الظل
العدد 244 | 17 حزيران 2019
محمود عبد الدايم


«في البدءِ كنتُ وحيداً».. بحروفٍ صغيرةٍ مرتبكةٍ كتبَ الجملةَ هذهِ في منتصفِ الصفحةِ الأولى وأزاحَ الأوراقَ بأصابعِهِ المرتَعشةِ بعيداً عنْه قليلاً، وقعتْ عيناه على بروازِ غلافِ المجلةِ الذي جعلَه يحتلُّ منتصفَ الحائطِ الأيمنِ لغرفتِهِ.. تذكَّرَ أنَّهُ استوْلَى على اهتمامِه من بين عَشرةِ أغلفةِ مجلاتٍ تصفَّحَها على مَهلٍ في ساعاتِه الأولى داخل المستشفى؛ انتظاراً لإنهاءِ إجراءاتِ إلحاقِهِ بالمكانِ.. تأمَّلَهُ –يومها- ثَواني عشراً. شمسٌ منكسرةٌ.. أمواجٌ صامتةٌ.. مَيتةٌ.. وشاطئٌ بلا حياةٍ.. شعرَ براحةٍ غريبةٍ لحْظتها.. تمتمَ «تُشبهني الصورةُ هذه.. تُشبهني إلى حدِّ التطابقِ»!

منذُ سنواتٍ -تعبَ من إحصائِها- تدورُ حياتُه بين الجدرانِ الأربعةِ هذه.. سنواتٌ بيضاء.. كلُّ شيءٍ أبيض.. السريرُ الّذي يتّسعُ بالكادِ لجسدٍ واحدٍ.. الدولابُ ذو «الدرفةِ» الوحيدةِ.. المرآةُ الرديئةُ الباهتةُ.. النافذةُ اليتيمةُ.. حتى وجههُ صارَ شحوبُه مُمتزجاً ببعضِ البياضِ، لكنّه بياضٌ مثيرٌ للغثيانِ.. يبعثُ على الحزنِ.. الوجعِ.. لم يكنْ بياضاً مُنعشاً بالمرةِ..!

ثلاثةُ أيامٍ مرَّتْ.. طوال ساعاتِها ظَلَّ بعيداً عن الصفحةِ الأولى.. في الرابعِ منها.. تناول علاجَه.. أصابَه مللٌ من استكمالِ اللوحةِ التي كانَ يُحاول رسمَها.. طبيبُه نصحَه بالرسمِ.. الأبيضُ لونُه الوحيدُ.. منحَهُ سطوةً على بقيةِ الألوانِ.. رسمَ شمساً بيضاءَ.. فتاةً بيضاءَ.. أرضاً بيضَاءَ.. وتركَ نقطةً سوداءَ في زاويةٍ كئيبةٍ ترقدُ في سكونٍ.. مدَّ يدَهُ بوهنٍ إلى الأوراقِ، تأمَّلَ الجملةَ التي توسَّطت الصفحةَ الأولى.. مرَّرَ سبابَته على الأحرفِ، علَّها تنبضُ بالحياةِ.. يستجديها أنْ تنطقَ.. تتحركَ.. تطيرَ.. تحملَهُ على جناحيْها.. لكنَّها ظلَّتْ ثابتةً.. ميتةً!

تأملَ الأحرُفَ.. أمسكَ قلماً وكتبَ من أوّلِ السطرِ «في البدءِ كُنتُ وحيداً.. مهزوماً.. نزقاً.. غبياً.. كئيباً.. أحملُ كلَّ الأشياءِ السيئةِ فوقَ رأسي.. حتَّى جِئتَ أنتَ.. تعرفُ؟ أصدقُكَ القولَ.. لمْ يقف العالمُ ترحيباً بكَ.. بالكاد لم ألحظْ أنَّه اهتمَّ ولوْ قليلاً بمجيئكَ.. غير أنَّني أذكرُ اليومَ.. القاهرةُ خانقةٌ.. مزدحمةٌ.. قاتلةٌ.. هكذا اعتدْتُها.. شيءٌ مريبٌ يسيطرُ على الأجواءِ.. القرفُ يعلو الأوجهَ التي قابلْتُها يومَها.. موظفُ شباكِ تذاكرِ المترو رجلٌ سبعينيٌّ جلستُ إلى جِواره.. فتاةٌ تجاهلتْ أنْ تعتذرَ لي بعدما طعنتْ منتصفَ حذائِي بكعبِ حذائِها القبيحِ.. شحاذٌ لم يهبْني دعوةً بالسترِ.. سيدةُ استقبالِ المستوصف الطبي.. ممرضٌ أخبرَني عن مكانِ تواجدِ والدتكَ.. طبيبٌ.. لم يرحِّبْ بكَ أحدٌ يا صديقِي.. لا أعرفُ لماذا؟.. لكنْ لم يكنْ ينتظرُكَ أحدٌ سواي، في طريقِ عودتِنا كانوا يُديرونَ معركةً ما.. لم أشغلْ رأسِي بما يدورُ حولَنا.. اكتفيتُ بتأمُّلِكَ.. جسدكَ.. أصابِعكَ الصغيرة.. أنفكَ الأفطس.. عينيكَ المغمضتين برقّة.. أتلصصُ على صوتِ أنفاسِكَ.. ضرباتِ قلبِكَ الهادئة.. تجاهلتُ اللافتاتَ التي أخفتْ ميدانَ التحرير.. شوارع وسط البلد.. الأوراقَ التي تناثرت على درجات سلم المترو.. الفتاةَ ذات لون الروج الفاقع التي طالبتني بغنج لا ينسجم مع ما تحاولُ بيعَه لي بأنْ أمنحَها اسمي لتضعه على قائمة المشاركة.. تجاهلتُ صرخاتِ أمِّكَ وهي تطلبُ منهم أن يوقفوني وأنْ أصحبَكَ في أوّل «خروجة» لكَ..  تجاهلتُ العالمَ واكتفيتُ بكَ.

«انفصامٌ في الشخصية».. رددَ الجملةَ 13 مرة بعدما أغلقَ بابَ المصعدِ تاركاً وراءَه طبيباً، يقولون عنْه «شاطر»، أخبرَه بحالتِه المترديةِ.. نصحَه – بصوتٍ اعتادَ قولَ الحقيقة- أن يذهبَ إلى المشفَى.. المصحّة: «المكانُ أكثرُ هدوءاً من القاهرةِ.. ستجدُ نفسَكَ هُناك».. طرحَ الأمر على زوجتِه.. التي طرحتْه بدورِها على أبيها.. فأمِّها.. فشقيقِها.. فشقيقتِها.. فزوجِ شقيقتِها.. وكانت الزيارة العائلية لمنزله «ساعةَ الصفر» للانتقالِ إلى هناكَ.. إلى هنا..!

صباحاً.. كتبَ «أذكرُ يومَ مرضِكَ الأول.. حرارتُكَ ارتفعت على غير المعتادِ.. وجهُكَ تحوَّلَ إلى الأحمر.. أصبحتَ شديدَ الاحمرارِ.. كُنتَ تبكي.. تصرخُ.. قفزتُ من سريري.. تكورتُ في زاوية الحمام.. أسندتُ رأسي إلى الغسالة الأوتوماتيك الّتي أصرَّتْ أمُّكَ على أن تكونَ في بيتِنا – بيتِها هي – بكيْتُ.. انتحبتُ.. سمعتُ صوتَ إغلاقِ بابِ الشقةِ.. رَحَلَتْ بِكَ أمُّكَ بعدما فشلتْ في خفضِ حرارتِكَ.. أوْ تهدئةِ ثورتِي.. هربتْ من توتري.. صمَّتْ أذنيْها عن صرخَاتي إلى اللهِ بألَّا يُعاقبني فيكَ.. رحلَتْ بِكَ وغابَ صوتُك.. نِمْتُ مكاني في انتظارِ عودتِكُما.. لكنَّكَ لم ترجعْ.. خمسةُ أعوامٍ وتحاولُ والدتُكَ إبعادَكَ عنّي.. عن المرضِ.. عن الهذيان.. عن الجنون الذي اتهمتني بهِ وسط عشراتِ الاتهاماتِ التي ألقتْها على مسامعي قبل أنْ ترحلَ بكَ عنّي».

انكسرَ ظِلُّ الشجرةِ خارجَ غرفتِه على سريرِه.. عرفَ ما سيحدثُ بعدَ الانكسارِ.. أحصى 10 خطواتٍ.. فُتح بعدها بابُ الغرفةِ.. على أرضيةِ الغرفةِ البيضاءِ تدحرجتْ ممرضةٌ سمينةٌ لكنَّها كانتْ جيدة في عدمِ الاحتكاكِ بأيِّ شيءٍ.. لم تكسرْ جدارَ الصمتِ الذي شيَّدَه منذ سنوات.. مدَّ ذراعَه لمسافةٍ اعتادَها.. تركَها تُعريه.. أزاحتْ كُمَّ قميصِه الأبيض الأيمن إلى ما فوق كوعِه.. كانَ جافاً.. صلباً.. شاحباً.. ضغطتْ قليلاً.. ظهر «العِرق».. تجمعَ الدمُ.. تحرَّكَ داخلَه.. أشاحَ بوجهِه – حسبما اعتادَ- ناحيةَ سريرِه وتركَها تطعنُ الوريدَ بمقدمةِ «السرنجة» وتابعَ تمددَ جذعِ الشجرةِ وقدْ بدأَ رحلةَ انكسارِه على سريرِه.. أنهت الممرضةُ عملَها.. أعادتْ ترتيبَه مرةً أخرى.. غطتْ عُريَه.. فردتْ الكمَّ.. أغلقتْ الزرَّ الأبيضَ فوقَ الرسغِ الناتئ..  ألقتْ بالقطنةِ الملوثةِ بدمِهِ في سلّةِ المهملاتِ الراقدةِ في الزاويةِ البعيدةِ.. خرجتْ.. أغلقت البابَ.. أحصَى 10 خطواتٍ، بعدها ألْقَى نظرةً على سريرِه.. الشجرةُ أصبحتْ في كاملِ انكسارِها.. الجذعُ امتدَّ بطولِ السرير.. واهناً.. مكسوراً.. ومهزوماً.

زحفَ ناحيةَ السرير.. أراحَ جسدَه في موضعِ «الجذع المنكسر» تركَ ظلَّ الشجرةِ يُغطّيه كاملاً.. أعلاها كانَ أسفلَه، وأسفلُها كان أعلاه، تأمَّلَ الجذعَ يتأرجحُ على جسدِه.. دقائق عشر حلَّ بعدَها الظلامُ.. تركتْه الشجرةُ وحيداً.. اصطحبت انكسارَها حتى الجدار.. عبر قضبانِ النافذة.. احتضَنَها.. فأغمضَ عينيْه بعدما بدأَ المهدِّئُ يسري في عروقِه.. ونامَ..!

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وصحافي من مصر.