الكلاب الرومانسية
العدد 248 | 04 تشرين الأول 2019
روبرتو بولانيو


إليكم حفنة من قصائد الروائي والشاعر روبرتو بولانيو (1953 – 2003)، لكم أن تنصتوا فيها إلى عواء كلاب رومانسية وتتعقبوا توهان محققين بكامل قلقهم الوجودي ورجال أقوياء يترصدهم ما يبدد هذه القوة!

هذه القصائد مأخوذة من كتاب The Unknown University “الجامعة المجهولة” وله أن يكون الكتاب الأشمل الذي يضم قصائد بولانيو، كونها مثل رواياته، تطلبت جمعاً لنسخ عديدة من مسودات وملفات خلّفها وراءه ومات. تخبرنا زوجته كارولين لوبز في نهاية الكتاب عن الكيفية التي جمعت فيها القصائد، الأمر المترافق أيضاً مع روايات كثيرة ظهرت بعد وفاته، وحسبه أن رواية بعظمة وضخامة “2666” قد نشرت بعد مماته.

اقترفت هذه الترجمة عن الانجليزية (ترجمة القصائد إلى الانجليزية لورا هيلي) ولا أعرف إن كنت وفقت في ذلك، وخاصة أنني لطالما تجنبت الترجمة عن لغة وسيطة، لكن إن كان في ذلك مغامرة فأهلا بها، وإلا فإنه كان عليّ تعلم الاسبانية، وانتظاركم سنوات وسنوات حتى أترجم هذه القصائد، مع العلم أن العمر قصير جداً.

 

المحققون

حلمت بمحققين تائهين في مدينةٍ معتمة

سمعتُ أنَّاتهم، قرفهم، هشاشتهم

جراء الهرب

حلمت برسامين ما تجاوزا الأربعين بعد

حين همّ كولمبوس باكتشاف أميركا

(الأول كلاسيكي، الثاني حداثوي على الداوم

ككومة خراء)

حلمتُ بآثار أقدامٍ مشعة

بآثار حيَّةٍ تسعى

تبينت الوقت وعاد المحققون

وقد أطبق عليهم اليأس

حلمت بقضية شائكة،

رأيت ممراتٍ تغص برجال الشرطة

رأيت تحقيقات ما توصلت إلى شيء

وأرشيفاً يفيض عاراً

ثم عاودت رؤية محققٍ

يعود إلى موقع الجريمة

هادئاً ووحيداً

يتوسد الأرض ويدخن

في غرفة نوم مضمخة بالدم

بينما عقارب الساعة

تسافر متثاقلةً

في الليل اللامتناهي

 

المحققون التائهون

تاه المحققون في المدينة المعتمة

سمعت أنَّاتهم

سمعت وقع خطاهم في “ثيتر أوف يوث1”

صوتاً يتردد كما السهم

ظلالاً للمقاهي والحدائق

وأمكنة المراهقين

المحققون الذي يتأملون

راحات أيديهم

وفيها قدرٌ لُطِّخ بدمائهم

من دون أن تقوى على

تحديد موضع الجرح

واستعادة الوجوه التي أحببتها يوماً

والمرأة التي أنقذت حياتك

 

المحققون المتجمدون

حلمت بمحققين متجمدين، محققون لاتينيون

وهم يحاولون إيقاء أعينهم مفتوحة

وفي منتصف الحلم

حلمت بجريمة مروعة

وفتية حريصون

وكل ما يشغلهم هو ألا تلامس خطاهم برك الدم

وقد رصدوا موقع الجريمة

بنظرة فاحصة واحدة.

حلمت بمحققين تائهين

في مرآة أرنولفيني1 المحدودبة:

هذا هو جيلنا، هذا هو منظورنا

ونماذج خوفنا.

 

الكلاب الرومانسية

كنت في العشرين من عمري، حينها

كنت مجنوناً

وقد فقدت بلداً

لكنني كسبت حلماً.

وطالما أن ذلك الحلم معي

فما همّي.

لا أعمل، ولا أصلي

ولا أدرس في ضوء الصباح

بل أرافق كلاباً رومانسية.

وعاش الحلم في خواء روحي.

في غرفة نوم خشبية،

متوراية في ضوء شحيح،

عميقاً في رئتي منطقة استوائية.

أحياناً أعود إلى نفسي

وأزور الحلم فإذا هو تمثال خُلِّد

بأفكارٍ سائلة،

أشبه بدودة ٍبيضاء تتلوى

في الحب.

حب جامح.

حلم داخل حلم آخر.

يخاطبني الكابوس قائلاً: ستنضج

وتخلّف وراءك صور الألم واالمتاهة

وستنسى.

لكن حينها، كان النضج جريمة.

وها أنا هنا، رفقة كلابٍ رومانسية

وهنا سأبقى.

 

 

القبضايات لا يرقصون

امتداد الظلال على

إخراج: نورمان ميللر

القبضايات لا يرقصون

القبضايات يصلون البلدات الحدودية ليلاً

لا يكسبون المال، ولا يبددونه، يسعون للقليل منه في غرف نوم تتآكلها الرطوبة

القبضايات لا يرتدون البيجامات

للقبضايات أيور كبيرة منتعظة تنكمش وترق مع مرور الزمن

القبضايات يخرجون أيورهم بيد واحدة ويتبولون بولاً مترامياً على الجروف والصحارى

القبضايات يستقلون قطارات البضائع عبر أراضي أميركا الشمالية المترامية

هم مربط خيل أفلام الدرجة الثانية

وأفلام العنف حيث العمدة رجل بغيض والشريف ابن شرموطة والأمور تمضي من سيء إلى أسوأ

لحين ظهور القبضاي وهو يطلق النار يمنةً ويسرةً

تتفجر الصدور برشقات رصاصات من العيار الثقيل

تتجه نحونا

كما لو أنا حيال جنود الخلاص الدائم

القبضايات يمارسون الحب مع النادلات

في غرف نسائية متواضعة

ويغادرون قبل الفجر

القبضايات يستقلون حافلات متهالكة عبر الأراضي المترامية لأميركا اللاتينية

القبضايات يتقاسمون مشاهد الرحلة وكآبتها مع الدجاج والخنازير

يفارقون الغابات، والبراراي، والجبال المدببة الحادة كأسنان القرش، والأنهار التي لا اسم لها، والمشقَّات العقيمة

القبضايات يتلقطون فتات الذكريات بلا تأفف

لقد أكلنا، يقولون، وسكرنا، وانتشينا، وتجاذبنا أطراف الحديث مع أصدقاء حقيقيين

حتى مطلع الفجر

ما الذي نرتجيه أكثر من هذا

القبضايات يتركون أولادهم متناثرين على امتداد أميركا الشمالية وأميركا اللاتينية

قبل مثولهم أمام الموت

قبل أن يستقبلوا الهيكل العظمي بوجوه جففها الأمل

قبل أن يستقبلوا العرَّابة، المعلمة صاحبة السطوة بوجوه خددتها اللامبالاة

أنثى البطريق، المكسوة شعراً، أقبح الفتيات في قاعة الرقص

نعم الأقبح، أو الفتاة الأكثر تميزاً في قاعة الرقص

 

القبضايات، تعليق نقدي وأثنوغرافي

امتداد الظلال الصينية على القارة الأميركية؟

امتداد الظلال التشيكية على القارة الأميركية؟

وقد نهضت من العدم المطلق وتضاعفت

فما أميركا إلا محض مرآة؟

رأيتهم في المنام، قلت لهم حاذروا، هذي الأرض الخصيبة محض مرآة،

المرآة التمست الأسطورة، المرآة قربان يسوع المسيح

المرآة العظيمة خريطة كابيزا دي فاكا2 وقد التمسها فضيّع نفسه.

محض هلوسة إلا أنها تفهمنا جيداً.

و أبي ورفاقه ما أنصتوا لذلك.

——————————–

1- مسرح في نيويورك.

2- المقصود هنا لوحة The Arnolfini Portrait للفنان الهولندي جون فان إيك (1390 – 1441) التي تعتبر أعجوبة في تاريخ الفن الأوروبي وقد احتوت تعقيدات هندسية كثيرة. 

2-   الفار نونيز كابيزا دي فاكا (1490-1560) الرجل الثاني في بعثة قادها بانفيلو دي نارفيز (1478-1528) التي غادرت أسبانيا في حزيران 1527 مع خمس سفن و 600 رجل بمهمة تأسيس مستعمرة في “فلوريدا.” عانت البعثة من العواصف والفرار والمرض وغيرها من الصعوبات في منطقة الكاريبي. في الخامس والسادس من تشرين ثانى 1528غرقت السفينة ونجا من البعثة 80 رجلا بالقرب من جزيرة غالفستون بولاية تكساس. بعد أن عاش وسط السكان الأصليين الأمريكيين لمدة ست سنوات، اتجه كابيزا دي فاكا وثلاثة ناجون آخرون ناحية الجنوب ثم الغرب على أمل إعادة الاتصال مع أبناء بلدهم. وصلوا في نهاية المطاف إلى مدينة مكسيكو ليصبحوا أول الأوربيين في استكشاف ماهو الآن ولاية تكساس وجنوب غرب أمريكا.

*****

خاص بأوكسجين   


مساهمات أخرى للكاتب/ة: