جمل عجين
العدد 229 | 01 نيسان 2018
هيثم عبد الشافي


مستشفى المنصورة طرد مريضة سكري، ووزارة التربية والتعليم تطبق التجربة اليابانية قريباً، وطوارئ في الداخلية والأوقاف؛ استعداداً للعيد، وحوادث طرق في الأقصر والوادي الجديد، وثالثة من نصيب قطار العياط، لا قطع الله عادته أبداً.

أول اليوم، تأثرت بسبب الغرغرينة التي ضربت ساق مريضة المنصورة، ووقفت قليلاً أمام صورها المرفقة بالخبر، تخيل لا أهل لها ودخلت الاستقبال مع غريب لا تعرفه، وطبيب الطوارئ كان يعرف أن الحالة تحتاج لبتر الساق، لكن رفض استقبالها، وقال وهو يفرك عينيه “مفيش سراير”.

لا تطلب مني أن نسامح أطباء الطوارئ ثانية، قلت لك ألف مرة إن البالطو الأبيض لا يخبئ وجوهاً ضاحكة دائماً، وأن طيبة الدكتور محمد عبدالسلام، نادرة، وطفل أصغر منك أصلاً يسكنه، ومهارة جمال الجارحي لا يصح أن نقارنها بخيبة جراحك البارد في القصر الفرنساوي، حتى طبيب المنصورة دخل غرفته ونام هادئاً بعد أن رأى الفتاة تلف قدمها في ورق جرائد قبل مغادرة المستشفى..!.

لأول مرة أحس أني عامل في مشرحة زينهم، اليوم كله أعد جثث الضحايا هنا وأجمع عدد المصابين هناك، 48 مصابًا و27 قتيلًا في يوم واحد، والجورنال صرف نظر عن حادثي الأقصر والوادي، واخترنا كارثة قطار العياط للمانشيت، حفاظاً على العادة لا أكثر، وانتهى اليوم، لكن يرضيك بعد كل هذا التعب أن يمسح “محمود” حارس العمارة زجاج سيارات السكان بورق جرائد..؟ ليس محمود فقط الحقيقة، جدتك أيضاً تستخدمه في لف البطاطا المشوية، والباعة يحشون الأحذية والحقائب ورق جرائد، والأهالي يسترون بها جثث ضحايا الحوادث على الطريق، والقسم كله يفطر على الأخبار والجمهورية عند عم جمعة كل يوم، حتى صاحب الكشك أمام مستشفى المنصورة لم يفكر إلا في ورق الجرائد.

لم أر أحداً يرفق بهذه البائسة مثل جدتي، كانت تحتفظ بأعداد قديمة من “الأحرار والعربى الناصري”، تلك التى تحمل صورة أشرف عبدالشافي فقط، تطبقها وتلفها جيداً في شال أخضر لا يخرج من صندوقها الخشب إلا في حالتين، إما أن تضع عددًا جديدًا أو تذهب لصورة عمي وتقربها لوجهها كأنها تقصد أن تنظر في عينيه، وبعدها تقبل الورق والصورة والعناوين دون أن تنطق حرفاً واحداً.

كانت تجلس معه ساعات طويلة أمام الصندوق، مرة سمعتها وهي تخبره أن ترزيا جديداً غرب البلد أنهى جلبابه الجديد، وأنها تعد الأيام في انتظار الإجازة المقبلة، ومرة سألته عن صحته وكم علبة سجائر يدخنها في اليوم، ومرات كثيرة غضبت وذكرته أن الصورة واحدة في الأعداد كلها.

أسنانها كانت بيضاء وكاملة، انظر.. أقسم لك كانت قوية جداً وتكسر العسلية، لكن الملبن الأبيض كان بديلاً رائعاً في آخر 10 سنوات، والشاي كانت تشربه بكثرة، في كل مرة كوبين، أول دور، ثقيل “كوبيا” يضبط المزاج ويسند رأسها، وشاي خفيف بالنعناع، وثاني دور، حتى النسكافيه جربته فترة وملت، وعرفتها على صوت ذكرى وجورج، وعشقت أغانيه أكثر بصراحة، وحفظت “كلام الناس” وغنتها.

تعرف الآن روحها تلبس أبي ساعات، ويغيب نصف يوم في بيوت غريبة ويشرب حكايات أهلها مع الشاي الثقيل، هو لا يحبه ثقيلاً أصلاً، لكن يشربه ويرسم بالتفل نهراً وخريطة على الزجاج مثلهم تماماً، وآخر الليل يلم ذكرياتهم وقصص أمه ويعود يحكيها لنفسه في الطريق.. غداً تكبر وستراه بعينيك يلف نفسه في شالها الأخضر القديم وينام في الصالة مثلها، وسيحكي لك عن فلانة ومواويلها، وكيف باعت بقرتها لتعالج زوجها، وفلان الذي كسره موت ابنه، وآخر فتاة خطفها البحر اليوسفي صيف 96، وسيقول لك إن كل شوارع البلد كانت تعرفها، وأنها تركت جمل عجين وعروسة في كل بيت، وقل له إلا بيتنا.

*****

خاص بأوكسجين


قاص وصحافي من مصر.