الكرة الزرقاء
العدد 177 | 01 أيلول 2015
د. هـ لورنس/ترجمة: أسامة منزلجي


    ظهرَ نجمُ المساء اللامع، الكبير، في الشفق المُبكِّر، وتحت الأقدام كانت الأرض شبه متجمّدة. كانت ليلة يوم الميلاد. أيضاً كانت الحرب قد انتهت، وقد عمَّ حسٌ بالارتياح حتى كاد يُصبح تهديداً جديداً. كان المرء يشعر بعنف الكابوس المنتشر في الجو العام. وكان هناك أيضاً في تلك الأمسية تشاحُن آخر بين الرجال على ضفة الحفرة.

    كان هارون سيسون آخر رجل على خط سكة الحديد الأسود القصير الذي يرتقي التل متّجهاً إلى المنزل عائداً من العمل. كان قد تأخّر لأنه حضر اجتماعاً للرجال على الضفة. كان سكرتير نقابة العمال في منجمه، وقد سمع الكثير من المشاحنات السخيفة التي أثارت غضبه.

    تجاوز السياج بخطوة واسعة، وعَبَرَ حقلَين، وتجاوزَ سياجاً آخر، وأصبحَ على الدرب الطويل المؤدي إلى منازل عمال المناجم. وفي الجهة المقابلة كان منزله : لقد بناه بنفسه. عَبَرَ البوابة الصغيرة، ومرَّ من جانب المنزل منتقلاً إلى الخلفية. توقّفَ برهة، وألقى نظرة إلى الحديقة الشتائية، المُظلمة.

    هتف صوت طفل فرِح ” أبي – جاء أبي! ” وخرجت فتاتان ترتديان مئزرين أبيضين ووقفتا أمام ساقيه.

    هتفتا ” أبي، هل ستضع شجرة الميلاد؟ لدينا واحدة! “

    أجاب بتحبُّب ” قبل أنْ أتناول عشائي؟ “

    ” أقِمها الآن. أقِمها الآن. لقد حصلنا عليها عبر فريد ألتُن “

    ” أين هي؟ “

    كانت الفتاتان تجرّان شيئاً خشناً غامضاً من زاوية الممر إلى الضوء الخارج من باب المطبخ. 

    هتفت ميليسنت ” ما أجملها! “

    قالت مارجوري ” نعم، جميلة ” 

    أجابَ، وهو يجتاز بخطوةٍ واسعة الغصن القاتم، ” أعتقد ذلك “. وذهب إلى المطبخ الخلفي لكي ينزع عنه معطفه.

    قالت الفتاتان بصخب ” أقِمها، يا أبي، أقِمها “

    ” يمكنكَ أنْ تفعل ذلك الآن. لقد تركتَ عشاءَك مدة طويلة، لذلك يمكنك أيضاً أنْ تفعل قبل أنْ تتناوله ” هكذا جاء صوت امرأة كئيب من الضوء الساطع للغرفة المتوسطة.

    كان هارون سيسون قد خلع معطفه وصدريته وقلنسوته. ووقفَ عاري الرأس بقميصه وبنطاله ذي الحمالات، يتأمّل الشجرة.

    سألَ ” مَن أنا لأنصبها؟ “. التقطَ الشجرة، وجعلها منتصبة بإمساكها من أعلى غصنٍ فيها. وشعر بالبرد وهو واقف في الفناء من دون معطف، وارتعشَ كتفاه.

    كرَّرت ميليسنت ” أليست جميلة! “

    ” نعم! – مع أنها ليست متوازنة “

    ” ارتديا شيئاً، أنتما الاثنتان! ” جاءهما صوت امرأة بنبرة آمرة وعالية من المطبخ.

    احتجّت الفتاتان من الفناء ” نحن لا نشعر بالبرد “

    ألحَّ الصوت ” تعاليا وارتديا شيئاً “

    انطلقَ الرجل على الممر ؛ وهرعت الفتاتان تُدمدمان إلى الداخل. كانت السماء صافية ؛ ولا يزال هناك ضوء غير ساطع، نقي في الجو السفليّ. 

    نقَّبَ هارون في سقيفته في أسفل الحديقة، وعثر على رفش وصندوق مناسبين. ثم خرج إلى الحديقة الشتوية، والعارية، والأنيقة. اندفعت الفتاتان نحوه وهما تضعان الشريط المطاطي لقبعتيهما تحت ذقنيهما أثناء ركضهما. كانت الشجرة والصندوق ممدّدين على الأرض المتجمدة. وكان الجو يتنفّس كهرباء مظلمة، متجمدة.

    قال لميليسنت ” امسكيها لتبقى مستقيمة “، وهو يضع الشجرة داخل الصندوق. وقفت لا تُبدي وأمسكت بأعلى غصن في الشـجرة ؛ وطمر الجذور من كل جانب.

    حين تُرِكَتْ وحدها، مضغوطة، ذهب ليجلب عربة اليد. كانت الفتاتان تحومان حول الشجرة من فرط الإثارة. ترك العربة وانحنى نحو الصندوق. راقبته الفتاتان وهو يُبعِد وجهه – لقد وخزته الأغصان.

    صدر عنه ” أي! ” مع نخر قصير.

    ثم انطلق الموكب – عربة اليد المتدحرجة، والشجرة، بحفيفها، تتمايل، والفتاتان الصغيرتان الفرحتان. وصلوا إلى الباب. هبط ساقا عربة اليد إلى الفناء. نظر الرجل إلى الصندوق. 

    هتف ” أين تريدين أنْ نضعها؟ “

    صرخت زوجته ” ضعها في المطبخ الخلفي “

    ” يُستحسن أنْ نضعها حيث يمكنها أنْ تنتصب. لا أريد أنْ أنخعها وأنقلها في أرجاء المكان “

    حثّته ميليسنت ” ضعها على الأرض وأسـندها على خزانة أطباق، يا أبي. ضعها هناك “

    هتفت الأم على عجَل ” إذن، ادخلن أنتما الاثنتان وافرشن صحيفة على الأرض”

    ولجت الفتاتان إلى الداخل ؛ ووقف الرجل يتأمّل في الجو البارد، وكتفاه غير المتدثرين يرتعشان قليلاً. بيَّنَ الباب الداخلي المفتوح الأرضيّة المُشمّعة البرّاقة، وطرفاً من خوانٍ بنّي وُضِعَت عليه نبتة الأسبيدسترا.

    مرةً أخرى رفع هارون سيسون الصندوق بحركة نَخْع. وخزته الشجرة ولسعته. راقبته زوجته وهو يدخل مترنحاً، وبوجهٍ متنحٍ جانباً.

    قالت ” انتبه كيلا تسبب الكثير من الوساخة “

    أنزل الصندوق بحركة صغيرة ووضعه على الصحيفة المنشورة على الأرض. وتناثر التراب.

    قال لميليسنت ” اكنسيه ” 

    كانت أذنه تتلكّأ مُصغية إلى حفيف أغصان الشجرة المتشبّث، المفاجئ.

    ملأ الغرفة ضوء متوهج أبيض قويّ وجعل كل شيء يبدو حاداً وقاسياً. وفي الموقد المفتوح كانت النار تتلظّى حمراء. كل شيء كان نظيفاً ومكتملاً بشكل موسوس. وكان هناك طفل وليد يهدل في المهد المجدول بالأماليد بلا مِهزّة  بجوار الموقد. كانت الأم، النحيلة، المرتَّبة ذات الشعر الفاحم، تخيط ثوب طفل. وضعَتْ هذا جانباً، وبدأتْ ترفع عشاء زوجها عن الفرن. 

    قالتْ ” لقد كففتَ عن المسامرة في وقت مُبكِّر هذه الليلة “

    أجاب، متوجهاً إلى المطبخ الخلفي ليغسل يديه، ” نعم “

   في غضون بضع دقائق جاء وجلس على المائدة. كانت الأبواب مُغلقة بإحكام، ولكن كان هناك تيار هواء، لأنَّ موقع المناجم تحت المنزل جعل الأبواب لا تنغلق بشكل جيد. حرّك هارون كرسيه، لكي يبتعد عن مسار تيار الهواء. لكنه كان لا يزال جالساً بقميصه وبنطلونه.

   كان رجلاً وسيماً، أشقر الشعر، ومتعة للناظر، في حوالي الثانية والثلاثين من العمر. لم يكن يُكثِر من الكلام، لكنه بدا أنه يفكّر في أمر ما. استأنفت زوجته الخياطة. كانت تعي تماماً وجود زوجها، بينما لم يكن هو يعي وجودها.

   قالت ” إذن، عمَّ تحدثوا هذا اليوم؟ “

   ” عن الاستسلام “

   ” وهل وصلوا إلى أية تسوية؟ “

   ” سوف يُحاولون – وإذا لم يكن الحل مُرضياً فسوف يخرجون “

   قالت ” لن يقبل الرفاق، أعلم “

   أطلقَ ضحكة قصيرة، وتابع تناول وجبته.

   كان الطفلان يجلسان القرفصاء على الأرض بجوار الشجرة، وفي حوزتهما علبة من الخشب أخرجا منها العديد من الحزم الملفوفة بورق الصحف ووزعاها كأنها بضائع. 

   كانت ميليسنت تقول ” إياك أنْ تفتحي أياً منها. لن تفتحي أياً منها إلا بعد أنْ نُخرجها كلها – عندئذٍ سوف نفتحها كلٌ بدوره. وهكذا سوف نفتحها كلها بالتساوي”

   كررت مارجوري ” نعم، سوف نُخرجها كلها أولاً “

   ” وماذا سيفعلون بشأن جوب آرثر فرير؟ – هل يريدونه؟ “

   ارتسمت ابتسامة واهنة على وجه زوجها.

   ” كلا، لا أعلم ماذا يريدون. بعضهم يريده – لا أعلم إنْ كانوا أغلبية “

   راقبته عن كثب.

   ” أغلبية! أنا أعطيه أغلبية. إنهم يُريدون أنْ يتخلصوا منك، وأنْ يهزؤوا بك، وأنت تريد أنْ تحطم قلبك لهذا الأمر. يُدهشني أنّك تحتاج إلى ما تحطّم قلبك لأجله”

   ضحك في صمت.

   قال ” كلا، لن أُحطم قلبي أبداً “

   ” سوف تقترب من فعل ذلك، أكثر من أي شيء آخر ؛ لمجرد أنَّ حفنة من القرود الجهلة يريدون قرداً من نوعهم لكي يمثّلهم في اتحاد العمال، ويُثرثر بالنيابة عنهم، يريدون أنْ يتخلصوا منك، وأنت تُرهق قلبك بهذا الشأن. أنت أبله، هذا رأيي – أنت أبله. لو أنكَ تولي زوجتك وطفلتيك نصف ما تولي اتحادك، لأصبحت في النهاية أسعد حالاً بكثير. لكنك لا تهم إلا بثلّة من عمال المناجم الجهلة، لا يعرفون ما يريدون ما عدا المزيد من النقود لأنفسهم. النفس، النفس، النفس – هذه هي مشكلتهم كلها – والجهل.

____________________________________

الفصل الأول من رواية “قضيب هارون”

الصورة للفوتوغرافي الفرنسي هنري كارتييه بريسون (Henri Cartier-Bresson‏)‏ الذي يُعتبر مؤسس التصوير الفوتوغرافي الصحفي الحديث.

*****

خاص بأوكسجين