الناجي الوحيد
العدد 240 | 11 كانون الثاني 2019
زياد حسون


-“ما هي أكبر مخاوفك؟.” قال آدم لرفيقه، بينما جلسا يراقبان عبر شبّاك المقهى تربّصَ قطٍّ لفأرٍ في الحديقة أمامهما.

-“أخشى أن أكون دجاجةً محشورة في قفص مليءٍ بالدجاج المعدّ للذبح. هل رأيتَ يوماً نظرتها و هي تترقّبُ إن كانت اليد الممدودة لتنتشل إحداها من القفص ستلتقطها؟ كلّ القلق والرعب في هذا العالم يتكثّف في تلك النظرة.. آلاف السنين من القلق والتوتّر مضغوطةٌ في رأسها الصغير، كلّ ذلك أصبح في حمضها النووي يا رجل. لا أريدُ أن أكون دجاجة أبداً.”

-“ذلك مخيفٌ فعلاً.” قال آدم، و هو يشاهد كيف تمكّن الفأر المذعور من الهرب والاحتماء في أحد الجحور.

-“ماذا عنك؟ ما هي أكبر مخاوفك؟.” سأل عماد.

-“لا أعرف تماماً، لكنّي أخافُ من كلّ شيءٍ تقريباً. المرتفعات و الأماكن المغلقة، المشي على الحبل والتزلج على الجليد، الخطوط المتوازية والمربعات (المربّع الأوّل اللعين على وجه الخصوص)، الحيوانات الأليفة والحيوانات المنقرضة، الاحتباس الحراري ونزول بابا نويل عبر المدخنة، الليدي غاغا والمخلوقات الفضائية، رنين الهاتف وقرع الباب. أخاف الوقوع في الحبّ والانتظار والتوق والخيبة والفقد.”

-“اللعنة؟! متى أصبحتَ جباناً هكذا؟ لطالما ظننّاك شجاعاً جدّاً، لكنّك تتحدّث الآن مثل أرنب مذعور.”

-“أنا شجاع جدّاً بالفعل. الشجاعة في النهاية خوف عظيم، لكنّه مخفيٌ جيّداً”. ردّ آدم.

قاطع رنين هاتف آدم حديثهما، كان مضطراً أن يأخذ هذا الاتّصال فقد كانت أمّه هي المتّصلة. أرادت تذكيره بنبرةٍ حاسمة غير قابلة للجدل بموعد مراجعة الطبيب الذي زاره قبل ثلاثة أشهر. لا يمكن العبث مع هذه المرأة حين تتكلّم بهذه الطريقة. وعدها أنه سيذهب، وهدّدتُه أنّها ستأتي لتصطحبه بنفسها إن لم يفعل. وهكذا لم يبقَ لديه خيار سوى انتزاع نفسه عنوةً من كرسي المقهى والذهاب إلى عيادة الطبيب الشهير. حين وصل لم يجد كرسيّاً فارغاً في قاعة الانتظار، تماماً كما حدث في زيارته السابقة. المنتظرون وقوفاً أكثر من الجالسين.

أدرك سريعاً أنّ عليه الانتظار قرابة ثلاث ساعات في هذا المكان الكئيب، ضعيف الاضاءة سيء التهوية، مجبراً على الاستماع لأحاديث المرضى الذين يحاولون قتل الانتظار الألم بالتعرّف إلى بعضهم البعض.

-“كان يجدر بي أن أضيف عيادات الأطبّاء إلى لائحة مخاوفي الطويلة. لا شيء في هذه الحياة يستحقُّ أن أعرّض نفسي لعقوبةٍ كهذه.” فكّر مغموماً، مقاوماً رغبته الجارفة في الهروب من هذا المكان، لكنّ خوفه من إلحاح أمّه كان رادعاً كافياً. لا مفرّ إذاً من الانتظار الذي كان قاتلاً ومريراً بشكلٍ لا يوصف. وقف يراقب المرضى يدخلون إلى غرفة المعاينة و يخرجون بعد بضع دقائق، ليدخل آخرون مع استمرار الوافدين الجدد بالتدفق و الانتظار.. لا شيء سوى كتل من اللحم الميّت محدّقة في الفراغ متجهة نحوه.

 بعد حوالي الساعة دخلت سيدة مع زوجها، كانت بجسم ديناصور ورأس نعامة، أمّا الرجل فكان أشبه بحيوان الكسلان بابتسامته المميزة، و يؤدي بجدارة دور الكومبارس في هذا الزواج وفي المسرحية التي بدأت المرأة بتأديتها لحظة دخولها للعيادة، حيث أخذتْ دور المريضة الموشكة على الموت في محاولة لاستجداء دخول سريع إلى غرفة المعاينة و تجنب الانتظار لساعات.. كان أداؤها فاشلاً لدرجة أنّها لم تستطع إقناع أحدٍ بإعطائها أفضلية الدخول المبكّر.. لكنّها كانت عنيدةً بشكل لا يصدّق، و لم تيأس أو تتوقّف لحظة عن الأنين والتأوّه المبتذل حتى انهار أخيراً أحد ضعاف القلوب وسمح لها بأخذ دوره. حيث لن يتعيّن عليها الانتظار لأكثر من عشر دقائق. عندها فقط هدأتْ نفسها واختفى ألمها الذي كان على ما يبدو بسبب رهاب الانتظار ليس إلّا، وانتهت المسرحية بأن شكرته وسلخته دعاءً كاذباً قد يذهب به إلى جهنّم مباشرة.

عمّ بعدها صمتٌ ثقيل بدا أنّه لن ينتهي، لكنّ الحياة عادتْ إلى حفرة الموت هذه حين دخلتْ صبيّةٌ رائعة الجمال.. سمراء بلون البرونز، عيونٌ واسعة زيتونية، شفاه ممتلئة طبيعيّاً، شعر طويل مجعّد، صدرٌ عارم مشدود، طولٌ فارع زادته عمداً بكعبٍ عال لإبراز جمال مؤخرّتها.. بدا أن نسبة الأوكسجين ارتفعت لشدّة ما حبس الرجال أنفاسهم لدى دخولها، أمّا النساء فقد نَسِينَ التنفس أساساً لانشغالهنّ بعمليّة شديدة التعقيد من التفحّص والتمحيص المحمّل بأطنان من الغيظ والحسرة والحقد.. حتى أنّ المرأة الديناصور عادت للأنين مجدّداً بصورة أكثر إزعاجاً من السابق، لكنّ أحداً لم يُلقِ لها بالاً. بالعموم فقد اشتدّ على النساء المرض، والرجال عادوا أصحّاء أشدّاء، وكلٌّ منهم على وشك أن يسأل نفسه: ما الذي أفعله هنا بحق الجحيم؟ حتّى أنّ أحدهم وقد كان قبل لحظات مجرّد مومياء على كرسيّ قفز بخفّة وعرض عليها الجلوس مكانه. قبلتْ العرض من دون تردد و جلست قائلة: “شكراً عمّو”.

حسناً.. لأسباب لا تعرفها إلا الشياطين فقد أعجبت الجميلة بآدم. كان واضحاً أنّها من النوع الذي يعرف ما يريد ويحصل عليه. الاشارات كانت جليّة أكثر من أن يمكن تجاهلها.. ابتسامات ماكرة ونظرات تقول له: ” هيّا.. قمْ بخطوتك”. بدأ يفكّر في الخطوة المناسبة ويدرس الاحتمالات التي قد تفضي بهما إلى السرير سريعاً.

-“الشجاعة خوفٌ محكمُ الإخفاء.”حاول شدّ عزيمته بهذا التذكير، باحثاً في أعماقه عن بقايا جرأة تساعده على الفوز بالحسناء، إلّا أنّه استسلم سريعاً لمخاوفه، وركنَ لفكرةٍ أقنع نفسه بها منذ سنوات طويلة.. ” لا تلهثْ وراء الأشياء إن أردت أن تلهثَ الأشياء إليك”. و على أمل أن تجدي هذه القناعة نفعاً خرج ليدخّن سيجارة، وحين عاد كانت الجميلة قد فقدتْ اهتمامها به طبعاً، فالجائزة الكبرى لا تنتظر أحداً.

 في النهاية جاء دوره لمقابلة الطبيب بعد 3 ساعات و 12 سيجارة وخسارة واحدة..

رحّب به بابتسامة لا تعني شيئاً بينما كان يطفئ سيجارته، ويقرأ بسرعة من ملف أمامه معلومات تخصّ الزيارة السابقة.

-“إذاً .. كيف تشعرُ الآن؟” قال الطبيب.

-“لستُ على ما يرام”.

-“هل يمكنك أن تكونَ أكثر تحديداً؟”.

-“كلّا”.

-“حسناً.. ماذا عن الدواء؟ هل تأخذه بانتظام؟”.

-“أغلب الوقت”.

-“أتعلم !؟ ربّما يجدر بك التوقّف عن تناوله، أعراضك غير وصفيّة بالمرّة”. قالَ بينما عاود القراءة في الملف.

-“هل كانت الأعراض وصفية حين جئتُ إلى هنا أول مرّة”.

-“كلّا لم تكن ذلك”.

-“إذاً؟؟”.

-“أخبرتكَ أنّه ربّما يجدر بك التوقف عن تناول الدواء”.

-“ربّما؟؟”.

-“حسناً.. إن كان هذا ما تريده”.

-“هذا ما أريده”.

-“توقّف إذاً”.

-“سأفعل.. هل يتوجّب عليّ القدوم إلى هنا مجدداً؟”.

-“فقط إن كنتَ تشعرُ بشيءٍ يمكنك إخباري به فعلاً”.

صافح آدم الطبيب معجباً ببراعته مدركاً أن شهرته الواسعة لم تأتِ من فراغ.

… غادر مهرولاً كأنّه ناجٍ وحيد من محرقة رهيبة.

*****

خاص بأوكسجين

 

 

 


كاتب من سورية.