تصلح لجميع الأغراض
العدد 173 | 17 أيار 2015
محمد الخولي


وقفتُ أتابع خطواته وهو يبتعد، لأول مرة ألاحظ أن الشيب سيطر على مؤخرة رأسه، لم أناده ولم أطلب منه الانتظار، كنت أعرف أنه لن يسمعني.

قبل هذا الموقف بسبع سنوات تعرفت عليه، كنت له ما يريد، الرفيقة في المظاهرات، والزميلة في العمل، والحبيبة على الكورنيش، والزوجة على السرير، إن أراد، لم أطلب منه الزواج ولم يعرضه علي يوما، لم أفكر في الأمر من أساسه، (هل أكذب على نفسي؟ كنت أحلم باليوم الذي يرتدي فيه بدلة أنيقة ويخبئ خلف ظهره زهرة، وينحني قليلا أمام مكتبي في العمل، ويطلب الزواج مني، كنت أحلم كل مرة برد فعلي وقتها وكل مرة يكون مختلفًا)، لم يبد لي يومها أنه بكل هذه القسوة، التي اكتشفتها اليوم.

كنت أضع سماعة الهاتف في أذني، أجلس بجوار شباك المترو، أسافر مع فيروز للقمر، وأرقص معها عند الطاحونة، عندما اقتحم عالمي. أغلقت هاتفي وفتحت صفحة جديدة في حياتي. (هو من فتح الصحفة في الحقيقة.) 

رجل أربعيني، يتحدث بلغة واثقة عن نفسه، وإنجازاته، كل سؤال يمتلك إجابته، يعرف جيدا قراءة العيون والأفكار، مستشكف رائع، اكتشفني من النظرة الأولى، سألني عن الحب.. وحدثني عن الرومانسية وحكى لي نوادر الأفلام القديمة.

وجدتني فجأة أجلس معه على مقهى في وسط البلد، كانت أول مرة أجلس على “قهوة”، أصابتني نفس حالة الانبهار التي سيطرت علي عندما شاركت في مظاهرة ضد حسني مبارك، أتذكر هذا اليوم جيداً، أهداني كتاب “مبادئ الشيوعية” أقنعني أن الثورة آتية يوما ما، تركت أحلامي مع فيروز، وحلمت بالثورة، والخلاص، وتكوين الحزب العمالي، والسيطرة على الحكم، خلقت عالمي، (أكذب على نفسي مرة أخرى هو من خلق كل شئ حتى أنا أعاد خلقي من جديد)، أعاد ترتيبي، عدل من طريقة ملابسي، وتعاملاتي مع الزملاء والأصدقاء والأهل، خلقني من جديد، مزق أفكاري القديمة، وبدأت أنظر إلى كل شيء بنظرة مختلفة، رتب أولوياتي، ووهبني حياة جديدة، أقنعني أن بها الخلود، كان إلهي، ورسولي وكتابي، صعد بي إلى السماء، وأنزلني قاع المحيط، شكلني على طريقته، واقتلعني من عالمي.

تعجبت يوم أهداني وردة، وهنأني بعيد ميلادي الثلاثين، عزمني على بيرة، وتطورت إلى مشروبات أخرى لم أعرف أسماءها قبل هذا اليوم، وجدتني عارية على سريري، أشتهيه، أقلب في صوري معه، أتخيله عارياً إلى جواري، أغلقت عيني وبللت شفتي بلساني، وتحسست نهدي، وضغطت على بطني، ولففت ساقي على بعضهما وأنا أتأوه، تقلبت على السرير يميناً ويساراً، فوجدته جالساً على مقعده يتابعني، ولا يتحدث، اكتشفت جسدي يومها، (لقد اعتدت الكذب، إنه من اكتشفني، أخبرني عن معالم لم أكن أعرفها قبل اليوم، اقتلعت شعيرات من رأسه، وأنا أشده إلى صدري، مر بيده في طرقي المهجورة، وفتح كل أبوابي المغلقة، ولم يترك شيء إلا وقبله غرست أظافري في ظهره وسمعته يتأوه ولم أعرف السبب). اعتدنا اللقاء، وجمعتنا كل شقق الأصدقاء، أصبحت مريضة به، بهرني كما يبهر المنشد دراويشه بآهة طويلة.

طفت معه المكتبات، وحضرت معه حفلات توقيع الكتب، وتابعت معه معارك الأدباء، واكتشفت معه كتاب لم أكن أعرف عنهم شيئاً، أدخلني حارات نجيب محفوظ، وعرفني على شخصيات يوسف إدريس، قرأت لمركيز، وباولو كويلهو، علمني الاستمتاع بالشعر، وأرشدني إلى مفاتن الفن التشكيلي، واستمعت معه إلى الموسيقى.

بهرني يوم أن اعترفت له بحبي، وأملي في أن أكون أسيرته في بيت صغير يختاره هو في أي مكان، حدثته عن أسرة صغيرة، وحددت جنس أطفالي منه، واخترت أسماءهم، والمدارس التي سيتخرجون منها، والكليات التي سيتفوقون فيها، كنت مع نهاية كل أمنية كنت أوكد عليه، بأنه في النهاية صاحب القرار، في الأسماء والمدارس والجامعات، ووظائف الأبناء، لكنه كان صامتاً، ولم يقل ما يقال في تلك المواقف. طالبني أن أجرب غيره لأختبر نفسي، وحدثني عن أن التجربة هي ما تجعلنا قادرين على الاختيار، ووعدني بأن يبقى صديقاً ينصحني إذا ما طلبت..

________________________________________

كاتب من مصر

الصورة للفوتوغرافية التركية ايبرو جيلان Ebru Ceylan

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وصحافي من مصر.

مساهمات أخرى للكاتب/ة: