الصباحات الرمادية للتسامح
العدد 233 | 14 تموز 2018
ميشيل فوكو


 من أين يأتي الأطفال؟ هل  يأتون من طائر اللقلق؟ أم من الزهرة؟  أم من الله؟ أم من عم في كاليبريا؟ انظر قليلاً إلى وجوه هؤلاء الصبية، هي لا تعطيك الانطباع بأنهم يصدقون فعلاً ما يقولونه، لأنهم يجيبون على أسئلة الكبار تلك بطاعة غادرة، يجيبونها بابتسامة أو بصمت أو بنبرة متباعدة أو عيون متراقصة يميناً ويساراً، مصرين على حقهم في التحفظ على هذه المواضيع التي يحب المرء أن يهمس بها لنفسه فقط. أما “طائر اللقلق” فهي طريقتهم في الاستهزاء بالكبار، أن يعاملوهم بنفس الطريقة التي يتعاملون بها. إنها إشارة ساخرة و نافدة الصبر بأنهم لن يقبلوا المزيد من هذه الأسئلة، وبأن الكبار فضوليون؛ إلا أنهم لن يستطيعوا اختراق الدائرة الطفولية.

هكذا يبدأ فيلم بازوليني

تبدو “تساؤلات في الجنس” Enquȇte sur la sexualité   ترجمة غريبة لعنوان الفيلم Comizi d'amore: والذي قد يترجم إلى”اجتماع حب”، أو “لقاء حب” أو ربما “منبر حب” (يمكن مشاهدة الفيلم في زاوية فيديو في هذا العدد). إنها اللعبة القديمة  ذاتها كما في مآدب الإغريق، ولكنه يختلف عنها في أنه يتخذ مكانه في الخارج؛ على الشواطئ والجسور وزاوية الشارع، حيث يتسكع الأطفال ويلعبون الكرة. عند تجمعات بائعات الهوى في الجادة، أو تجمعات عمال المصانع بعد ساعات العمل. الفيلم بعيد جداً عن البعد الاعترافي، وبعيد أيضاً عن التساؤل الذي تُطرح عن طريقه أكثر الأمور حميمية للبحث والنقاش تحت ضمانات الأمان والسرية. على العكس من ذلك، إنه حديث شوارعي عن الحب، فالشارع في نهاية اليوم هو أكثر صور التجمعات المتوسطية عفوية.
وكأنه مجرد عابر، يعرض بازوليني الميكروفون للمشاة والمتشمسين. ويسأل بطريقة غير مباشرة عن الحب، وعن المنطقة الرمادية التي يتقاطع فيها الجنس والمتعة والعائلة والالتزام الزوجي بكل تقاليده والدعارة بكل درجاتها.

 تحزم إحداهن رأيها، تجيب بقليل من التردد، ثم تكتسب الثقة فتتحدث بالنيابة عن الآخرين. يجتمع الآخرون حولها، يوافقونها الرأي أو يتذمرون. الذراع على الكتف، الوجه مقابل الوجه، مودة وضحك والقليل من الحرارة تنتشر بسرعة بين هذه الأجساد المتجمعة والتي تلمس بعضها بخفة أو تصطدم ببعضها البعض. يتحدثون عن أنفسهم بكل تحفظ وتباعد، بينما التلامس بين أجسادهم يزيد دفئاً وحيوية.

يقف الكبار جنباً إلى جنب ويتحدثون طويلاً وبطريقة خطابية، أما الشباب فإجاباتهم مختصرة ومتشابكة. يختفي بازوليني المحاور ويراقب بازوليني صانع الأفلام بكل آذانه. لا يعد التوثيق مهماً عندما يكون المرء مهتماً بالأشياء التي تقال أكثر من الأشياء الغامضة التي لا تقال.
يتوقع المرء قدراً معيناً من التفتح الجنسي في بداية الستينات في إيطاليا بعد الهيمنة الطويلة لما سمي على عجل بـ”الأخلاق المسيحية”، ولكن الوضع ليس كذلك على الإطلاق. تُعطَى جميع الإجابات على أساس ما هو صائب وقانوني: أن تكون مع أو ضد الطلاق، مع أو ضد تفوق مكانة الزوج، مع أو ضد فرض العذرية على الفتيات، مع أو ضد إدانة المثليين.
وكأن المجتمع الإيطالي في ذلك الوقت – بين سرية التكفير عن الذنوب وقواعد القانون-  لم يجد بعد الصوت الذي يثق به للتحدث في المواضيع الجنسية، وهو الأمر الذي تروجه وسائل الإعلام. “تقول بأنهم لا يتحدثون؟” هذا لأنهم خائفون. هكذا يفسر موساتي عالم النفس الذي يستفسره بازوليني من وقت لآخر إلى جانب مورافيا فيما يخص التحقيق الصحفي الجاري. ولكن يبدو واضحاً أن بازوليني لا يصدق أي كلمة منهما.
ما يسود الفيلم برأيي ليس الهوس بالجنس بل نوع من التخوف التاريخي أو التردد الاحترازي فيما يتعلق بنظام التسامح الجديد الناشئ في إيطاليا. هنا تكون الانقسامات واضحة، في ذلك الحشد الذي يتحدث عن القانون عندما يُسأل عن الحب. الانقسامات بين الرجال والنساء، سكان الريف وسكان المدن، الأغنياء والفقراء، وطبعاً وبشكل خاص بين الشباب والأكبر سناً. تخشى هذه الفئة الأخيرة نظاماً جديداً يفسد كل الإصلاحات الصعبة والخفية التي حافظت على النظام الإيكولوجي للجنس (مثل تحريم الطلاق الذي يربط الرجل والمرأة بطريقة غير متساوية، وبيت الدعارة الذي يعتبر وجوده مديحاً للعائلة، وقيمة العذرية، وتكلفة الزواج). بينما  تعامل فئة الشباب هذا التغيير بطريقة مختلفة، ليس بصرخات الفرح بل بمزيج من التخوف وعدم الثقة، لأنهم يعلمون بأنه مرتبط بتغييرات اقتصادية ستجدد على الأرجح أوجه اللامساواة في العمر والثروة والمكانة الاجتماعية. في الواقع، الصباحات الرمادية للتسامح لا تجذب أي أحد، ولا يشعر أحد أنها تًعِدُ بأي احتفاء بالجنس. يعبر الناس الأكبر سناً بغضب واستسلام عن تخوفهم: ماذا سيحدث للقانون؟ ويرد الشباب بعناد: ماذا سيحدث للحقوق، ماذا سيحدث لحقوقنا؟

 يمكن اعتبار الفيلم مرجعاً، حتى بعد مرور خمسة عشر عام على إصداره بعد عام من فيلمه “ماما روما”، حيث يكمل بازوليني ما سيصبح لاحقاً ملحمة شبابية عظيمة. هؤلاء الشباب الذين لم يعتبرهم علماء نفس بل فئة لم تستطع مجتمعاتنا دمجها أبداً منذ العصور الوسطى في روما واليونان. الفئة التي خافت منها ورفضتها ولم تستطع أبداً إخضاعها، باستثناء قتلها من وقت لآخر بإشاركها في الحروب. في 1963 كانت الفترة التي قامت فيها إيطاليا بدخول صاخب لحركة تسامح الاستهلاك المتوسع والتي أعطانا بازوليني بيانها بعد عشر سنوات في كتابه “كتابات كورسير”. تتوافق حدة الكتاب مع طبيعة الفيلم القلقة. كانت 1963 أيضاً هي الفترة التي بدأ فيها ذلك التساؤل – في كل أنحاء أوروبا والولايات المتحدة-  عن الأشكال العديدة للسلطة والتي يقال أنها كانت “موضة دارجة” حينها. حسناً، فلنقل إن “الموضة” يمكن أن تستمر لفترة طويلة، كما هي هذه الأيام في بولونيا.
*****

خاص بأوكسجين