلت المشاكل بين الطبقة المترفة وزاد تشنجها، وانتهى أفرادها إلى نتيجة مفادها أن الهدوء في حدّ ذاته لا طابع مميّز له، وسرعان ما أصبح مجرد مشهد مملّ ومتجانس آخر. وأصبح العيش معه أقل إنسانية وأكثر برودة وقتامة من الضجيج! وفي النهاية أصبح الأثرياء في حالة توترٍ من دون أن يعرفوا السبب، وكأن ثمة شيئاً خطأ. إذ حين عزل الصوت عن الأثرياء أصبحوا غرباء عن المشهد الحقيقي. وفي عزلة عن العالم الواسع، واستنتجوا حينذاك أن الهدوء يمكن أن يكون صاخباً مثل الضجيج، بل إن القلق منه ومن السعي إليه مرض وسبب لعدم الراحة والاطمئنان حاله حال الضجيج.

وهنا تبادر إلى ذهني سؤال: هل ما تخيلته يعدّ رواية ديستوبيّة أم إنه الواقع الذي نعيش فيه؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] Dan MacKenzie، مدينة الضجيج: التقريع العنيف مقابل الضجيج (1916).

[2] قدّم كبير المتصوفة محمد بن عبد الجبار النفّريّ في كتابه «النطق والصمت» مقارنة فريدة بينهما، جاء فيها “أن النطق معدومٌ والصمت باقٍ، النطق عرضٌ والصمت جوهرٌ، النطق إشهارٌ والصمت علامةٌ، النطق مرصودٌ والصمت راصدٌ، النطق سردٌ والصمت شعرٌ، النطق أليفٌ والصمت غريبٌ، النطق مُفسّرٌ والصمت محيّرٌ، والصمت يسبقُ النطقَ ويعقبُهُ معاً.

[3] Walter J. Ong، الشفاهية والكتابية: تقننة العالم (2002).

[4] David Henry، الضجيج: تاريخ إنساني للصوت والأصغاء (2016)

*****

خاص بأوكسجين