حكة وفوضى
العدد 244 | 17 حزيران 2019
خالد الشورى


حكة

من يوم ما ولدته أمه وهو يشعر أن جلده ليس له، وإنما جلد شخصٍ آخر.

لم يرتح في جلده يوماً. دائماً كان يشعر وكأنه ينتعلُ حذاءً أضيق من مقاس قدمه، أو يلبس سروالاً داخلياً شديد الضيق لدرجة أنه يحبس الدم في خاصرته، ويحشر خصيتيه بين فخذيه حشراً.. إلا أن الأمر لم يشكل له أي عائق، ولم يشتكي من جلده لأحدٍ أبداً.. ظلّ معتاداً عليه ومضت حياته بشكلٍ طبيعيٍ كما تمضي حياة الناس من حوله، إلى أن جاء ذلك الصباح الذي استيقظ فيه على حكةٍ تعتري كامل بدنه.

طبيعي أن يقوم المرء من نومه ويحك ظهره، أو ذقنه، أو عانته. لكن أن يقوم وهو يحك كل جزء من جسده، شاعراً بأن مئات الدبابيس الدقيقة تنغرز في كل مسماةٍ من مسام جلده، فهو شيء غير طبيعيٍ بالمرة.

ارتدى ملابسه وبدأ يومه دون إفطار.

كان يحك رقبته وذراعه وقدمه وظهره في كل مكان، بدايةً من الباص المتوجه للعمل، وحتى الكافتيريا التي بجانب مكتبه. ولمّا عاد من العمل، لاحظت زوجته لون جلده المتهيج وحكته الهستيرية، فقالت له: لنذهب للطبيب فوراً.

في العيادة أجرى الطبيب فحصه الروتيني، وسأله عما إذا كانت لديه حساسية معينة من أي أطعمة، وإن كانت الحكة قد اعترته من قبل، لكنه كان يجيب كل أسئلته بالنفي وهو مستغرق في الحك.

وصف له بعض الكريمات والبودرة في روشتة، ثم غادر متأففاً برفقة زوجته.

اشترت له زوجته الوصفة من أقرب صيدلية، ودهنت له كامل جسده في البيت، لكن الأمر لم يجدي نفعاً. كان كلما حكّ كلما اهتاج جلده، ورغم ذلك لم يكن بمقدوره أن يتوقف.

لم ينم يومها، ظلّ يحك ويحكُّ طوال الليل، حتى كشط أجزاء متفرقةً من جلده، وسالت دماء حارة من جروحه، وعندما طلع صباح اليوم التالي، استيقظت زوجته وذهبت إلى المطبخ كي تعد فطوراً، فاقشعر بدنها من بشاعة المنظر، وانحبس الهواء في صدرها قبل أن تدفعه بقوةٍ إلى الخارج.

كان بدنه، بدايةً من مفارق شعره وحتى أخمص قدميه، مغطًى بالدماء المتخثرة. في يده استقرت سكين صغيرة قد أتى بها من درج الملاعق، وجلده كله كان مقشراً إلى أجزاء طولية، تشبه جلد الثعابين، وتتناثر هنا وهناك على أرضية المطبخ.

كان يغطُّ في نومٍ عميق، لا يشعر بأي شيء، حتى قام مفزوعاً على صراخ زوجته.

حاول تهدئتها لكن كانت غارقةً بالكامل في نوبة ذعر. وعندما همّ بالقيام والاقتراب منها كي يحضنها، بكت وترجته ألا يقترب. لم يذعن لرجائها فهربت من بين ذراعيه المفتوحتين إلى خارج المطبخ.

أراد اللحاق بها لكنها فرّت هاربةً خارج المنزل، فخرج ورائها دون أن يستر عريه.

كان يركض ورائها وهو يناديها، والجيران والمارة من حوله يشاهدون في حالة من الذهول والخوف والقرف.

يا إلهي…

ما هذا الذي يحدث؟

ابتعد عنها أيها المسخ…

توقف عن ملاحقتها حين جذبه أحد جيرانه من ذراعه وطرحه أرضاً.

التمّ الناس من كل جهة، ولم يتعرف عليه أي أحد.

كان يرى التقزز طافحاً من نظرات الملتفين حوله، والتي بدأت تتحول شيئاً فشيئاً إلى نظرات تتطاير منها الشرر، فعاد للبيت وأغلق الباب عليه قبل أن ينهالوا عليه ضرباً.

اختلس النظر من وراء النافذة، ورأى حشداً صغيراً أمام بيته قد أخذ في الاتساع.

هناك مسخ في بيت جارنا… كان سيؤذي زوجته… نعم إنه في البيت الآن… لا نعرف ولكنه على الأرجح معه في الداخل… أسرعوا قبل أن يلحق به مكروه…

سمع الحوار السابق مستغرباً.

ألقى نظرةً على وجهه في مرآة المدخل فتراجع مرعوباً. منظر عينيه وهي تطلان من وسط الدماء كان كابوسياً.

لم يفكر كثيراً في قراره، لفّ منشفةً خفيفةً حول خاصرته وغادر من الباب الخلفي للمنزل.

وهو يجوب البلدة، كان كلما رآه أحدٌ شهق متقززاً من جسده منزوع الجلد، لذا فقد اختبأ خلف سلة قمامة في زقاق قذر ليداري نفسه عن الأعين.

هبط عليه الليل وهو ما زال مختبئاً. شعر بالجوع فقام يبحث عن شيءٍ يأكله، وعندما يدخل أي مطعم أو دكان، كان العاملون في المكان يطردونه بالسب واللعن والبصق والركل.

لم يكن أمامه خيارٌ آخر غير مغادرة البلدة على قدميه، فحتى سائقي الباصات لم يتوقفوا له.

ظل يمشي ويمشي حتى خرج على الطريق السريعة، وهناك أكمل مشيه وهو لا يعرف إلى أين.

كاد أن يُدهس عدة مرات من عربات طائشة، فالطريق معدة للسفر السريع، ولا أحد معتاد على المارة المتسكعين في الطرق السريعة، خصوصاً والدنيا ليل، لذلك دخل إلى الغابة، وظل يمشي دون جهة محددة، حتى وصل إليهم.

هناك، في عمق الغابة، وجدهم متقرفصين حول شعلة نار، أناس يشبهونه، لا جلود لهم، أو كان لهم جلود ولكنهم نزعوها عنهم، وعلى الأرجح لا تختلف أسبابهم كثيراً عن أسبابه.

جلس بينهم دون كلمة، ولم يصدرهم منهم أي رد فعل، كأن الموقف كان قد تكرر معهم عدة مراتٍ فيما سبق.

ثم مرت الأيام والأسابيع والشعور عليه وهو وسطهم. في أحيانٍ كثيرة كان يحن لحياته القديمة في البلدة، إلا أنه على الناحية الأخرى لم يعد مرغماً على ارتداء جلد لا يناسبه، والعيش به مرغماً كي لا يكون مسخاً منبوذاً، وقد جعله ذلك مرتاحاً في حياته الجديدة بعض الشيء.

 

 فوضى

في الزحام، وسط تلاحم الأجساد المبتلة بالعرق، والهواء المحمل بالأنفاس الكريهة، صاح رجلٌ سمعه كل من في المقطورة قائلاً: كل واحدٍ يرفع يديه الاثنتين في الهواء، لم يعد هناك أمان، نريد أن نعود أدراجنا دون أن يقلب أحدٌ لنا الدنيا على الذي سُرِق منه.

أيامها كانت الثورة في أوجها، وحال البلد مقلوبٌ رأساً على عقب.. فُرِضَ حظرُ تجولٍ يبدأ مع غروب الشمس، وقد كان ذلك القطار آخر قطار يغادر المحطة قبل غروب الشمس.

رُفِعَتْ الأذرع إلى الأعلى، عُلِّقت في الفراغ، وانزعجت الوجوه المنهكة من رائحة اللآباط المتعرقة، التي فاحت في الجو.

المقطورة مزدحمةً على آخرها، مثلها مثل باقي المقطورات. الناس متكدسون جانب بعضهم البعض كيفما اتفق، والبطون ملتصقة بالظهور، فلم أتمكن من وضع يدي في جيوبي للتأكد من وجود المحفظة.

بدأ القطار في الاهتزاز، وتصاعد أزيز حادٌ من عجلاته، معلناً بذلك تأهبه للانطلاق.

لم يكن قد مرّ على رفع أيادينا في الهواء خمس دقائق على بعضها حتى شعرت بيدٍ خفيةٍ تعبث في جيبي الخلفي، وبصعوبةٍ تمكنت من الالتفاف إلى الخلف.

صرخت وأنا أحكم قبضتي على اليد: حراااامي.. حراااامي..

لكنها لم تكن يداً التي قبضت عليها.. بل قدماً!

تلك القدم كانت ممسكةً بمحفظتي بين الاصبع الكبير والاصبع الذي يليه!

ثم دبّ الهرج في المقطورة، والتفت الجميع لبعضهم البعض يسألون: أين؟ أين؟

هناك من استغلّ الموقف، وراح ينتشل بخفةٍ ما في جيوب الناس من حوله.

ثمة رجلٌ انتبه لآخرٍ كان يحاول أن ينتشل ما في جيب قميصه، فأحكم قبضته على رقبة الآخر وراح يخنقه ضاغطاً على أسنانه من الغيظ.

الفوضى انتشرت في المقطورة مثل النار في الهشيم، والقطار كان قد انطلق.

تعثرت على وجهي في محاولةٍ مستميتةٍ لاستعادة المحفظة من القدم الممتدة بين الأجساد، لكنها غابت في الزحام، وغابت معها محفظتي.

أمّا الشجار الذي بدأ من عند الرجل الذي يخنق النشال شبّ في المقطورة كلها.

الجميع يتهم الجميع.

الجميع يصفع الجميع.

الجميع يبصق في وجه الجميع.

وأنا أشاهد من منظور جسدي المسجى على الأرض كل هؤلاء الهمج وهم يتقاتلون، شعرت أن القطار لن يصل المحطة التالية أبداً، وأن الشجار مستمرٌ حتى يقتل الجميع بعضهم البعض، أو ينقلب بنا القطار.

كان المشهد عبثياً للغاية.

*****

خاص بأوكسجين