دندنة لرحيل الشتاء
العدد 221 | 29 تشرين الأول 2017
تيم الكردي


إلى أبواب المدن والمحدّقين بها طبعاً

العالم يغرق في حكايته شديدة الزرقة، كنت أتسلّى بإحصاء أنفاسي التي تصدر بسلاسة، ورمي قشور البرتقال برائحتها الفرحة الأزلية في كأس فارغ، فيما أتابع عادتي الساكنة بالتقاط شفتي السفليّة بأسناني وتقطيعها على مهل.

أفتح الباب للأصدقاء القادمين، أستقبلهم مبتسماً أو لا مبالياً، استقبالي متعلّق بآخر خمس دقائق انقضت من حياتي في معظم الأحيان ولا يعني أيّ شيء أكثر من ذلك، دائماً عندما تصل يدها إلى كفّي لا أفعل شيئاً ممّا يمكن أن أتخيّله في أوقات ضجري، مصافحة اعتياديّة للغاية، فلا يمكن لكرات عينيّ أن تخرجا من محجريهما وتحتضنها قليلاً دون أن تحمرّا وتشعرا بالخجل.
منذ أن بدأنا جلستنا الصغيرة كان أطفال الحيّ يعلنون الحرب بمحاكاة لانفجارات إسطوريّة من المدن البعيدة احتفالاً بالعام الجديد، ولكنّ المحاكاة تخيفنا نحن المستمعين الغافلين، الصقيع يدندن لأطفال المدن السعيدة بعيداً هناك حيث كلّ شيء واقعيّ بحدّة يدندن أغنية زرقاء قصيرة وتبعث على النعاس، كنّا ننتظر أن يضحك أحدنا بعد أن يصحو من خوفه من الصوت، وكما الانفجارات كنّا نحاكي الضحك.

يُطرق الباب من جديد، أحدنا ينهض لفتح الباب، يزداد عدد المشتركين في شعائرنا لهذه الليلة. 
كان كلّ ما حولنا يدور في فلك المراثي الفارغة الهزليّة، إلّا أنّنا في كلّ مساء نجتمع لنشرب ونحتفي ببقائنا . كنت قد اعتدت معظم القادمين، أفتح الزجاجة الأولى من كلّ ليلة وأدعوهم جميعاً للبدء بكأس و تقيّؤ الكلمات حتى يغمرنا الهذيان بجرعة تلائم رغبتنا بالبقاء، تنصرف عيناي كما اعتداتا مؤخراً إلى مراقبتها وهي تذوب حتى تتلاشى في أحضانه، وليس في معدتي هذه المرّة سوى رغبة حقيقيّة نقيّة بالضحك، ربّما بسبب الكلام العالق داخل معدتي و ينزع للخروج عارياً وجميلاً، لكن كلّ ما يصدر عنّي كان يعلّق في حنجرتي.

حينذاك عدت طفلاً يرغب بالحصول على كلّ ما يلمع، لكنّني كبير كفاية حتى أمتنع عن البكاء. كنت أفكر بأنّ ما يطلق عليه اصطلاحاً الحب ليس إلا حماراً كبيراً مزهوّاً بلمعانه تحت أشعّة الشمس. يزداد عدد الوافدين وترتفع وتيرة الصخب الناتج عن الأصدقاء الذين قد أنساهم في الغد.
 أبدأ بالتأمّل في كمّيّة التنظيف التي سيحتاجها المكان، وأنا أحدّق برماد السجائر المتطاير خارج المكان، وأداعب بعضه على الطاولة الخشبيّة الوحيدة بسبابتي، دائماً ما تتملكّني رغبة مفاجئة بالنوم العميق. عندما أشعر بأنّ شعوري الجميل مولود مبتذل مشوّه وضئيل، شعوري يكتفي بملاطفة نفسه، كلّما تذكّرت أن أقتله لم أتردّد أبداً بفعلها، لكنّنا لسبب ما جميعاً هنا، نتقاسم ما تقع عليه أصابعنا حتى نحمي أنفسنا من ذلك الشعور المخيف بأنّنا لا نملك شيئاً على الإطلاق، أنا كنت أمتلك الانتظار، أنتظر كلّ مساء أوّل من يطرق باب منزلي قبل أن يبدأ المكان بالطوفان. ما كان يجمعنا فعلاً هو أنّنا أبناء مدن ممسوخة، نعمل على استيهام كلّ ما نحتاج إليه من فراشات وأنهار وجبال و مقاهٍ و نبيذ و حبّ، الطبيعة التي نعرفها في شوارع مدننا عبارة عن أشجار متفرّقة تقاوم الكتل الإسمنتية بالمحبّة والإيمان.

نحن ممسوخون أيضاً وتائهون في الزمن ، ننتظر مخلّصاً يرتدي بنطال جينز، ولا ينتهي معلّقاً على خشبة، نتشارك شعوراً بأنّنا متنا البارحة، واليوم نغسل أكفان بعضنا، نملك أكثر ممّا نحتاج من العدم واللامعنى، هذا ما يجمع مسوخ المدن الجديدة، نحن فعلاً عالقون في مكان آخر حيث العالم لا يحتاجنا على الإطلاق.

دائماً ما يعود الأصدقاء إلى نهش الحرب، تجريدها من ملابسها ومداعبتها قليلاً، كلٌّ حسب خيالاته الجنسية الخاصة، ثمّ شراء ملابس لها بألوان يحبّها ومقاس كبير يلائم جسده، كانت الحرب تمثّل لي أسطورة برائحة عفنة تفوح في أرجاء المكان، ثقيلة الظلّ، أحمل في رأسي قطعاً من روائحها وصخبها، ومنذ زمن توقفّت عن تناولها بجديّة، كان من يتحدّث عنها بجدّية يبدو أكثر هزلاً وفحشاً من غيره. الأكيد أنّنا جميعاً على هامش الحرب نموت أطفالاً يتمخطون بأكمامهم، بتعاسة لا تعرفها جثث البرد السريع المحظوظة، لكن كلّ ما كان يهمّني حين رحلوا وبقيت وحيداً أنّ بعضهم ترك بعض بصماته الدبقة على طاولتي التي نظفتها في الصباح، إلى جانبها علقت بعض الأصابع، كأس قشور البرتقال قد فاض، و كان كرسيّها منذ مغادرتها يغنّي ألماً أخيراً.

للأبواب الغائرة في آخر الليل ضجيج متعب

تعذّبني بصمتها لتجعل عيوني خشباً مثلها

جدران غرفتي باردة لا تقرأ الشعر ولا تتصفّح الجرائد

تواظب على عملها طوال الوقت وتحدّ عني العراء

باردة فقط وتكره أن يلوّث بياضها أيّ لوحات سخيفة

اتّفقت معها أن أكتفي بلافتة كتب عليها

“الراحات المنسيّة على الطاولة تتعرّض للتمزيق من إخوتها”.

عند رحيلهم كانت لأنفاسهم الملقاة في كلّ مكان بإهمال رائحة أحزانهم المملّة، أتنفّسها حتى أشعر بالغبطة من كثرة الدوار، وحينها أتذكّر أنّ خلف النوافذ رباًّ يراقبنا، أخرج وجهي للسماء بلا حياء: “أنا مذنب يكره انتظار مشنقته، نعم لقد راقبتها كلّ المساء، ولا أحمل هموم الحرب جميعها ولا أملك اعتقاداً بأنّ بإمكاني امتلاك شعور يتفوّق على ذاتي المحدودة، انزل بالسماء إلى هنا من فضلك، أنا بانتظارها”.

عندما استيقظت في اليوم التالي كان العالم كليّ الرمادية باستثناء الكأس الممتلئ بقشور البرتقال، ما زال الأطفال يحتفلون بمحاكاتهم المرعبة، وصوت صفير مرتفع يصدر عن النافذة المفتوحة، بالكاد أرتدي ما يحتاجه البرد من ملابسي على طبقات. أضحك عندما أتذكّر أنّني قد أحسد لارتداء ملابس، وعندما أبدأ بالكتابة أتساءل: هل “كانت الطائرات ترفرف بالقرب من نوافذنا ” جملة هزليّة؟

حسنا ً، الهزل الفعليّ في أن تتجشأ مدينة حزينة بهذا القدر من الضجيج، كلّ ما حدث البارحة يبدو كذكرى سعيدة ، الصباح الباكر يذيع شعوراً مؤقّتاً بالدفء ، وكأن العالم للحظات لن ينتهي.

كنت مؤخّراً قد عشت عدّة ليالٍ حميميّة مع نفسي و شاشة مضيئة، جمعت كلّ المرايا المبعثرة وبحثت فيها عن أسباب للبقاء و أخرى للتوقف عن كلّ شيء تماماً، وامتلأت سرّاً بالحنين للحظات من المتعة الخالصة اكتشفتها خلف عينيها الداكنتين، وفي رنين ضحكتها التي ما زال باستطاعتي أن أستعيدها بكل وضوح، من المؤسف أو الممتع –لست متأكداً- أن تناقض نفسك باستمرار، شعور يشبه العيش لمرّات متعدّدة، أن تكتشف آسفاً أن لك قدرة عالية على الاستمتاع بالجمال الخالص بلا شروط تافهة لو كنت في مزاج مناسب لذلك، لا شيء أكثر.

كان المكان يزداد اتّساعاً كلّما قلَّ عدد من يطرق بابي، و تضعف قدرتي على التشبّث بالزمن كلّما ضعف الطوفان الذي يعصف بشقّتي عند المساء، بدأت بنسيان الدبق، و السهر لوقت متأخّر مرغماً في كثير من الأحيان، و مَن يصطحبهم الأصدقاء مِن ثقيلي الظلّ في الغالب.
هذه السَّكينة التي تزدحم داخلي عند إغلاق أبواب المحلّات كانت تقتات على ما تبقّى من أعصابي المهترئة سريعة الاشتعال. قرّرت أن أعود إلى نفسي أكثر من أيّ وقت، أن أعلّقها على الجدار لتأمّلها، حاولت التعلّق بكلّ ما طالته يداي، خاصّة بما أمتلكه في جعبتي من مخاوف صغيرة ووساوس، لديّ وسواس متحذلق يتعلّق بصنع نهاياتي الخاصّة، كلّ ما أمكنني التحكّم به هو أمر ممتع لي بالضرورة، يمكن القول إنّ نهايتي الخاصّة ستكون بأن أتجاهل الطَّرقات التي يصدرها حاملو حقائب السفر الذين يقفون على الأبواب، وأترك أصابعهم تتجمّد عمداً عوضاً عن مصافحتهم والابتسام في وجههم بهدوء قبل الرحيل.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية.