المهرج شاليمار
العدد 178 | 14 أيلول 2015
سلمان رشدي/ ترجمة: عزة حسون


كان رئيسهم المُكلف هو المُلّا الحديدي مولانا بلبل فاخ. وكانت أنفاسه كما أنفاس التنين لا تزال عابقة بالكبريت وقد أكسبته اسم النتن “فاخ”. لا يزال المُلّا يتكلم بطريقته القديمة الفجّة وكأنّ الحديث البشري يؤلمه ولكنه الآن يبدو أطول مما يتذكر المهرج شاليمار. كان عملاقًا بطول ست أقدام وقد أصبح أكثر علماً وجمالًا مما كان عليه منذ أيام شيرمال. هل من الممكن أنّه كبر وأصبح أكثر جاذبية مع مرور الأيام؟ أمّا بالنسبة لفكرة أنّه مصنوع من الحديد فلم يعد هناك شك في هذا الأمر. فالحياة قد أنهكته كما كان ظاهرًا على مناطق في ربلة ساقه وأكتافه حيث تسلخ الجلد وظهرت قطع المعدن الباهتة المتصلبة والعصيّة. وضمنت هذه الطبيعة العجائبية لبلبل فاخ سلطة كبيرة في المعسكرات على الجبال. كان يحمل معه كتلة من الملح الصخري طوال الوقت، “هذا ملح باكستاني،” أخبر قائد جبهة التحرير ورجاله. “هذا ما سنجلبه إلى كشمير عندما نحررها.” ثمّ يلف الملح بمنديل أخضر ويخبئه في حقيبة قائلًا: “يدل الأخضر على ديننا الذي يسهل كل الأمور بإرادة الله”، فيجيبه الآخرون “وبمباركته.” 

قادهم الملّا الحديدي إلى معسكر على خط الهجوم يطلق عليه معسكر FC-22 وهو منشأة تعود إلى مركز “دوار” للنشاطات الإسلامية الجهادية العالمية الذي أسسته المخابرات العسكرية الباكستانية. كان معسكر FC-22 في تلك الأيام بؤرة قذرة، فهناك القليل من المباني الصالحة، أمّا أماكن النوم فقد كانت عبارة عن خيام قذرة مرتجلة لا توفر ما يكفي من الطعام أو الدفء. بغض النظر عن هذا فقد توافرت الأسلحة بكميات مُذهلة، بالإضافة إلى تواجد شخصيات مخابراتية توفر التدريب على هذه الأسلحة ومن بينها التدريب على القنص عالي الدقة. كان هناك مسافات بخطوط نار وأهداف متحركة ومدربين سيدفعون بالمجندين الجدد إلى الخلف أو يهزونهم بقوة في مرافقهم في اللحظة التي يطلقون فيها النار وعليهم بذلك ألا يخفقوا في الإصابة فالدرس كان إصابة هدف متحرك رغم اختلال توازنهم. كان هناك أيضًا محاضرات أسبوعية حول التدريب على القتال الحي والهجوم السريع على طريقة حرب العصابات وعمليات الانسحاب عبر خط التحكم. كان هناك معملٌ للمتفجرات ومنهاجٌ يتحدث عن تقنية تسلل الطابور الخامس (أي التجسس على الدول لزعزعة استقرارها) وفوق هذا كله كان هناك صلوات. 

كانت الصلوات الخمس اليومية إجبارية على كل المقاتلين في معسكر “الميدان”. وباستثناء كتيبات التدريب كان القرآن الكريم الكتاب الوحيد المسموح به هناك. وبين أوقات الصلاة الرسمية يدور النقاش عن الله بين الغرباء ممن يتكلمون لغات لم يفهمها المهرج شاليمار ولم يتبين من حديثهم سوى كلمة “الله”. 

كان مولانا بلبل فاخ دليله فيما يتعلق بالأسلحة والغرباء. ولكن قبل إعداده للانطلاق في العمل العظيم كان من الضروري تغيير وعيه. كان على المهرج شاليمار أن يقوم بمراجعات معينة حول رؤيته للعالم. “ليس من الممكن أن تطلق النار باستقامة،” قال بلبل فاخ بخشونة، “إن كانت الطريقة التي تنظر فيها إلى الأمور مضطربة.” 

كانت الأيدلوجيا أمرًا أساسيًا، فالكافر المهووس بالتملك والثروة لا يفهم هذا بل ويعتقد أنّ ما يُحّفز الرجال أساسًا هو المنفعة الذاتية الاجتماعية والمادية. كان هذا عيب كل الكفار ونقطة ضعفهم التي جعلتهم عرضة للهزيمة. فما يُحفز المقاتل الحقيقي ليس الرغبات الدنيوية ولكن ما يعتقد به كحقيقة. الاقتصاد ليس أساسياً بل الأيدلوجيا. 

تكفل المُلّا الحديدي بمهمة إعادة تثقيف المجندين الجدد. كان الأمر في جزء منه هدية للثورة والجزء الآخر عملاً للرب. جلس المهرج شاليمار على صخرة عند الجدول الجبلي المتجمد مصغيًا إلى المُلّا الحديدي كما اعتاد أن يصغي إلى بانديت بيارليل كول بينما أضناه الشوق إلى قليل من السعادة تمنحها لمسة من بوني (اسم الفتاة الهندية التي وقع في حبها عندما كان شابًا). ولكن من الواضح أنّ تلك السعادة كانت وهمًا وكانت ذكرى تعرض المهرج شاليمار للخداع ما ساعد دروس المُلا الحديدي أن تكون واضحة وسهلة الاقناع.

قال لهم المُلّا أنّ كل ما فكروا به وعرفوه حول طبيعة الواقع وكيفية صيرورة الأمور خاطئٌ، وهذا أول أمر على المقاتل الحقيقي أن يفهمه. أجل هذا صحيح فكل شيء اعتقدت أنني أعرفه عنها كان خاطئاً، فكر المهرج شاليمار. وكان العالم المرئي، عالم المكان والزمان والحواس والإدراك الذي اعتقدوا أنهم يعيشون فيه مجرد كذبة.” أجل هذا أيضًا.”- وكل ما كان باديًا ليس باديًا. “أجل،” من خلال عبور الجبال عبروا عبر ستارة والآن يقفون عند عتبة حقيقة العالم التي خفيت على معظم الرجال- “الحمد لله، الحقيقة أخيرًا، الحقيقة الباقية، الحقيقة التي لن تتحول إلى كذبة،” فكر المهرج شاليمار. وخطب فيهم المُلّا حول عالم الحقيقة حيث لا مكان للضعف أو الجدل أو أنصاف القرارات.  وأمام سلطان الحقيقة على الجميع الركوع، عندها ستحميكم الحقيقة وتحمي أرواحكم في راحة يدها العظيمة. “في راحة يدها”- والآن ما من أبٍ لكم سوى الحقيقة التي من خلالها ستغدون آباء المستقبل- ” ما من أبٍ لكم سوى الحقيقة”.  وأيضًا ما من أمٍ لكم الآن سوى الحقيقة، فعندما تنتصر الحقيقة ستبارك كل الأمهات أسماءكم.” ما من أمٍ لي سوى الحقيقة”. والحقيقة أخوكم الوحيد أيضًا الذي من خلاله ستصبحون أخوة لجميع الرجال.” ما من أخٍ لي سوى الحقيقة”. والحقيقة زوجتكم، “ما من زوجة لكم سوى الحقيقة.” 

الوقت بحد ذاته في خدمة الحقيقة كما أخبرهم المُلّا الحديدي وقد تمرّ السنوات في لحظة ويمكن للحظة أن تستمر للأبد إن خدمنا الحقيقة بتكريسنا الوقت لها. حتى المسافة لا شيء بالنسبة للحقيقة ورحلة الألف ميل قد تنتهي في يوم واحد. وإن كان بالإمكان تحريك وتغيير الزمان والمكان وإن كانا تابعين طيّعين للحقيقة، سيكون أسهل بكثير عندئذٍ قولبة الذات البشرية! وإن كانت قوانين الكون المزعومة محض وهم وإن لم تكن هذه الأوهام سوى نسيج هذا الستار الذي أخفيت وراءه الحقيقة عندئذٍ ستكون الطبيعة البشرية وهمٌ أيضًا وبالضرورة ستخضع كل من الأهواء والمعرفة والشخصية والإرادة الإنسانية لمقتضيات الحقيقة في لحظة الكشف عن هذا الستار. لا يستطيع أي مرء مواجهة الحقيقة العارية وتحديها والنجاة بفعلته. 

شعر المجندون الجدد ممن أصغوا إلى المُلا الحديدي أن حيواتهم القديمة تذوي أمام يقينه. وحتى القائد المتخفي الذي أطلق على نفسه اسم “دار” من شيرمال رغم عدم وجود عائلة “دار” من شيرمال قفز فجأة وخلع القبعة الصوفية التي غطت وجهه ورقبته مع ثقوب للفم والعينين وملابسه الخارجية المصنوعة من النايلون ومعطفه الصوفي القصير وحذاءه المطاطي والقطع الصوفية التي لف بها قدميه و كنزته الصوفية بدون أكمام وبقبة سبعة وقميصه الطويل بدون أكمام خاكي اللون وبيجامته وجواربه وثيابه الداخلية، ووقف أمام بلبل فاخ عاريًا وجاهزًا للعمل. “لا أملك اسمًا” صرخ بصوت عالٍ،”سوى اسم الحقيقة، ولا وجهاً سوى الوجه الذي تختاره لي، ولا جسدًا سوى الجسد الذي سيموت في سبيل الحقيقة. لا أملك روحًا غير روح الله.” توجه المُلا الحديدي نحوه وبكل رقة أبوية ساعده على ارتداء ملابسه مجددًا. ” هذا المقاتل،” أعلن بلبل فاخ بكل رقة عندما وقف الرجل الذي نظر المهرج شاليمار إليه كجبل عارٍ وقد أصبح الآن بكامل ملابسه مجددًا، “خلع أردية الكذب ولبس أردية الحقيقة. إنه جاهز للحرب.”

وعندما كان القائد المتخفي عاريًا أدرك شاليمار أنه صغير السن، ربما عمره ثمانية عشر أو تسعة عشر، صغير بما يكفي ليمحو ذاته في سبيل قضية، وصغير بما يكفي ليمنح نفسه صفحة فارغة يكتب عليها أحد آخر. كان نكران الذات بالنسبة للمهرج شاليمار مطلباً إشكالياً وعائقاً. أراد أن يكون جزءًا من الحرب المقدسة ولكن لديه أمور شخصية عليه الاهتمام بها ووعود شخصية يتوجب عليه الايفاء بها. في الليل كان وجه زوجته يغزو أفكاره وخلف وجهها كان هناك وجه الأمريكي. كان التخلي عن ذاته يعني التخلي عنهم أيضًا. وشعر بعجزه عن إعطاء أوامر لقلبه حتى يتحرر جسده.

“يؤمن الكفرة بثبات الروح، ولكننا نؤمن بأن كل الكائنات الحيّة يمكن أن تكون في خدمة  الحقيقة. يقول الكافرون بأنّ شخصية المرء تحدد مصيره، ونحن نقول بأنّ مصير المرء سيعيد تجديد شخصيته. ويعتقد الكفار بأنّ الصورة التي يرسمونها عن العالم صورة على الجميع الإقرار بها. ونحن نقول بأن الصورة التي يقدمونها لا تعني شيئًا لنا فنحن نعيش في عالم مختلف. يتكلمون عن الحقيقة الكونية ونحن نعلم أنّ الكون وهم والحقيقة تقبع وراء هذا الوهم حيث يعجزون عن الرؤية. يعتقدون بأن العالم ملكهم ولكننا سنجرهم من حصنهم ونلقي بهم في الظلام ونعيش في الجنة ونبتهج بينما يحترقون في النار.” قال بلبل فاخ. 

وقف المهرج شاليمار ومزّق رداءه. “خذيني!” قال صارخًا. “أيتها الحقيقة أنا مستعد لك.” كان مؤديًا مُدربًا وممثلًا رئيسيًا في فرقة “باند باثر” في الوادي وهذا جعل حركاته أكثر إقناعًا وأضفى على رحلته نحو العري المزيد من المعنى مقارنة بفتى في الثامنة عشر من عمره. خلع قميصه وأعلن انصياعه:” أنا نظفت نفسي من كل شيء ماعدا القتال! وبدون القتال أنا لاشيء.” وصرخ مُعلنًا موافقته “خذني أو اقتلني الآن!” وخلع ثيابه الداخلية. لقد ترك الشغف في هذه المجاهرة أثرًا في المُلّا الحديدي،” نعلم أنّ أولئك ممن انطلقوا برحلة الشتاء القاسي عبر طريق تراقبال (Tragbal) قاموا بها مدفوعين من الداخل. ولكن في داخلك تحترق الرغبة أقوى مما اعتقدت،” قال المُلّا بينما ساعد المهرج شاليمار على ارتداء ملابسه التي تغيرت بفعل تمزيقها في سبيل ارتداء ثوب الانتماء. عندما ارتدى ملابسه بالكامل سجد المهرج شاليمار عند قدمي بلبل فاخ وكاد يُصّدق أداءه ويصدق أنه لم يعد ذاته وبأنّه قادر الآن على وضع الماضي خلفه.