المختارة
العدد 264 | 14 أيار 2021
استبرق أحمد


 

ليل كئيب

تنوح الريح فيه

  وتتردد صرخات متخيلة من حبيبته.

  جاءه خاطر غريب ذلك المساء، ركض ناحية المنارة، ضغط الزر المفترض، أخفى عين الطريق، انتظر.

  في بيته المنكمش، تقلّب كثيرا في سريره، دبابير صرخات لا يهدأ وخزها في حلمه، رأى المنارة تنقبض، تضيق، تصغر، تختفي. يسطع ضوء قوي في مكانها، يتلاشى، ارتسمت هيئة بانحناءات سخية، رشقت قلبه بامرأة  تسعى إليه بسرعة أخافته. استيقظ مذعورا، تردد بالخروج، فتح الباب، وجد ليلاً تائها،أعزل،عاد إلى سريره منهكا.

صباحا استطلع النهار دائخا، طرقع فقرات ظهره، متأملا مبنى المنارة.

  على امتداد ظلها الصباحي الطويل، التقت نهاية قمتها بالشاطئ رآه هناك، عرك عينيه، تأكد وجود قارب، أخذ عدته الخاصة، انطلق.

 حدق بصندوق اسطواني، أخذ نفسا عميقا، بدأ يفكه ببطء، عصيا ومحكم الإغلاق، إلاّ أنه أستطاع التغلب عليه، حرره. أزاح الغطاء، تراجع بعد أن وثبت خارجه أصابع قدم خضراء،وجد امرأة عارية،صلعاء،بعيون مفتوحة،مرعوبة، تمدّ ذراعيها إليه، تتوسله كأنها تبتهل لإله.

تذكر التعليمات. جذبها.

مذ

 سنة باهتة إلاّ منهن

امتلأ الشاطيء بألوان متعددة، ووضعيات بعضها كاماسوترية، مرتديا بذلة ” الحماية  القصوى”، فك تشابكها، تاركا بعضها:

منكفئة على وجهها،منبطحه بطولها الهائل، متكورة كجنين،ساجدة، ترفع ساقا وتحني أخرى، أو من دون قدمين.

جميعهن :  صلعاوات، بعيون مغمضة بلا أسنان ولا ألسنة.

**

يعرف جزيرته العسكرية ضئيلة،مقفرة، يهديه مرور البواخر ووقوفها نائية،اندفاع أمواج الصمت و المفاجآت.

 ارتاع بالبداية لم يتوقع هذه الأعداد الكثيفة، شك بحدوث مواجهة لم يخبروه عنها.

خاطب القيادة المركزية:

-سيدي الدمى  ال..

_  ارتديت بذلة الحماية؟

_ نعم..و

أكمل الصوت آمرا:

  ادفنهن.

 لاحظ وفود المزيد، عرف أن لهن تقسيماتهن اللونية،وأن بعضها يتكرر أكثر،أما الأصفر و الأزرق الفاتح فلم يجدهما،لونان تحبها حبيبته ويقترب حثيثا من كراهيتهما، فقد بات لايطيق بدلة الحماية الصفراء التي تأخره أسابيع للعودة، ولا سيارة أخيها “البيتوتي”الزرقاء التي تمنعه من رؤيتها.

أثارته وضعياتهن بلغزها، متسائلا عن لون المختارة.

 مضى يلاحظ ازديادهن مع علو تهديدات الحرب،هكذا باتت زيارته لأهله  تتباعد،واتصالات حبيبته تقل.

 و ترقبهن..

**

ثم توقف كل شيء..كل شيء تماما.

الآن

وضع يده على ظهرها،رفعها من القارب،مشى بها متجها إلى غرفته.

 وضعها في حوض الاستحمام، فتح الماء الساخن، بتوئدة، دعك  جسدها من اللون الوحيد الذي أتى أخيرا، ذلك الأخضر الداكن.  ينظف بالمنشفة، يمسح بهدوء وقوة، ملاحظا أنها أكثر امتلاء منهن، يضغط، يدلّك، يفرك، شاهد أيادي مختلفة تمسكها بعدائية.

يزيل، يكشط، يمسح. يراها تتنقل بين العديد من المقرات،المختبرات، العذابات لتصل إلى جزيرته المحايدة،أرض مهادنة لاتقبل الانحياز،وتقيدها المعاهدات.

يرتسم مشهده  منذ أسبوع في اتصال مع  القائد:

_بدأن بالظهور سيدي.

_ اتبع التعليمات بدقة.

_هن بألوان فاقعة سيدي.

قاطعه: أُبلغنا، اللعنة على السفن المخالفة.

ليكمل الصوت الآمر:

_اطمرهن عميقا أكثر.

وعرف، أدرك، فهم

السفن: مختبرات عائمة، كلما استنفذت بضاعتها بالتجارب ألقتها في البحر،بموجب  اتفاقية مع بلده.

الألوان: تحذير يحدد نوع الفايروس.

الدمى: قيل أنهن..وأراد أن يتأكد.

ماذا عن وضعياتهن الكاماسوترية؟

ظل السؤال يجمع في رأسه ديدان متوحشة مليئة بالتفسيرات…

**

أخبر حبيبته ذات خطأ عما يحدث أو ربما ذات أمل أن تهتم به، عن مواقيت المنارة المطفئة علامة للتلخلص منهن، عن تقنية مزروعة في أجسادهن تجرهن إلى الجزيرة،ليصلن في اليوم التالي، فباتت تلاحقه بأسئلة كثيفة.

  لائذا بداخله، تكبر ثمرة ليمون الحقائق حامضة و متعفنة، تنز الروائح اللاذعة، عن جزيرة منسية، تطمر زحف الحكايات.ألحّت حبيبته،قالت أنها ماعادت تطيقه منذ أطبق فمه، هددته بتسريب أخباره.

اتصل قائده مثنيا على جهوده مع احتمالية إرسال من يساعده،مؤكدا :

نعرفك،نثق بك.

في عطلته الأخيرة لم يعثر عليها ولا على سيارة أخيها الزرقاء المقيتة.قيل أن البيت خمد في الظلام بعد صرخات علت ذات مساء.

**

تغمره صور حلميّة عن وجوده ببدلة الحماية القصوى أمام منزلها،عن طرقاته،عن كُمْ قميصها الأصفر في محاولاتها إغلاق الباب،عن زرقة وجه أخيها بضوء التلفاز  في الطابق الثاني، والتفاتته البطيئة وهو يعض ثمرة مانجو.

تناوشه مشاهد عن جسدها المكتنز،وجهها الأزرق المختنق،وجه أخيها ولعاب أصفر يسيل.

و  فحيح صوت قائده في خلفية الأحلام :

نثق بك،ادفن.

**

في آخر ليالي الحمى العصيبة، قرر..

أخرجهن جميعا، أو ربما بعضهن، عارفا بمناعتهن عن التفسخ، مقاومة جعلتهن ينتزعن لقب الدمى، اعتنى بوضعياتهن وجهزهن.

وأنتظر درّة المجموعة و..

بان ذلك القارب، ظهرت بلون أخضر داكن، هي الأشد خطورة،قنبلة الفيروسات الفتاكة،جارّه معها لقبها الأنصع.

اعتنى بتنظيفها، نام بجانبها يحكي ويعتذر دامعاً.

  على مدى أيام، رتب تلّة على رمل الشاطيء.

تأكد من هشاشته.

تجاهل اتصالات قائده، أغلق الهاتف، جلس على القمة عاريا، وضعها بحضنه، بدت هلعه ترفع يدها، تدفع عنه ما سيصيبه.

تيقن،لم يؤذ أحدا.

هكذا كنّ بظهر مستقيم، غاضبات، منبوذات،كارهات،صادقات يواجهن البحر بأذرع ممدودة، وأيدي  تشير للسفن البعيدة القاسية بحركة بذيئة،يصرخن بقوة و يجهش بالبكاء،بينما يقترب حثيثا قارب عسكري، على سطحه جنود يرتدون بدلة صفراء،وأسلحة معبأة بالذخيرة وصندوق أزرق بداخله المختارة.

*****

خاص بأوكسجين

 

 


مساهمات أخرى للكاتب/ة: