تاريخ موجز لسبعة اغتيالات
العدد 181 | 24 تشرين الأول 2015
مارلون جيمس | ترجمة: زياد عبدالله


     حاولت قدر المستطاع في هذا المقطع المأخوذ عن رواية مارلون جيمس “تاريخ موجز لسبعة اغتيالات” (الفائزة بجائزة بوكر العالمية لعام 2015) مقاربة اللغة المكتوب بها والحفاظ عليها بمعادل عربي، وهي انكليزية جامايكية تضرب عرض الحائط بقواعد اللغة، وهي آتية من عالم سفلي تسوده الجريمة على أطراف كينغستون..فوجب التنبيه.

أعرف أني كنت في الرابعة عشرة من عمري. أعرف أنني أنا. أعرف أيضاً أن أناسا كثر يثرثرون كثيراً، خاصة الأميركي، الذي لا يخرس أبداً، ينتقل فقط إلى الضحك في كل مرة يتحدث فيها عنك، ويبدو غريباً  كيف يضع اسمك إلى جانب أسماء لم نسمع بها قط، أليندي لومومبا1، اسم يبدو مثل البلد الذي جاء منه “كونتا كونتي”. غالباً ما يخفي الأميركي عينيه بنظارة شمسية كما لو أنه مبشر جاء من أميركا ليتحدث إلى السود. هو والكوبي يأتيان معاً، أحياناً كلّ لوحده، وحين يتكلم واحد منهما يكون الآخر صامتاً. الكوبي لا يتمنيك مع البنادق لأن البنادق تتطلب أن تكون مطلوبة، قال هو.

وأعرف أنني اعتدت النوم على سرير عسكري وأعرف أن أمي كانت عاهرة وأبي كان آخر رجل طيب في “الغيتو”. وأعرف أيضاً أننا راقبنا لأيام بيتك الكبير في “هوب رود”، وحينها جئت وكلمتنا كما لو أنك يسوع ونحن كنا الاسخريوطي وأومأت كما لتقول هيا أنجزوا عملكم وقوموا بما عليكم القيام به. لكنني لا أتذكر ما إذا كنت أنا من رآك أم أن أحدهم أخبرني أنه رآك وحسبت أنني أنا من رآك، تخرج إلى الشرفة الخلفية، تأكل شريحة من ثمرة “خبز الفاكهة”، خرجت من حيث لا تدري كم لو أن لديها شيئاً عليها انجازه في هذا الوقت من الليل وصُدِمت، صُدِمت بقوة حين رأت أن ما من قطعة ثياب عليك، ثم أخذت الثمرة لأنها كانت تريد أكلها رغم أن “الرستا”2 لا يعجبه تراخي المرأة وأنتما مضيتما نحو منتصف الليل تهذيان، وأنا سحبت نفسي ورحت أهذي أيضاً من كوني رأيت ذلك أم سمعت عنه، وبعد ذلك كتبت أغنية عن ذلك. الفتى من “الغابة الاسمنتية”3 يأتي لأربعة أيام في التاسعة صباحاً والرابعة عصراً على الدراجة الصغيرة الخضراء الأنثوية لأجل مغلف بني إلى أن صار فصيل الحرس الجديد يمنعه. عرفنا عن ذلك أيضاً.

كل ما تسطيع القيام به في “ايت لينس” في “كوبنهاغن سيتي” 4 هو المراقبة. صوت حلو على الراديو يقول إن الجريمة والعنف يجتاحان البلاد وإن كان التغيير قادماً فإن علينا أن ننتظر ونرى، لكن في “ايت لينس” نرى وننتظر هذا كل ما نقوم به. وأرى مياه المجارير تتدفق بحرية في الشارع وأنتظر. وأرى أمي تأخذ رجلين مقابل عشرين دولاراً للواحد، وواحد آخر مقابل خمسة وعشرين دولاراً ليبقى ولا يذهب في الحال وأنا أنتظر. وأراقب أبي وقد نال منه المرض وتعب منها وهو يضربها ككلب. وأرى الصدأ على سقف الزنك وقد استحال بنياً، ومن ثم حفر المطر فيه ثقباً كما الجبنة الأجنبية، وأرى سبعة أشخاص في غرفة واحدة وبينهم امرأة حامل والبشر ينيكون في كل الأحوال لأن البشر فقراء جداً وليس بمقدورهم حتى الشعور بالخجل وأنتظر.

والغرفة الصغيرة أصبحت أصغر فأصغر ومزيد من أخٍ أختٍ ابن عم قدموا من الريف، المدينة أصبحت أكبر فأكبر ولم يعد من مكان لـ “راب ايه داب”5 rub a dub أو لا تصخب وتضج يا خرا أو كاري على الدجاج أو ما إذا كان متوفراً فإنه يكلّف الكثير من المال وتلك الفتاة التي طُعِنت لأنها تحصل على ثمن غداء ٍكل ثلاثاء والفتية مثلي يكبرون وهم منقطعون عن المدرسة أغلب الوقت ولا يمكنهم قراءة ديك ولا جين لكنهم يعرفون الكوكا كولا، ويرغبون بالذهاب إلى استديو خارج “الغيتو” لتقطيع نغمة وغناء أغان تسجل على إيقاع الريغي لكن “غوبنهاغن سيتي” و”ايت لينس” كبيران جداً وفي كل يوم تصل الحدود، تمتد الحدود أكثر كما الظل إلى أن يكون العالم بأسره “غيتو”، وتنتظر.

رأيتك جائعاً وانتظرت وعرفت أنه الحظ فقط، تتسكع قريباً من الاستديو وديسمودند دكر6 يطلب من الرجل أن يمنحك فرصة، وأعطاك فرصةً لأنه سمع الجوع في صوتك قبل أن يسمعك تغني. قطّعت النغمة، ولم تكن أغنية صالحة للتسجيل، وإن كانت أجمل من أن تكون قادمة من “الغيتو”، لأننا اجتزنا الوقت الذي يتمكن فيه الجميل جعل حياة أحدهم سهلة. رأيناك مستعجلاً تحاول أن تتكلم على طريقتك أطول باثني عشر انشاً وأردنا لك أن تفشل. ولم نعرف أحداً أراد لك أن تكون من الصبية الأجلاف لأنك بدوت مدبراً.

وعندما اختفيت مع ذهابك إلى ديلاوير وعدت، سعيت لغناء الـ “سكا”7، إلى أن موسيقى السكا كانت قد فارقت “الغيتو” للتو واستوطنت وسط المدينة. أخذت السكا الطائرة إلى الأجنبي لتُعرض على البيض على أنها مثل “التويست”. ربما هذا ما جعل السوريين واللبنانيين فخورين، لكننا حين كنا نرى صورهم في الصحف مع مضيفات الطيران لم نكن فخورين، إنما دُهشنا كالمساطيل. صنعت أغنية أخرى، وهذه المرة جرى تسجيلها، لكن أغنية واحدة مسجلة لا تخرجك من “الغيتو” عندما تسجل الأغنية لمصاصي دماء “فامبير”. أغنية واحدة لا تجعلك سكيتر دايفز8 أو الرجل الذي غنى لهم “أغاني المقاتلين”9.

في الأثناء التي انسل فيها صبي مثلي من أمي، استسلمت لليأس. قال مبشر إن هناك إله مجسد للخواء في حياة كل واحد، لكن شيئاً واحداً بإمكان سكان “الغيتو” أن يملؤا به الخواء ألا وهو الخواء. ألف وتسعمائة واثنان وسبعون لا شيء مقارنة بـ 1962 الأمر الذي مازال الناس يتهامسون به لأنهم لا يستطيعون الصراخ بأن آرتي جيننغس وبمجرد موته أخذ الحلم معه. الحلم بماذا لا أعرف. الناس أغبياء. الحلم لا يغادر. الناس لا يعرفون الكابوس حين يكونون في خضم كابوس. مزيد من الناس انتقلوا إلى “الغيتو” لأن ديلروي ويلسون غنّى “على الأفضل أن يأتي” والرجل الذي سيصبح رئيس وزراء غنّى أيضاً. “على الأفضل أن يأتي”. رجل يبدو كرجل أبيض إلا أنه يثرثر بهذر مثل زنجي، يغني “على الأفضل أن يأتي”. المرأة التي تلبس كملكة، ولم تهتهم لشأن “الغيتو” قبل أن تنتفخ وتنفجر في كينغستون غنت “على الأفضل أن يأتي”.

لكن الأسوأ جاء أولاً.

نرى وننتظر. أحضر رجل بنادق إلى “الغيتو”. علمني أحدهم كيفية استعمالها. لكن سكان “الغيتو” اعتادوا على قتل بعضهم البعض قبل ذلك بكثير. بأي شيء تطاله اليد: عصا، ساطور، سكين، ملقط الثلج، قناني الكولا. قتل لأجل الطعام. قتل لأجل المال. أحياناً يُقتل رجل لأنه نظر إلى رجل آخر نظرة لم تعجب هذا الأخير. لا حاجة للقتل من أسباب. إنه “الغيتو”. الأسباب للأغنياء. نحن لدينا الجنون.

يمشي الجنون في الشوارع الأنيقة في قلب المدينة ويرى امرأة ترتدي ثياباً على أحدث طرز ويريد أن يمشي مباشرة إليها ويسحب حقيبتها، عارفاً أنها ليست الحقيبة وليس المال ما نريده تماماً، بل الصرخة، حين تراك تقفز فجأة أمام وجهها الجميل وأن باستطاعتك صفع السعادة مباشرة من على فمها ولكم الفرح مباشرة في عينيها وأن تقتلها هناك وتغتصبها قبل أو بعد قتلها لأن ذلك ما يقوم به فتية أجلاف مثلنا مع امرأة محترمة مثلها.

______________________________________

1اسم تركيبي يجمع بين زعيم الاستقلاك في الكونغو باتريس لومومبا ورئيس تشيلي سلفادور إليندي وكلاهما اغتيلا – المترجم 

2من الرستافارية وهي طائفة نشأت في جامايكا في ثلاثينيات القرن الماضي بعد إعلان هايله سيلاسي نفسه امبراطوراً في أثيوبيا ويعتقدون أنه إله لم يمت وقد صعد جسده إلى السماء. المترجم

3أغنية لبوب مارلي. المترجم

4تسمية خاصة للأحياء الفقيرة والعشوائية في أطراف العاصمة الجامايكية . المترجم

5نمط من أنماط موسيقا الريغي. المترجم 

6مغني جامايكي (1941 – 2006). المترجم

7نمط موسيقي جامايكي انتشر في خمسينيات القرن الماضي ومهد لظهور الريغي. المترجم

8مغنية كونتري أميركية (1931 – 2004). المترجم

9ألبوم أغاني شهير  لمارتي روبنز صدر عام 1959 . المترجم

*****

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: