حياة غير متوقعة
العدد 261 | 14 تشرين الثاني 2020
ويستن هيو أودن


 

من مقدمة مطولة لكتاب “من الأعماق” الصادر أخيراً عن دار المدى، ولكم أن تستنفروا عقولكم وحواسكم لتلقي ما ينتظركم طالما أن شاعراً بحجم أودن يقدّم لرسائل كاتب إشكالي بحجم أوسكار وايلد:

     

عندما كنا صغاراً تعلم أكثرنا أنه ليس مما يشرف أن يقرأ المرء خطابات غيره دون إذنه. وأعتقد أننا، حتى بعد أن أصبحنا أدباء، لم ننسَ ذلك الدرس المبكر. فحتى لو كان الأمر يتعلق بواحد من المشاهير توفي فإن هذا لا يعطينا الحق في الاطلاع على مراسلاته الخاصة، فضلاً عن نشرها. إذ يجب أولاً أن نوجه إلى أنفسنا سؤالين:

الأول: هل يهمه ذلك؟

والثاني: هل المحتويات ذات قيمة تاريخية تسوغ نشرها، حتى لو أهمه الأمر؟ أما في حالة الكاتب المطبوع على كتابة الرسائل، ولنقل مثل هوراس والبول، الذي يرى أن كتابة الرسائل ضرب طبيعي و«غير شخصي» من الإنشاء الأدبي لا يختلف عن الشعر أو القصص، فإن المرء يشعر بوجه عام أن مثل هذا الكاتب يسره أن يطلع الناس على رسائله. كذلك في حالة رجال الأعمال، كالساسة والقادة وغيرهم، ممن تؤثر قراراتهم في تاريخ المجتمع الذي يعيشون فيه، من حقنا أن نعلم أن كل شيء عن حياتهم يلقي ضوءاً على أعمالهم العامة. وإنما يختلف الأمر فيما يتعلق بالكتاب والفنانين؛ فبعضهم قد يكون مفطوراً على كتابة الرسائل كذلك، غير أن الكاتب المتوسط الإنتاج، شاعراً أو قصاصاً أو كاتباً مسرحيّاً، يكون في الواقع مشغولاً جدّاً، وهو يركز غالباً على نفسه بصورة تجعل من الصعب أن يبذل كثيراً من الوقت أو يتحمل عناء في مراسلاته. فإذا فعل، وحيثما أتاح له الظرف أن يفعل، فإن خطاباته تكون غرامية غالباً. وإذ كانت حياة الفنان الخاصة لا تلقي ضوءاً هامّاً على أعماله قط، فليس من الإنصاف أن يتطفل الآخر على خصوصياته.

وهكذا فإن خطابات كيتس إلى فاني براون، وخطابات بتهوفن إلى ابن شقيقته كان يجب، إما ألّا تنشر بتاتاً، أو تنشر غفلاً عن الاسم، كما يحدث في عرض قصص في حالات علم النفس.

ماذا إذن عن خطابات أوسكار وايلد؟ أهناك ما يسوغ نشرها؟ شيء ما، لدهشتي، يجعلني أقول: بلى! لقد قال ييتس عن وايلد : إنه كان يبدو كرجل أعمال أكثر من أن يكون كاتباً. وأعتقد أن ما كان يجب أن يقوله هو أن وايلد، سواء كعبقري أم كرجل تحكم القدر في حياته، كان «ممثلاً» في المحل الأول. فحتى أولئك الذين عاصروه وأعجبوا بكتاباته لم يسعهم إلّا أن يسلموا بأن أسلوبه الكتابي كان أقل مستوى من أسلوبه الخطابي. وكان من أشد حوافز إلهام مخيلته وجود مستمعين يحس بوجودهم، وما يتأتى منهم من تجاوب سريع. ولقد قام وايلد في البدء بتمثيل حياته، واستمر يفعل ذلك حتى بعد أن انتزع القدر اللعبة من بين يديه. فالتمثيلية في جوهرها إفشاء، وعلى المسرح لا تخفى الأسرار. ولذلك فإني أشعر بأنه ليس هناك ما يرغب فيه وايلد أكثر من أن نعرف عنه كل شيء. ثم يبقى السؤال عن موقف أولئك الذين تلقوا رسائله. فالواقع أن هذه الرسائل لم يتح نشرها إلّا بعد أن مات أكثر أصدقائه المقربين: ألفرد دوجلاس، وروبي روس، وروجي تيرنر، ومور أدي، وغيرهم، وذلك بسبب ما تضمنته من إشارات إلى ميولهم الجنسية الشاذة. وباستثناء واحد، فإن الكشف عما كان في كل الأحوال سرّاً مكشوفاً لم يكن ليسبب لهم أقل إحراج، وهو أمر تافه إذا ما قورن بما كشفت عنه تلك الرسائل من ولائهم وشفقتهم وسماحتهم مع وايلد في وقت كان يجب فيه على من يعتبر نفسه صديقاً له أن يكون على جانب كبير من الشجاعة الأدبية. وهذا الاستثناء هو، بطبيعة الحال، لورد ألفرد دوجلاس، الذي تبرز صورته من تلك الرسائل كشخص شرير، ساعٍ وراء المال، محدث نعمة، مناهض للسامية – صورة مفزعة لشخصية حقيرة غبية لا يمكن أن تقال عنها كلمة خير. وربما استطاع المرء أن يشعر بشيء من الرثاء له لو أمسك لسانه بعد الواقعة المفجعة، غير أنه لم يفعل. فهو لم يقف عند حدّ كتابة قصة علاقتهما التي ملأها بالأكاذيب، بل جرؤ على أن يسبغ على نفسه جوّاً من الفضيلة؛ ولذلك فإن من العدل أن تعرض شخصيته على حقيقتها.

وكما أشارت جميع الصحف بحق، فإن مستر روبرت هارت دافيز، وهو الذي جمع خطابات أوسكار وايلد، وقد نشرت بواسطة «هاركورت بريس والعالم»، قد قام بعملية نشر محكمة لا شك في أنها كانت صعبة للغاية. فقد كان خط وايلد صعب القراءة، وكان من النادر أن يؤرخ خطاباته. وقليل ممن ابتدروا الكتابة عنه يمكن الاعتماد عليهم على أساس من تقرير الحقائق. كما أن بعض خطاباته قد شوّه ولا يزال بينها عدد مزيف. ولقد قام مستر هارت – دافيز بطبع جميع الخطابات التي نجح في جمعها، وقد بلغ عددها 1298 خطاباً، باستبعاد مئتي مذكرة مختصرة ليست بذات أهمية، أما الحواشي والفهارس التي قام هو بوضعها فإنها تقدم المعرفة الأساسية التي يتطلع المرء إليها. والواقع أنني لم أقرأ كتاباً قط كهذا يستطيع المرء فيه أن يرجع بسهولة إلى حاشية أو يقوم بتحقيق معارض.

لقد كانت حياة وايلد مأساة. وبقراءة خطاباته في تعاقبها يشعر المرء بإثارة كتلك التي يشعر بها حينما يشاهد مأساة إغريقية يعلم فيها المشاهدون ما هو في سبيل الحدوث بينما لا يعلم البطل شيئاً من ذلك. وتبدأ الرواية في جامعة أكسفورد خلال سنوات 1870 وما بعدها. وعلى المسرح يشاهد وايلد واثنان من ظرفاء الطلبة هما ريجنالد هاردنج ووليم هارد. وقد قدّر لأحدهما أن يصبح سمساراً وللآخر أن يصبح محامياً في برستول. وحينما أتذكر أيامي فى أكسفورد أتصور أن خطابات وايلد إليهما لا بدّ من أن تكون قد امتلأت بالاكتشافات الأدبية والإطناب المبالغ فيه لهذا المؤلف والنقد الذي لا رحمة فيه لذاك، أو بالمحادثات الفلسفية. غير أنها لم تكن أدبية ولا عقلية. ومن النادر أن تجد فيها كلمة عن الشعراء «المحدثين» في تلك الفترة، من أمثال سوينبورن، وموريس، وروسيتي، وجيمس تومسون، وكوفنتري باتمور. والحقيقة أن القصيدة الوحيدة من بين الجميع التي تكلم عنها في حماسة هي قصيدة مسز براوننج «أورورا لي» التي يضعها في مستوى «هاملت» و«في ميموريام». وإذا اقتبس تعليقه على تلك القصيدة غفلاً من الاسم فأعتقد أن أحداً لن يستطيع أن يحدس من هو المؤلف، فهو يقول:

…«إنه واحد من تلك الكتب التي كتبت مباشرة من القلب، وكتبت، فضلاً عن ذلك، من قلب كبير. ومثل تلك الكتب لا تسبب للمرء الملل قط؛ وذلك لأنها كتبت بإخلاص إننا نملّ الفن، ولكننا لا نمل الطبيعة، بعد أن قطعنا شوطاً في التدريب على فلسفة الجمال».

ونقص الاهتمام بما يكتبه الآخرون، وفي الحالة النادرة حينما يجب الاهتمام، ونقص الحكم النقدي الحساس، هما من خطابات وايلد حتى نهايتها. ومن بين الشعراء الذين كانوا بادئين في نشر أعمالهم بين عامي 1880 و1899 أربعة فقط قدر لهم أن يعيشوا، وهم بريدجز، كيپلنج، ييتس، وهاوسمان (ربما أضفت إليهم أنا شخصيّاً كانون ديكسون وأليس مينل، غير أنهما لم يقرآ بصورة واسعة وليس من المحتمل أن يقرآ). ولم يحدث أن أشار وايلد إلى شعر بريدجز أو كيپلنج قط، أما عن ييتس فقد عرفه شخصيّاً، وربما كان قد قرأ له. وأما هاوسمان فقد أرسل إليه نسخة من «ولد من شر وبشير»؛ ومن الأسلوب والموضوع لا يسع المرء إلّا أن يتوقع أنه كان متفقاً معه في المشارب بصورة استثنائية. غير أنه لا يبدو أنه أدرك أن شعر الاثنين كان من نوع يختلف بصورة تامة عن شعر الآخرين، ولنقل عن شعر داوسن أو جالين. كذلك لم يكن وايلد، كما أعتقد، مخادعاً لنفسه حينما قام بسخف بتقدير ما نظمه دوجلاس من قشور تقديراً فيه كثير من المبالغة، فقد اعتقد بحسن نية أن ذلك الشعر كان جيداً. أما كناقد للدراما فقد كان أحسن بعض الشيء، إذ استطاع أن يميز عبقرية إبسن، بل ومما يثير الدهشة أن يعترف بعبقرية شو، باعتبار ما كان بين الاثنين من اختلاف في وجهة النظر عن الفن. فحينما كان شو يعتبر أكثر كتاب التمثيليات نجاحاً في إنجلترا، وفي الوقت الذي دوّت فيه تمثيليته «بيوت الأرامل» على المسرح كان وايلد من الحصافة والسماحة بحيث وصفها في مستوى تمثيلياته، وقد قال عنها، مخاطباً شو:

«لقد قرأتها مرتين بأشد ما أملك من اهتمام. وإني أحب منك تلك الثقة الوافرة في القيمة الأدبية لحقائق الحياة المجردة. إنني أعجب بما تنبض به شخصياتك من لحم ودم هائل، وإن مقدمتك طرفة أدبية – طرفة أدبية حقيقية بما فيها من إنشاء منمق، ونكتة لاذعة، وفطرة درامية».

ولنعد إلى خطاباته الأولى. فمحتويات القسم الأكبر منها محادثات شخصية ودّية غالباً. فإن الموضوع الوحيد منها الذي يخرج عن الدائرة الشخصية يدور حول فلسفة الجمال للكاثوليكية الرومانية. ويبدو أن التغزل بروما كان شائعاً في أوساط أكسفورد في ذلك الحين. وفي ذلك يقول وايلد:

«إذا كان لي أن أرجو من الكنيسة أن تخلق فيّ شيئاً من الجدية والطهارة فيجب أن أذهب إليها كشخص مترف، إن لم يكن هناك سبب أفضل. غير أني لا أتوقع ذلك، إذ إنني لو ذهبت إلى روما فمعنى ذلك أنني يجب أن أضحي بمعبوديّ العظيمين: المال والطموح!».

وينتهي مشهد أكسفورد ببلوغ وايلد طموحه العاجل، فيكون الأول في الـ Mods ثم الأول في الـ Greats، وهو أمر لا يستطيع امرؤ أن يبلغه مهما كان ذكيّاً بلا دراسة جادة. ثم يذهب إلى لندن حيث يشترك في المسكن مع مصور يدعى فرانك مايلز. وفي غضون ثلاث سنوات يصبح صديقاً لأشهر الجميلات، كـ «ليلى لانجتري»، وينشر ديوان أشعار (وقد أرسل منه نسخة كتحية إلى غلادستون)، ويجعل من نفسه واحداً من أكثر من تتناولهم أحاديث المدينة. وفي أبريل عام 1881 تظهر الأعداد الأولى من صحيفة «بيشنس» التي كان يصدرها كل من جيلبرت وسوليفان. وكما يرى مستر هارت – دافيز فإن جيلبرت ربما كان قد اتخذ في البدء شخصية روستي مثالاً لشخصية «بنتورم» التي كانت تظهر في تلك الصحيفة. غير أن الرأي العام اعتقد بالتأكيد أن تلك الشخصية لم تكن إلّا كاريكاتيراً لوايلد.

وباستثناء الخطابات التي كتبت من أمريكا، فإن المرء لا يستطيع أن يقول : إن الخطابات التي كتبها وايلد قبل أن يدخل السجن، في جملتها، لها أيّ أهمية من حيث موضوعاتها. أو أنه يستطيع أن يقول، على ضوء ما عرف عن وايلد من مقدرة عجيبة في الحديث، لا سيما بالأسلوب الذي تشيع فيه النكتة : إنه لم يولد كاتباً بل متحدثاً… أستاذاً في الوقوع على الكلمة المناسبة في اللحظة التي تتطلب ذلك. فإذا قارنا الكتابة بالحديث بوجه عام فإن أخف الرسائل موضوعاً تتطلب جهداً، ثم إن الكاتب لا يكون حاضراً ليرى وقع ما كتب في نفس القارئ. ولقد كان وايلد في سنوات ازدهاره الاجتماعي والأدبي يجد جماعة كافية من المستمعين لحديثه، ولذلك فإن أكثر خطاباته لم يكن يكتبها لغرض الكتابة، بل بطريقة عرضية؛ كردّ على خطاب، أو للتشاور مع بعض المحررين، أو للتفاوض في شأن الكتابة في بعض الصحف. ومع ذلك فإنها تحدث تأثيراً مقبولاً، وهي تقنع المرء بأن الكاتب كان شخصاً لطيفاً، وودوداً، وكريماً، وفضلاً عن ذلك كان رجلاً ذا قلب رقيق المشاعر، لا يحمل أيّ نزعة من الخبث والحسد الذي يشيع عادة في نفوس الأدباء. وعندما يفكر المرء فيما عليه أكثر الأذكياء من خبث وما يتميز به أكثر الكتّاب من غيرة وشح، فإنه لا يملك إلّا أن يمتلئ إعجاباً به.

في عام 1881 فتحت صحيفة «بيشنس» في نيويورك. وكان المدير الأمريكي لمؤسسة «د. أويلي كارت» هو الكولونيل مورس. فرأى أن وجود وايلد قد يحدث دعاية نافعة. وعليه فقد أعدّ لسفره ليقوم بإلقاء سلسلة من المحاضرات في الولايات المتحدة. ويمكن إدراك ما أحرزه وايلد من اسم كبير وهو لا يزال في الثامنة والعشرين من الأجر الذي فرضه هو نفسه. ففي بوسطن وشيكاغو حصل على ألف دولار عن كل محاضرة، ولم يحدث أن حصل على أقل من مئتين قط (عندما أفكر فيما كانت عليه قيمة الدولار حينئذٍ فإنني لا أستطيع إلّا أن أشعر بالغيرة!). ولقد وجد وايلد نفسه يدخل سريعاً في خصام مضحك مع محاضر بريطاني منافس يدعى أرشيبالد فوربس، وكان لهذا الخصام ضجة كبيرة. كان وايلد يحاضر عن الفن الديمقراطي والنهضة الإنجليزية بينما كان يرتدي سراويل قصيرة وصديرية ضيقة من المخمل وقد أرسل شعره حتى كتفيه. أما فوربس فقد كان يحاضر عن مغامراته كمراسل حربي في حروب البلقان، وقد غطت صدره ميداليات حربية وبدا حليق الرأس من الجذور. ويبدو أن البطولة المتبدية في المظهر المسرف في الرجولة كانت أقل في إثارة الاهتمام! على كل حال، لقد كان فوربس هو الذي أثار النزاع، وقد فعل وايلد ما بوسعه ليترضاه، وقد أتاح هذا للصحافة مادة صالحة، واتخذ كثير من الصحف موقفاً معادياً من وايلد؛ غير أنه كان يستطيع دائماً أن يكسب جانب مستمعيه. وحتى أولئك المعدنين في منجم «ليدفيل» في كولورادو، وقد قدّم إليهم محاضرة عن «بنفينوتو تشلليني» فإنهم أقاموا له بعد ذلك وليمة. وقد علق على ذلك قائلاً:

«إن دهشة المعدنين لم تقف عند حدّ حينما رأوا أن الفن والشهية يستطيعان أن يسيرا ويد كل منهما في يد الآخر! فحينما كنت أشعل سيجاراً طويلاً كانوا يواصلون الهتاف حتى تسقط الفضة من السقف غباراً فوق أطباقنا. وحينما كنت أجرع قدحاً من الكوكتيل بلا توقف كانوا يعلنون بطريقتهم البسيطة الفخمة أنني «ولد مشاغب ولكن بلا عيون زجاجية». فكنت حينئذ أعمد إلى فتح عرق معدني جديد، مستعملاً مثقاباً فضيّاً كنت أستعمله بمهارة بين تصفيق الجميع. وقد أهدي إليَّ المثقاب الفضي، أما العرق فقد سمي بالـ… أوسكار».

ومن المهم أن يعلم القارئ اليوم أن وايلد أقام مع چيفرسن دافيز في الجنوب، وأنه كان في «سانت جوزيف» بميسوري في الأسبوع التالي لمقتل جيسي چيمس. وسيشعر القارئ أيضاً بما استولى عليه من شفقة وخوف لأول مرة حينما كان في «لينكولن» في نبراسا، فرأى مستضيفوه أن يذهبوا به في جولة خارج المدينة كما يقول:

«ساقوني إلى الخارج، ثم ذهبنا بعد لمشاهدة السجن الكبير! وهناك رأيت أنواعاً غريبة تعيسة من البشر في أثواب مهلهلة مريعة تصنع الطوب في وهج الشمس. وكان فما مظهرها الدنيء ما أدخل العزاء على نفسي، فقد كان يصعب عليَّ أن أرى سمات النبل تتبدى في مظهر الإجرام».

وفي شيكاغو يتكلم إلى الصحفيين عن ثلاثة من أبطاله، وهم: هويسلر، ولابوشيه، وإيرفنج. وكان ثاني هؤلاء هو المسؤول عن تعديلات القوانين الجنائية التي حكم بموجبها على وايلد. وقد أعلن أسفه بعد صدور الحكم، لأن أقصى مدته لم تكن سبع سنوات بدلاً من اثنتين فقط!.

وحال عودته، في عام 1883، أمضى ثلاثة شهور في باريس، حيث التقى بواحد ممن ترجموا بعد لحياته، هو روبرت شيرارد. وفي نوفمبر من ذلك العام عقدت خطوبته على كونستانس لويد، وبنى بها في مايو التالي. وكانت هذه بلا شك أكبر خطوة اتخذها وايلد بلا تبصر. بل ربما كان الأمر الوحيد في حياته الذي قام به بلا عاطفة. فقد يحدث ألّا يميز الشخص المنحرف إلى مخالطة النوع نفسه، حالته مدة من السنين. وقد يتزوج على أساس من حسن اعتقاده. غير أن المرء لا يستطيع أن يعتقد أن وايلد كان بمثل تلك البراءة! ثم إن أكثر المخالطين للنوع نفسه يرتاحون إلى مصاحبة النساء. ولما كانوا لا يطمعون في أن يتخذوا منهن أهدافاً لإشباع رغبتهم في المخالطة فإنهم يكتفون بأن يشعروا نحوهن بصداقة قوامها التفاهم والعطف، وكثير ممن يميلون إلى مخالطة النوع نفسه يشعرون، كغيرهم، برغبة في إنشاء بيت والتمتع بذرية، غير أن الزواج لمثل هذه الأغراض يقوم على غير عاطفة. ولم أرَ زواجاً من هذا النوع قط، – على الأقل إذا كان الشريكان تحت الخمسين – لم تعانِ فيه الزوجة عذاباً، حتى لو كانت على علم تام بميول زوجها. ولا بدّ من أن تكون كونستانس وايلد قد عاشت غير سعيدة، حتى لو لم تكن هناك فضيحة أدّت إلى شعورها بالذل في المجتمع، كما جرّت عاراً على طفليها؛ وذلك لأنها كانت تشعر طبعاً بأن زوجها كان «يستثقل الحياة الزوجية إلى درجة الموت»، كما اعترف هو نفسه أخيراً. وحينما أصبح وايلد يعول زوجة وطفلين وجد نفسه يواجه مشكلة تأمين دخل ثابت. وكان عجيباً أن يفكر في البدء في أن يصبح مفتش تعليم، كما فعل ماتيو أرنولد. فلما أخفق في ذلك اضطلع بتحرير «عالم المرأة». وتدل خطاباته في تلك الفترة على أنه كان يقوم بتلك المهمة في إخلاص وجدّ كبيرين. بل إنه كتب إلى الملكة فكتوريا سائلاً ما إذا كان لديها أيّ أشعار كتبت في شبابها ليكون له شرف نشرها، ولا تزال مذكرة الملكة فيما يتعلق بهذا الطلب باقية. وفيها تقول:

«حقّاً ما الذي لن يقوله الناس ويختلقوه. إن الملكة لم تستطع طوال حياتها أن تكتب سطراً واحداً من الشعر الجاد أو الهازل قط، أو أن تضع سجعاً. إذن فكل هذا اختلاق وأسطورة».

ثم تحول وايلد، ككاتب، من الشعر إلى النثر، لحسن حظ من كان يهمهم الأمر. وفي عام 1889 أصبحت أحواله العملية تساعد على التخلي عن وظيفة المحرر، ليعيش بمجهود قلمه. ولقد أحدثت روايته «صورة دوريان جراي» فضيحة، غير أن ما بيع منها كان قدراً كبيراً. أما «سالومي» فقد صودرت، غير أن التمثيليات الأربع التي كتبها بين عامي 1891 و1894 كانت كلها انتصارات مسرحية، وجعلت منه أعظم من نالوا الإعجاب وأغنى كتاب الدراما في عصره. وفي تلك السنوات من نجاحه الصاعد أخذت أسماء الشخصيات البارزة في درامته هو نفسه تدخل في حياته. وكان هؤلاء هم روس، وليونارد سميترز، وتيرنر، وأدي، وفرنك هاريس، وأدا ليفرسن (وقد أهملت الآن رواياتها بصورة عرضية تدعو إلى الخجل)، ثم بوزي دوجلاس بطبيعة الحال. ولقد جاءته أول إشارة إنذارية بما يخبئه له القدر في عام 1894، وذلك عندما ألقي القبض على ألفرد تيلور، وهو رجل كان يدير بيتاً للبغاء بين الذكور كان وايلد يتردد عليه. وقد سقطت التهمة هذه المرة، غير أنه لم يمضِ عام حتى وجد الاثنان نفسيهما جنباً إلى جنب في قفص الاتهام. على كل حال، مهما بلغت رذائل تيلور فإنه سيُذكر دائماً على أنه رجل شريف، فقد آثر أن يدخل السجن على أن يجعل من نفسه شاهد إثبات.

وإنما يرجع الفضل إلى أشرطة السينما في اطلاع أكثر الناس على المحاكمات الثلاث. وسواء كان القانون الذي يعاقب على ممارسة اللواط بين شخصين عاقلين متوافقين عادلاً أم غير عادل فإن هذا مما يقبل النقاش. أما الحقائق التي لا تقبل جدلاً فهي:

أولاً: إن مثل هذا القانون يشجع على التستر لقاء المنفعة المادية.

ثانياً: إنه ليس إيجابيّاً من حيث التنفيذ، وذلك لأن تسعة وتسعين في المئة ممن يمارسون اللواط لا يعنيهم الأمر، طالما هو لا يمسّ حريتهم الشخصية، سواء وجد هذا القانون بين القوانين أم لم يوجد. أما الذين يتكون منهم الواحد في المئة، أو ما هو أقل، ممن يقعون في المتاعب، فإنهم جميعاً تقريباً، إما من أولئك الذين يميلون إلى استعمال الأحداث، فيعمد الصغير إلى إخبار ذويه عاجلاً أو آجلاً، أو من الذين يطاردون الرغبات العامة بطريقة إجبارية، ثم يتحول الواحد منهم تدريجيّاً إلى وكيل محرض. ولقد كان من الممكن ألّا يقع وايلد في تلك الورطة لو لم تدفعه حماقته – وهو أمر لا يسع المرء إلّا أن يعجب له – إلى رفع دعوى على كوينزبري. وفي ذلك يقول هو نفسه في خطابه إلى دوجلاس:

«أوَتحسب أنني هنا بسبب علاقاتي مع شهود قضيتي؟ إن علاقاتي، صحيحة كانت أو مفترضة، مع أفراد من ذلك النوع لم تكن بذات أهمية، لا في اعتبار الحكومة ولا في اعتبار المجتمع. فهما لم يعلما عنها شيئاً، ولا يعنيهم أن يعلما. وإنما أنا هنا لأنني حاولت أن أضع أباك في السجن».

بل كان في استطاعته أن يتخلص، حتى بعد أن وصل الأمر إلى ذلك الحد، لو لم يقم ممثلان مفضوحان، هما هاوتري وبروكفيلد، بإخبار محامي كوينزبري أين يستطيعون العثور على شهود. ولكي يستطاع تأمين الاتهام تعهد التاج بإسقاط الادعاء عن عدد من المتسترين المأجورين ومن البغايا الذكور.

ولقد قام وايلد بعد خروجه من السجن بوصف ما كانت عليه السجون الإنجليزية في ذلك الوقت في خطابين بعث بهما إلى صحيفة «الديلي كرونيكل» لا يتمالك المطلع عليهما إلا أن يذرف الدمع ويشعر بالسخط. وكان من الطبيعي أن تتأتى ثمرة ذلك، فقد وضعت بعد ذلك بعض آرائه الإصلاحية موضع التنفيذ. ولقد حدث في الشطر الأخير من حياته في السجن أن أسعده الحظ بوجود محافظ على جانب من العاطفة الإنسانية، وهو الماجور نلسن، فصرح بدخول أدوات الكتابة إليه، وبذلك استطاع أن ينشئ رسالته إلى لورد ألفرد دوجلاس التي تستغرق سبعاً وثمانين صفحة من المجلد الذي جمع. وحينما قام روس في عام 1905 بنشر أقل من نصفها تحت عنوان «د. بروفندي» فعل ذلك بدافع من النية الحسنة ما في ذلك شك، غير أنه أساء إلى وايلد من حيث أراد أن يحسن؛ وذلك لأن القطع التي اختارها كانت أضعف ما في الرسالة من حيث الإنشاء، كما تضمنت غموضاً في المعنى من ناحية الاستقامة العاطفية. وحينما قرأت الكتاب وأنا لا أزال صبيّاً لم أتمالك أن أثور، فقد بدا لي أن من الفظاعة أن رجلاً يكتب تحت مثل تلك الظروف المريعة يستطيع أن يستمر هكذا في الكتابة المسرحية. أما الآن، والفضل في ذلك يرجع إلى مستر هارت – دافيز، فإن تحت أيدينا النص التعريفي البات الكامل، فإذا به وثيقة تختلف جدّاً عما كنا نعتقد. (كما يبدو، فإن الطبعة التي نشرها مستر فيفيان هولاند – ابن وايلد – في عام 1949، وقد اعتمد فيها على الأصل المنسوخ على الآلة، مليئة كذلك بالأخطاء، وقد حذفت منها أجزاء كثيرة).

حينما يتكلم وايلد عن عيسى والخلاص عن طريق الآلام فإن آراءه تبدو صبيانية مملة، كآراء «جيد» في الموضوع نفسه. أما حينما يتكلم عن بوزي دوجلاس فإنه يعرض أسلوب الكاتب الكبير، المتميز بالفطنة والأمانة والشجاعة. ولقد كانت علاقاتهما على جانب كبير من الأهمية من الناحية السيكولوجية. ومن الواضح أن افتتان وايلد ببوزي لا يرجع في الدرجة الأولى إلى الناحية الجنسية. ويستطيع المرء أن يحدث أن أيّ اتصالات جنسية حدثت بينهما كانت قليلة الحدوث، بل وربما كانت غير مرضية. كان بوزي يعيش حياة عابثة حينما التقيا لأول مرة، وقد استمر فيها، ولم يظهر وايلد ما يدل على أنه كان يشعر بشيء من الغيرة. وبقدر ما يعني الأمر الموضوع الجنسي فإن أهم أثر لبوزي في حياة وايلد أنه كان أول ساعٍ به إلى دنيا البغايا الذكور! وكان وايلد حتى ذلك الحين قاصراً أمره على أشخاص من طبقته. وحينما التقيا كان بوزي، ولم يكن قد تجاوز الثانية والعشرين، قد وقع من قبل في قبضة المتسترين بالأجر. وفي ذلك يقول وايلد:

«ما كان عيبك في أنك عرفت القليل عن الحياة، بل في أنك عرفت الكثير!… فقد بدأت تفتنك المجارير وما يعيش فيها… ومع أن الموضوع الذي تركز حوله حديثك دائماً كان ساحراً بدرجة فظيعة، إلّا أنه في النهاية أصبح مملّاً بصورة تامة».

أما الجاذبية التي كانت متبادلة بينهما فإنها كانت ناشئة مما فرضته أنانيتهما أكثر من أن تكون نابعة من أحاسيسهما. فقد كان بوزي يشعر بأنه غير أهل للحب، ولذلك فقد كان وجود وايلد بالنسبة إليه أهم من وجود أيّ شخص آخر، ما عدا والده. ويستطيع المرء أن يقول هنا : إن لقاءهما كان لقاءً بين شخصين لقي أحدهما من الحب أكثر ولقي الآخر أقل. ومثل هذا اللقاء يكون دائماً خطراً للغاية. فأيّ طفل يكتشف أنه منبوذ ومكروه من والده – كما كان حال بوزي – لا يتمالك أن يشعر بأنه تافه القيمة، وهذا الشعور يتركز في أعماق نفسه مهما حاول أن يكتمه. فإذا حدث أن التقى أثناء نموّه بشخص يرى منه شيئاً من الحب، لا سيما إذا كان هذا الشخص أكبر سنّاً، فإن عقله الباطن لا يمكن أن يعتقد بصدق ذلك الحب، ومن ثم يندفع الطفل تباعاً – بفعل شعوره اللاواعي – إلى اختبار ذلك باتباع السلوك السيّئ مع من شعر منه بالعطف. فإذا رآه ينبذه تأكد شكه، ولكن مهما تسامح معه ذلك الذي أحبه فإن شكه لا يمكن أن يزول تماماً. فضلاً عن ذلك، إذا كان الشعور بتفاهة القيمة قويّاً بدرجة كافية فإن صاحبه قد يشعر، عن لاوعي ثانية، باحتقار لأيّ شخص يبدي له شيئاً من الحب. فهو يرى، عن طريق هذا الشعور، أنه إذا كان والده محقّاً في نبذه، فإن أيّ شخص يقبله لا بدّ من أن يكون غبيّاً، وهو بذلك لا يستحق إلّا التعذيب. ولما كان وايلد قد أصاب نجاحاً وشهرة ككاتب، فإن أول اختبار بناء على ذلك كان اكتشاف ما إذا كان حبه لبوزي أقوى من حبه للكتابة. وعليه فيجب العمل على تضييع وقته. وفي ذلك يقول وايلد:

«في الثانية عشرة كنت تأتيني راكباً، فتجلس وتدخن وتثرثر حتى الواحدة والنصف، حيث كان يجب أن آخذك لتناول الغداء، إما في الكافي رويال أو في مطعم بركلي. وهذا الغداء مع ما يتبعه من شراب يستمر عادة حتى الثالثة والنصف؛ وحينئذٍٍ كنت تذهب إلى هوايت لتهجع ساعة، لتعود ثانية وقت تناول الشاي، وتجلس حتى وقت الاستعداد لتناول العشاء. وكنت تتعشى معي إما في مطعم سافوي أو في تايت ستريت. وكقاعدة لم نكن نفترق إلّا بعد منتصف الليل، وذلك لأن وجبة المساء في مطعم ويلي تستمر حتى استرواح تباشير الصباح. هكذا كانت حياتي طوال تلك الشهور الثلاثة، وفي كل يوم منها، ما عدا تلك الأيام الأربعة حينما ذهبت إلى الخارج».

وأيضاً، بما أن بذل المال، وبخاصة في سبيل الحصول على المسرات الصبيانية الأولية كالطعام، يعتبر في ثقافتنا رمزاً لمنح الحب كله، فقد كان على بوزي أن يرى إلى أيّ حدٍّ يستطيع أن يحمل وايلد على الإنفاق عليه في هذا السبيل. وفي ذلك يقول وايلد:

«إن نفقاتي العادية معك في لندن، للغداء والعشاء ووجبة منتصف الليل والملاهي والركوب، إلى آخر ما يدخل في هذا الباب، هذه النفقات كانت تتراوح بين اثني عشر وعشرين جنيهاً في اليوم العادي… وفي الثلاثة شهور التي أمضيناها في جورنج بلغت نفقاتي (بما فيها المسكن طبعاً) 1340 جنيهاً. وفي باريس بلغت نفقاتي عن ثمانية أيام لنفسي ولك ولخادمك الإيطالي 150 جنيهاً، ابتلع منها مطعم بايار وحده 85 جنيهاً».

وثمة دلالة لها مغزاها، فقد تذرع بوزي بالإبقاء على صداقته مع وايلد لرفض المنحة التي كان يحصل عليها من والده، كما تذرع بقلة المنحة التي كانت تحصل عليها والدته لعدم الحصول على شيء منها. غير أنه لم يفعل ذلك بنية التنازل عن شيء من حياة الترف التي كان يعيشها، بل رأى أن وايلد يجب أن يقوم بقسطي الأب والأم في تزويده بالمال.

ومن الناحية الأخرى، فإن طفلاً كوايلد، لقي من الحب قدراً أكبر، ومن والدته عطفاً أكثر، ثم اكتشف أن فيه مقدرة على اجتذاب حتى أولئك الذين يكونون في البدء مناوئين له، ربما داخله الغرور بطريق تفكيره الواعي، غير أن عقله الباطن سيشعر بالقلق، فهو لا يستطيع أن يعتقد أنه محبوب بتلك الدرجة التي رأتها والدته، ثم إن مقدرته على اجتذاب الآخرين تبدو له كخدعة أكثر من أن تكون دليلاً على قيمته الحقيقية. وحينما ينمو مثل هذا الطفل فإن ميوله العاطفية مع الآخرين، ولا سيما إذا كان هناك عنصر جنسي حاضراً، تكون عرضة للزوال بعد وقت قصير إذا استسلم الطرف الآخر له دون أيّ مقاومة. غير أنه قد يفتتن بالشخص الذي يشعر من جانبه بمعاملة سيئة، وإن لم ينبذه تماماً. فإذا واجه مثل هذه التجربة الجديدة فإن نزعة الغرور فيه تثار في صميمها بدافع من التحدي لمعرفة إلى أيّ حدّ يستطيع أن يتحمل… حتى يصبح التحمل والتسامح من عادته. وفي ذلك يقول وايلد:

« – في كل علاقة حيوية مع الآخرين يجب على المرء أن يجد طريقة للحياة. وفي حالتك، إما أن يستسلم المرء لك أو أن ينبذك… وقد استسلمت لك دائماً، وكنتيجة طبيعية فإن مطالبك، ومجهوداتك للسيطرة، وابتزازاتك، تزايدت تدريجيّاً بصورة غير معقولة. وإذ علمت أنك باصطناع مشاجرة تستطيع دائماً الوصول إلى غرضك، فقد كان طبيعيّاً أن تنساق في ذلك، غالباً بلا وعي، وهو ما لا أشك فيه، إلى أقصى حدود العنف السوقي!… ولقد ظننت دائماً أن استسلامي لك في الأمور الصغيرة لا يعني شيئاً، فحينما تأتي لحظة عظيمة أستطيع أن أعيد تثبيت قوة إرادتي في عليائها الطبيعية. غير أن الأمر لم يكن هكذا… وذلك لأن عادتي في الاستسلام لك في كل شيء، وهي ترجع أكثر ما ترجع إلى عدم الاكتراث في البدء، أصبحت بلا إدراك جزءاً حقيقيّاً من طبيعتي. ودون علم مني استطاعت أن تصب مزاجي في كهف دائم خطير».

هنا لا يسع المرء إلّا أن يفكر: ترى ماذا كان يحدث في صداقتهما لو كان كوينزبري قد مات، مثلاً؛ ربما كان بوزي يفقد اهتمامه بوايلد ببساطة. وكما كان الحال، فإن كرهه لوالده كان الشهوة الدافعة في حياته؛ وعليه فإن وايلد كشخص كان أقل أهمية منه كسلاح، وربما كان وايلد ووالده – بطريق اللاوعي – متعاقبين رمزيّاً، فلم يكن يهمه كثيراً أيهما يدخل السجن، طالما كان واحد يفعل. وفي ذلك يقول وايلد:

«عندما مضى والدك في البدء يهاجمني كان ذلك باعتباري صديقاً شخصيّاً لك. وقد جاءك خطاب خاص، ولكنك أصررت على أن الأمر لا يعنيني، وأنك لن تسمح لوالدك بأن يملي إرادته فيما يختص بصداقاتك الشخصية. وإنني أكون جائراً إلى أبعد حدّ إذا تدخلت. وقد حدث قبل أن تراني بصدد الموضوع أن أرسلت إلى والدك برقية كتبت بغباء وبلفظ سافل… هذه البرقية حددت علاقاتك بوالدك برمتها مستقبلاً، كما تحكمت في حياتي كلها… فمن برقيات منحطة الأسلوب، إلى خطابات فيها التصلف كتبت في مكتب المحامي كان لا بد من أن يتخذ الأمر طريقه بصورة طبيعية. وكانت النتيجة أن خطابات محاميك إلى أبيك حثته طبعاً على الذهاب إلى أبعد مما ذهب. فالواقع أنك لم تترك له فرصة للاختيار، بل كنت تحمله على مواصلة المضي في الطريق. وكلما فتر اهتمامه لحظة كنت تسرع فتلهبه بخطاباتك أو بطاقاتك. وهكذا حدث».

في نقطة واحدة كما أعتقد، يظهر وايلد قصوراً في الإدراك. وقد أدرك هو نفسه، إلى حدٍّ كبير، ما أقدم عليه من حماقة بادعائه على كوينزبري. وفي ذلك يقول:

«إن الفعل الوحيد الذي كان شيئاً لا يغتفر في حياتي، وسيبقى محتقراً طوال الوقت، هو أنني سمحت لنفسي بأن تغلب على أمرها بالالتجاء إلى المجتمع طلباً للمساعدة والحماية ضد والدك. وقد جهلت أنني حينما أدخل قوى المجتمع في الحساب فإنه سيلتفت إليّ قائلاً: أوَتعيش طوال ذلك الوقت متحدياً قوانيني ثم تعود الآن فتطلب الحماية بواسطة هذه القوانين؟… كلا، فيجب أن تلجأ إلى ما اعتمدت عليه من قبل!

لقد رأى الناس أنه كان مريعاً أن أدعو إلى مائدتي تلك الأشياء الشريرة في الحياة، وأن أجد سروراً في صحبتها. غير أن تلك الأشياء كانت سارة فعلاً، كما كانت مبعث وحي وإثارة. وكنت معها في ذلك كما يقيم المرء وليمة مع بعض النمور. إنني لا أشعر أبداً بالخجل من تعرفي بأولئك الأشخاص… فقد كان كل من كليبورن واتكينز بديعين في كفاحهما السيّئ ضد الحياة. فكان تكريمهما مغامرة مدهشة. وإنما الشيء الذي تكرهه نفسي هو ذكرى تلك الزيارات العديدة التي قمت بها بصحبتك إلى المحامي همفري، حيث كنا نجلس في النور الباهت في غرفة باردة وفي سمات كئيبة ندلي بأكاذيب جريئة إلى رجل أصلع».

غير أن ما لم يستطع وايلد أن يدركه هو أنه، بفرض وجود ظروفه وخلقه، فإنه كان مضطرّاً عاجلاً أو آجلاً إلى اتخاذ ما اتخذ من إجراء قضائي، حتى لو لم يحثه بوزي على ذلك؛ إذ لو كانت بطاقته قد قوبلت بالتجاهل فإن كوينزبري كان بالتأكيد سيعمد إلى ادعاءات ذات صدى أقوى في الدوائر العامة. وفي مثل هذه الحالة كان أيّ إحجام من وايلد عن الردّ على مثل تلك الادعاءات يؤخذ من جانب المجتمع على أنه دلالة على صدقها. لقد كان في استطاعته أن يفلت من دخول السجن، غير أنه لم يكن يستطيع أن يتحاشى نبذ المجتمع. وحقّاً إن من الفنانين من لا يهتمّ بسمعته الاجتماعية، ومثل هؤلاء حينما يكون الواحد منهم مستغرقاً في عمله الفني لا يعنيه في أيّ جانب من الطريق يكون. ولو حدث أن واحداً كـ «فرلين» تلقى مثل بطاقة كوينزبري لكان من المحتمل أن يكتب عليها في بساطة «بلى إنني ممن يمارسون اللواط» ثم يعيدها من حيث أتت. غير أن وايلد لم يكن كذلك، فقد كان تقدير المجتمع جوهريّاً بالنسبة إلى تقدير نفسه.

لقد كان بوزي شيئاً فظيعاً بالنسبة إلى وايلد، وكان مسؤولاً عما حلّ به من خراب. ومع ذلك فلو سئل وايلد في آخر حياته ما إذا كان يأسف على أن التقى به فربما أجاب نفياً. ولن نكون إلّا محدسين إذا تأسفنا نحن أيضاً على ذلك. فنحن لا نعلم ماذا كان يمكن أن يكتبه وايلد لو لم يلتق ِببوزي، أو لو كان قد وقع في غرام شخص آخر. وإنما نستطيع أن نلاحظ أن وايلد قد كتب الجزء الأكبر من أعماله الأدبية – بما فيها قطعته الرائعة – خلال السنوات الأربع فقط، منذ أن التقى ببوزي حتى سقوطه، وقد لا يكون لبوزي دخل في ذلك، ومع ذلك فقد يكون له دخل، ولو بحمل وايلد على أن يجدّ في سبيل الحصول على مال للإنفاق عليه.

وإنما هناك أمر يجدر الالتفات إليه. فبالرغم من معرفة وايلد كل شيء عن صاحبه بوزي، وبالرغم من كل ما حدث له بسببه، فقد كتب إليه بعد شهور قليلة من خروجه من السجن يقول:

«إنني أشعر بأن أملي الوحيد في القيام ثانية بأعمال جميلة في مجال الفن معك أنت. إن الأمر لم يكن كذلك في الأيام الماضية، غير أن الحال قد تغير الآن. وإنك تستطيع حقّاً أن تخلق فيَّ ثانية تلك الطاقة والشعور بالقوة السارة التي يعتمد عليها الفن».

كما كتب إلى روس يقول:

«دع الناس يعلمون أن أملي الوحيد في الحياة، أو في النشاط الأدبي، كان في العودة إلى الشاب الذي أحببته».

هذا الأمر يؤكد أنه بالرغم من الخصومات التي لم تقف عند حدّ، وضياع الوقت وتكبد النفقات، أو حتى بسبب ذلك كله، فإن بوزي استطاع أن يقوم مع وايلد بدور الربة الملهمة. ولقد كانت عودة علاقتهما غير مثمرة بالتأكيد، غير أن ذلك حدث لأن وايلد كان في ذلك الوقت قد فقد الرغبة في الاستلهام.

لقد كانت الخطابات التي كتبها بعد خروجه من السجن أكثر أهمية من تلك التي كتبها قبل دخوله. فحينما خرج وجد نفسه وحيداً، ولم يجد حوله تلك المجموعة من المستمعين من أقرانه الاجتماعيين والمفكرين فلم يكن أمامه إلّا أن يضع في خطاباته ما كان يدلي به في خطبه في الأوقات السعيدة. ويستطيع القارئ أن يرى في القطع الآتية لمحات مما كانت عليه خطبه:

«أؤكد لك أن الآلة الكاتبة، حينما تلعب دورها في التعبير، لا تزيد إزعاجاً عن البيان إذا ما وقعت عليه شقيقة أو إحدى القريبات. والحق أن كثيراً ممن كرسوا أنفسهم للحياة المنزلية يفضلونها».

«إن البحر والسماء يبدوان كفص «عين هر» دون أن يفصل بينهما خط من عمل رسام، اللَّهم إلّا زورق صيد يمشي الهوينى، ساحباً الريح من ورائه».

«إن الأبقار مغرمة بأخذ صورها الفوتوغرافية، وهي – بعكس المباني – لا تتحرك».

«كانت السيارة شيئاً سارّاً، ولكنها – بالطبع – تتحطم والسيارات، ككل الآلات، أكثر عناداً من الحيوانات. فهي أشياء غريبة، عصبية، قابلة للإثارة – سأكتب مقالاً عن الحالات العصبية في عالم الجماد!».

«إن المبارك القديس روبرت الفيليموري، وهو محب وشهيد، عرف في تاريخ القديسين بقدرته الهائلة، لا في المقاومة بل في الإغراء، يزود به الآخرين. وهذا ما كان يفعله في خلوات المدن الكبيرة، التي أخذ يتردد عليها في سن مبكرة نسبيّاً، وهي الثامنة».

«أعتقد أنهم (الجمهور البريطاني) يستحبون مني أن أقوم بنشر صلوات لأولئك الذين تتلاعب بهم المقادير، أو أن أدخل إنجيل المسرات في الشقوق الضيقة».

ولقد وقعت لوايلد بعض مضايقات لا تخلو من الفكاهة، فهو يقابل في الريفييرا غنيّاً من المعجبين به، يدعى هارولد ميللور، فيكرمه بأقداح من الشمبانيا ويدعوه إلى زيارة سويسرا. ويقبل وايلد الدعوة بسرور، وهو يأمل أن تتاح له معيشة في أحضان الترف. غير أنه لم يجد شيئاً من ذلك، فقد كان الجوّ في سويسرا شديد البرودة، وكان الأولاد على شيء من القبح. أما ميللور فقد عاد إلى طبعه من الشح، شأن أمثاله من الأغنياء، فلم يقدم له سوى النبيذ السويسري الرخيص، ومضى يحتفظ بسجائره بعيداً عن متناول يده. وفي باريس يلتقي وايلد بمورتون فولرتون، وهو صحفي أمريكي كان قد أخذ بالأسلوب النثري لهنري جيمس. ويحاول وايلد أن يقترض منه شيئاً من المال، غير أن فولرتون يرفض طلبه في الكلمات الآتية:

«إن صانع تلك الطرائف الأدبية على كثير من الرقة واللطف، فهو لن يتأثر صادقاً بتأسف رجل اضطر إلى الإجابة هكذا على رجاء لم يكن في الحقيقة يتوقعه، كما لم يكن في استطاعته أن يعدّله، بل ولم يكن مستحقّاً لذلك. إنني لأتلمس الأمل في أن تكون الأزمة قد انتهت في الوقت نفسه، وأنك لن تصادف مرة أخرى ما يحملك، بالرغم منك، على أن تضعني أو تضع غيري في مثل هذا الموقف، بما فيه من هم حقيقي ناطق».

غير أن هذه الخطابات في جملتها تملأ النفس حزناً بطبيعتها. فهي سجل رجل تعيس يائس ينحدر إلى الهاوية وهو يعلم ذلك. وحقّاً إن هناك كتّاباً آخرين، نذكر منهم فيلون، وسرفانتس، وفرلين، على سبيل المثال، قد تألموا من حياة السجن (وقد قاسى فيلون حتى من التعذيب)، أو كدانتي الذي قاسى من النفي، غير أن قواهم الخلاقة لم تتأثر بذلك، بل إنهم – في الواقع – كتبوا أحسن أعمالهم بعد الكارثة، غير أن حالة وايلد تختلف، إذ لم يكن ما قاساه في سجن ريدنج هو السبب في وضع حدّ لحياته الأدبية، بل كان ضياع مركزه الاجتماعي. ولو كان في مكانه كاتب من نوع آخر لوجد في الحياة البوهيمية السيئة السمعة التي عكف عليها وايلد كمذنب سابق شيئاً من العزاء، إذ لم يعد هناك – على الأقل – ما يدعو إلى التستر. غير أن تفكير وايلد لم يقبل ذلك، فقد كان الشيء المثير لإحساسه أن يعيش حياة مزدوجة، يكون فيها بوهيميّاً سرّاً، وفارساً في المحافل المحترمة علناً. وحينما رأى أبواب هذه المحافل تغلق في وجهه فقد رغبته في أن يعيش ويكتب.

إن الفنان المحترف، ككثيرين غيره، ربما كان صورة من الغرور، فهو يرغب سريعاً في الشهرة والمال، وهو يتألم إذا لم يواته الحظ بذلك. غير أن غروره يخضع دائماً لكبريائه، إذ إن كبرياءه لا تترك في نفسه شكاً مهما كان الأمر في أن ما يكتبه فريد في نوعه. فإذا كان يقول لنفسه إنه يكتب للأجيال القادمة، كما فعل ستندال، فإن هذا ليس صحيحاً بالمعنى التوكيدي، إذ إنه لا يستطيع أن يتصور ما ستكون عليه تلك الأجيال، وإنما طريقه أن يقول: إنه باقتناعه بالقيمة الدائمة لعمله متيقن من أن العالم سيميزه إن عاجلاً أو آجلاً. إنه لا يكتب ليعيش، بل يعيش ليكتب. وكل ما يلقاه من مسرات وآلام خارج دائرة عمله الخلاق – أي في حياته الشخصية والاجتماعية – يعتبر ذا أهمية ثانوية. ولن يستطيع الفشل في أيّ من الجانبين أن يضعف من قواه. ومع أن وايلد قد كتب قطعة خالدة فإنه لم يكن فناناً محترفاً بل كان ممثلاً. والممثلون جميعاً يتميزون بأن الغرور فيهم أشد من الكبرياء. فالممثل لا يشعر بنفسه إلّا حينما يرى أن هناك علاقة عطف تربطه بجمهوره؛ فإذا ما رأى نفسه وحيداً فإنه لا يعرف من هو. وفي ذلك يقول وايلد:

«عجباً أن يساعد الغرور الرجل الناجح ويزيد في تعاسة الفاشل! ففي الأيام الأولى كنت أستمد نصف قوتي من غروري».

وبقدر ما عاش في السجن وسمح له بتلقي القليل من الرسائل، فإن معرفته بالعالم الخارجي كانت مقصورة على ما يتلقاه من أصدقائه. وكان من الطبيعي أن يهتمّ هؤلاء بإدخال السرور على قلبه، وأن يحجموا عن التكلم في الأمور التي لا ترتاح إليها نفسه. فلم يستطع أن يدرك مصيره من الفقر وضياع مركزه الاجتماعي الذي لم يكن من السهل استعادته. وهكذا نراه يكتب بأمل: «يجب أن أعيش في إنجلترا، إن قدِّر لي أن أعود روائيّاً ثانية». وقد حدث في اليوم التالي لخروجه من السجن أن قام بزيارة أصدقائه من عائلة ليفرسن، وقد سلك كما لم يكن شيء جدي قد حدث له. وفي ذلك تقول مسز ليفرسن:

«لقد جاء في مظهر من الاعتزاز بالنفس والاعتبار كما لو كان ملكاً يعود من المنفى. وقد دخل وهو يتحدث ويضحك ويدخن لفافة، وكان شعره متموجاً بينما ظهرت وردة في عروته».

ويكتب روس:

«في ذلك اليوم، وطوال أيام عديدة أخرى، لم يكن يتحدث إلّا عن سجن ريدنج الذي تصوره من قبل كما لو كان قلعة مسحورة هيمن عليها الماجور نلسن كحورية. وكانت الأبراج التي تطل منها المدافع المخيفة قد تحولت في تصوره إلى مآذن. أما الحراس فقد تحولوا إلى مماليك محسنين، كما تحولنا نحن إلى فرسان وقفوا يرحبون بقلب الأسد حال عودته من الأسر».

وكما ذكر روس أنه مضى عليه خمسة أشهر قبل أن يدرك أن صالون عائلة ليفرسن لم يعد هو، وأن المجتمع لم يغفر ولم ينسَ، ولا يمكن أن يفعل قط. وكرجل مغرور فإن وضعه كان مفزعاً، لا لأنه أصبح مفلساً يعتمد بصورة كلية على إحسان الآخرين فحسب، بل أكثر من ذلك، لأنه لم يكن هناك سوى احتمال قليل في أن يستطيع ثانية أن يكسب عيشه. وحتى لو تابع كتابة كتب وتمثيليات فإن ناشراً أو مخرجاً محترماً لن يغامر بطبع شيء منها أو إخراجه. وحينما أعدّ نفسه لكتابة «قصيدة سجن ريدنج» كان يأمل أن يحصل لقاءها على ثلاث مئة جنيه من بعض الصحف الأمريكية، غير أن أغلى عرض لم يزد على مئة، وإن كان قد تلقى عرضاً بألف لقاء مقابلة صحفية. وكان الناشر الوحيد الذي استطاع أن يجده هو ليونارد سميترز، وكان ذا سمعة سيئة في مجال الحرفة، كناشر لمواد تتصل بالبغاء. وحينما أشرف هذا الناشر على نشر روايته «أهمية أن تكون جادّاً» لم تقم باستعراضها واحدة من الصحف الإنجليزية الكبرى. وظل اسم وايلد «نبأ صحفيّاً»، فحيثما ذهب، وبأيّ شخص التقى، كان يراه كتب أو صنع بواسطة المخبرين، ولكن بطريقة أخرى. وفي ذلك يقول:

«إنني في اعتبار الصحافة العامة أحياناً «المجرم سابقاً»، وهو ما يتجاوز حدّ الوضوح؛ وأحياناً «الشاعر الذي حكم عليه»، وهو ما أرتاح إليه، إذ إنه يضعني في عشرة طيبة؛ وأحياناً «مستر أوسكار وايلد»، وهي جملة أتذكرها؛ وأحياناً «الرجل وايلد»، وهي جملة لا أتذكرها».

ولقد فاته أن يتوقع ما لقيه من تحقير وإذلال من المجتمع. وفي ذلك يقول:

«إن أفراد الطبقة الوسطى من الإنجليز الذين يوجدون في الفندق يعترضون على وجودي. وقد حدث صباح اليوم أن قدمت إليّ قائمة الحساب وطلب إليَّ أن أترك الفندق في الثانية عشرة. فرفضت، وقلت إنني لا أستطيع دفع الحساب اليوم. فسمحوا لي بالبقاء حتى ظهر الغد. وإنما طلبوا إليَّ ألّا أتناول الطعام في الفندق.

«وكنت أمس على البحر، فإذا بجورج ألكسندر يظهر فجأة على دراجته، فينظر إليَّ بابتسامة ملتوية سقيمة ثم يسرع قدماً بلا توقف».

«ولقد قاطعني كل من كوسى (لينوكس) وهاري ملفيل، فشعرت كما لو كنت قوطعت من جانب اثنين من مشهّري بيكاديللي، وإنه لأمر مضحك لأناس كان على المرء فيما مضى أن يشعرهم بجوّه الأخلاقي أو الاجتماعي. الحق أنني أوذيت كثيراً».

إن الرجل الذي يتألم من كارثة غير عادية كهذه يقاسي عادة من محنة أخرى. فبالإضافة إلى موقف أولئك الذين يتجنبونه خشية أن تصيبهم عدوى كارثته، كما يخشى المرء من عدوى الحمى، يواجه نوعاً آخر من الناس هم محترفو الرثاء… أولئك الذين يبحثون عنه قصداً باعتباره من منكودي الحظ. وربما كانت هذه المحنة أشد على نفس الرجل المغرور. وحقّاً إن وايلد لم يذكر ما يفهم منه أنه التقى بأشخاص من هذا النوع، غير أن ملاحظة جاءت في بعض خطابات روس يفهم منها أنه لم يستطع تحاشي مثل ذلك الاهتمام.

ولم يقتصر شعوره بالتحقير على اعتماده أخيراً على إحسان زوجة عاملها بمنتهى السوء، بل إن القيود القانونية التي وضعت لحصوله على المنحة كانت تثير السخط، فقد اشترط التوقف عن الدفع إذا استمر – في تقدير المحامي – على صحبة ذوي السمعة الشائنة. ولما كان أيّ شخص من ذوي السمعة الحسنة لن يتكلم إليه بطبيعة الحال، فإن الإذعان الحرفي لذلك الشرط كان معناه ألّا يتكلم مع أحد قط! ولقد أبدى روس شجاعة حينما اقترح أن يقيم معه، غير أن وايلد بذوقه الفطري رفض أن يسمح له بأن يجازف بسمعته من أجله. وكان يرى أصدقاءه حينما يذهبون إلى باريس، غير أنه لم يكن غالباً يتحدث إليهم.

*****

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: