بطريركية البيض نصف المسلوق
العدد 263 | 15 شباط 2021
مالك م. رابح


منذ ست سنوات قرأت ياسمين أن الموت هو فقدان للّحظة الحاضرة فقط وفي جوف ليلة هاتفتني تخبرني ما توصلت إليه بناءً على ذلك. دائماً، ودائماً في الليل، كانت تكلمني عن اكتشافات بنتها لأشياء بسيطة وجدتها في طريقها: سطر في كتاب أو أغنية، لوحة رأتها في معرض أو طريقة نطق صديق لفعل أو كلمة ما. كنتُ معتاداً على ذلك كما اعتادت هي أن أتصلُ بها في أوقات موغلة أعمق في الليل، شبه غائب عن الوعي وغير متزن، أحكي لها عن اكتشافات سخيفة بالمقارنة.

مثلاً قبل أسبوع من ليلة ما أعلنت لي أننا، أنا وهي، ميتان. حكيتُ عن شيء حدث لي مع أبي، كنتُ في المطبخ أقرأ شيئاً ليوسف إدريس، لا أتذكر إن كان العيب أم الحرام، في نهايته تقريباً، والبيض على النار. أبي، الذي كان ظهوره في المطبخ أشبه بهبوط حمامة، قال لي كِده تمام البيض استوى. قلت له لا، لسه ماستواش. الماء غلي لكن البيض لم يستو بعد. رنّت ضحكتها في أذني قبل أن تقول: وسمعت كلامه يا فالح؟ ضحكتُ أنا أيضاً. لأبي تاريخٌ حافل مع البيض المسلوق نصف المستوي ومع هذا سمعتُ كلامه. وطبعاً طبعاً كان البيض نص مستوي؟ في تلك الفترة كانت تُكملُ كلامي في الوقت الذي كنت أتفاجأ فيه من النصف الثاني لغالبية جُملها لكن بما أن كلامي كان مقسوماً بيننا بالنصف فساعات كُنت أختارُ المفاجأة وفي الآن نفسه القبول لكلام ربما لم أكن أنوي إنهاء جملتي به. أُتساءل الآن هل البيض انتهى أن يكون نصف مستوي فعلاً لأنها فقط اختارت أن تقول ذلك؟

الكتاب الذي قابلت فيه ياسمين الموت على صورة فقدان للحظة الحاضرة هو التأملات لماركوس أوريليوس. لا أتذكر إن كانت نصحتني بقراءته أم لا. كنّا نقرأ أشياء مختلفة، حتى الآن أعتقد. إحداثيات أجسادنا والمناخ والناس ونشأتنا. لم نستطع التخلص من بصماتها في الكتب والموسيقى والأفلام: تلك الأشباح التي كنّا نهرب منها كنّا نجدها مقنعة في الأشياء التي كنّا نهرب فيها. أخبرتني أنها اكتفت من “قراءات البوب التافهة” وأنها تقرأ كتباً مهمة وكي “تنضج كمثقفة” اختارت أن تقطع بسكين كل الخيوط التي ربطتها بالقارئة المبتدئة التي كانتها. صارت الفلسفة والأدب والسينما والموسيقى أداة من نوع ما، سلاحاً لحاجة ما. قرار على هذا القدر من الشجاعة قادر بسهولة على إبهاري وإثارة غبطتي. آه كم سيكون جميلاً أن أسن السكين على حبال الماضي التي تلطّخت بالأكاذيب، كم سيكون رائعاً أن أقف وأشد خيط ستائر النسيان على جمل مبتذلة ووعود مكّارة صدقتها، لكن كيف؟ كيف ستغني أم كلثوم ستاير النسيان نزلت بقى لها وهذا الزمان لم تكد تمر عليه خمس دقائق؟ ربما كان سهلاً على ياسمين لأن بينها وبين القارئة المبتدئة التي كانتها زمان فعلاً لكن في حالتي، من بدأ القراءة متأخراً، قارئي المبتدئ ولد في السادسة عشرة، سيكون ذلك مثل انتحار، هل كنت قادراً على فعل ذلك؟ أكيد لا.

علشان ممتثل (كلمة كانت تستخدمها كثيراً). حاولتُ أن أوضح لها أن كوني وافقتُ على أن أطفئ النار على البيض ليس معناه أني كونفورميستا أو شيء آخر. أخبرتها أن ما حدث بالأساس سخرية عملية، سخرية من رأي أبي في البيض نصف المستوي الذي كسرتُه أمامه في طبق ولم أقربه بعدها. سألتني كل البيض كسرته؟ قلت لها آه كان لازم. سكتت.

كان عِندها عشرين سنة ياسمين عندما قرأت التأملات وأعلنت موتنا. من النافذة أمامي ينزل الندى بطريقة لو رفعت رأسي بسرعة ناحيته أرى العالم في الخارج عبر صفحة من الماء. الكتاب مفتوح على طرف المكتب وأنا عِندي خمس وعشرون سنة. لم أصل لنهايته، لكنّي، القارئ المبتدئ لا زلت، قابلت قبل قليل الجملة نفسها وخلصتُ إلى الشيء نفسه. من ست سنوات مُت ولم أكن أعرف والآن مُت مرة أخرى لكنني أعرف.

بحسب المجازات ما تذهب وتجيء لا يوجد مجاز هنا. حكيت ما حدث بالضبط. حينما قلت لياسمين آه كان لازم. سكتتْ ولم تقل أن الشيء نفسه يحدث مع شبابي وأني، لاموأخذة، كسرته كله في طبق كي أثبت وجه نظر أمام الأب. منذ سنة تقريباً (مكتوب على أول الصفحات 5.2.2020 روكسي، ظهر بارد) قرأت في رسالة لعبد الحكيم قاسم كتبها لمحمد روميش: بل أدركتُ (من رسالتك الأخيرة) أن الوعي بقضية الأب هو قضية عقلية ألى من أي قضية أخرى (ضروري ستختلفين معه يا ياسمين) في ظروفنا الحالية. لكن هذا الوعي حصري الحدوث في أجساد الأبناء، بطريركية البيض نصف المسلوق هذه تلزمنا نحن فقط. إثبات وجهة النظر لا توجد له أي أهمية طالما لا يوجد من الطرف الآخر أي إحساس بالذنب أو قابلية للمراجعة، إنها سخرية عملية لن يضحك عليها أحد غيري.

سكتت ياسمين لا أعرف لماذا وبعد حوالي اسبوع قالت لي إننا إحنا الإتنين ميتين، كل واحد في اختياراته، كل واحد في قضاياه. الجملة التي بَنت عليها اكتشافها كانت هامش من هوامش المترجم (بطريرك آخر) وليست بالنص أصلاً؛ الفقدان إنما هو فقدان لحظة لا أكثر، هذا ما كتبه ماركوس. إلى نفسه. هل فهمت ياسمين مباشرة أن الموت هو فقدان للحظة الحاضرة أم حدث معها مثلما حدث معي: ماتت حينما قرأت أن الفقدان إنما هو فقدان لحظة ولم تكن تعرف ثم ماتت حينما قرأت في هامش المترجم أن الموت هو فقدان للحظة الحاضرة وكانت تعرف.

أضحك وأتذكر أني ضحكتُ. شوفي في كتير من الناس ميتين ومكتوب هنا في هامش المترجم إن أوريليوس سيكرر حديثه عن فقدان اللحظة الحاضرة، على الأقل، مرتين. الرحمة يا ربي.

*****

خاص بأوكسجين