الشعر مهنة دينية 2/2
العدد 210 | 09 نيسان 2017
ديريك والكوت


أجرى هذا الحوار المدهش إدوارد هيرش ونشر في شتاء 1986 في مجلة “باريس ريفيو” العدد 101، أي قبل أن ينال شاعرنا العظيم ديريك والكوت جائزة نوبل عام 1992، وبالتأكيد قبل أن يفارق الحياة في 17 آذار 2017..إليكم الجزء الثاني منه بعد أن نشرنا الجزء الأول في العدد السابق رقم 209:

 

هيرش:

سلّطت مسرحيتك الأخيرة “فن الحركات الإيحائية” Pantomime الضوء على الجانب العنصري والاقتصادي للعلاقة بين كروزو وفرايداي. في المسرحية، يقترح رجل إنجليزي أبيض يملك أحد الفنادق في جزيرة توباغو بأن يقوم هو وعامله الأسود الذي يقدم خدمات متعددة بتقديم هجاء لقصة كروزو بهدف إمتاع الضيوف. هل يمكن اعتبار المسرحية حكاية رمزية تدور حول الاستعمار؟

والكوت:

تجسد المسرحية فكرة في غاية البساطة: ثمة نمطان. تفترض الصورة النمطية المأخوذة عن الرجل الإنجليزي عدم إظهار حزنه أمام العلن، وأن عليه مواجهة الصعاب بشجاعة. وينبغي على الرجل الإنجليزي الحقيقي تجنب العواطف والشغف. ما قامت به شخصية الهندي الغربي هو محاولة إرغامه على الاعتراف بأنه قادر على الإحساس بهذه المشاعر وأنه لا ضير من إظهارها، وأن القليل من التعبير عن المكنونات أمر ممكن. هذه هي النقطة الجوهرية في المسرحية، أي أخذ نمطين ووضعهما معاً، وضعهما في مكان واحد لجعل هذا ممكناً. لم أفكر حقاً على الإطلاق بالمسرحية على أنها صراع عنصري. عند عرضها في أميركا، سببت المسرحية توتراً كبيراً نظراً إلى الوضع العنصري هناك. بعد عرضها هنا، أخذت المسرحية دلالات تاريخية عميقة حول المرارة الحقيقية. وقصدت أن تكون بشكل أساسي مسرحية هزلية قد تشتمل على بعض الدروس. والدرس هو أنه لا يمكننا الاكتفاء باحتواء حزننا، وأن الدموع قد تطهرنا، وأنها قادرة على تجديد حياتنا. بالطبع، يوجد داخل المسرحية نقطة ما يتعين على الشخصيتين عندها مواجهة حقيقة أن أحدهما أبيض البشرة بينما الآخر أسود البشرة. يتوجب عليهما مواجهة تاريخهما. ولكن حالما يتم تخطي الذروة، حال انتهاء طقس المواجهة، هنا بالضبط تبدأ المسرحية. قال بعض الناس إنهم يعتقدون أن النهاية سخيفة، لكن معظم النقد هذا جاء عندما كنت في أميركا. يرفض بعض الناس أحياناً فكرة أن القليل من المصالحة والقليل من التكيف ستجعلنا قادرين على العيش معاً، ويعتبرون الفكرة حلاً سطحياً. ولكني أعتقد أن الأمر ممكن.

هيرش:

كيف تفرّق بين أعمالك التي قدمتها أواسط وأواخر الستينات، مثل “المنبوذ” The Castaway و “الخليج” The Gulf، وبين كتاباتك السابقة؟

والكوت:

ثمة مرحلة غامضة في حياة أي شاعر بين عمر الثلاثين والأربعين، وهذا أمر أساسي لأنه بإمكانك إما مواصلة العمل في أحد الاتجاهات، أو بوسعك النظر إلى أعمالك الأولى على أنها مثل “آثار الصبا الأدبية”، ومن اللطيف النظر إليها عن بعد. يتعين الدخول إلى سن الأربعين بذهنية محددة تسعى لإعادة ابتكار الفوضى والتعلم منها. ورغم ذلك، يتملكك خوف من أن أعمالك كانت أساساً عادية، وفاشلة، ومتوقعة. وتجد نفسك في مرحلة ما تقول، أها، ولهذا تصبح تماماً على الهيئة التي تخاف من أن تكونها: هذا الشخص، هذا الكاتب، الذي يحمل اسماً معيناً والشيء المحدد المتوقع منك، وأنك تقدم ذلك القالب المرجو منك. وتحاول الكتب اللاحقة العمل ضد الهوية التي نُسبت إليك. في هذه المرحلة، لا أعتقد أن هذه الأعمال تفتقر إلى العمق الكافي من حيث الإحساس الذي توحي به والمتعلق بالخطيئة، إحساس الذنب الذي تقدمه قد يكون أعمق. بطريقة ما، الكثير من هذه القصائد تمر بسلاسة بينما تثير الغضب تحت السطح. يمكن للمرء دائماً وضع وجه ناعم للعمق الخشن، كما تعرف. إلباس شيء ما تافه للغاية وفوضوي ومزعج شكلاً سلساً. الكثير من الخشونة مفقود في هذه الكتب، لكن بعدها تستمر حالة عدم الرضا طيلة الحياة.

هيرش:

هلّا حدثتنا عن تجربتك حول “ورشة عمل مسرح ترينيداد”، التي أسستها عام 1959 وغادرتها أخيراً عام 1976؟ قلت ذات مرة إنك تود ابتكار مسرح حيث يمكن إنتاج شكسبير وغناء موسيقا الكاليبسو والحصول على درجة متساوية من الإقناع. هل نجحت الفكرة؟

والكوت:

أجل، أعتقد أنني نجحت في تحقيق ذلك. يعتبر أفضل ممثلي الهند الغربية استثنائيين. ومعظم ممثلي الهند الغربية درسوا في المدارس الثانوية في الهند الغربية. التدريب والقراءة الكلاسيكية التي حصدوها هناك واسعة جداً ومثيرة للإعجاب، يدرسون الكثير من شكسبير، وجميع الكتاب الإنجليز العظماء. وبذلك فإن الناس يقرأون بشكل أوسع من لو أنهم لم يدرسوا الشعراء العظماء. ولهذا فإن معظم ممثلي الهند الغربية يعرفون المسرح الكلاسيكي المكتوب باللغة الإنجليزية. كما أن لديهم لكنتهم، ليست لكنة مصطنعة، وإنما لديهم تعبير بصياغات جيدة. إن أجمل أعمال شكسبير التي سمعتها على الإطلاق جاءت على ألسنة ممثلي الهند الغربية. صوت شكسبير ليس بالتأكيد الصوت الذي نسمعه الآن في أعمال شكسبير- النمط الخنثوي الذي يشابه نمط الـ بي بي سي ذي النبرة العالية. إنه نمط خشن- يتراوح بشكل كبير بين الابتذال الرائع والتهذيب العظيم، ولدينا هذا النمط هنا. لدينا ذلك الابتذال كما لدينا ذلك التهذيب من حيث الصياغة. يمتلك ممثلو الهند الغربية ولعاً بلاغياً كبيراً باللغة. إضافة إلى ذلك، الممثل مثل الكاتب من الهند الغربية من حيث أنه شخص جديد: ما يلفظه يمسي معرفاً بمجرد قيامه بذلك. هناك شعور بالريادة. بالنسبة لي، كتابة المسرحيات كانت أكثر تشويقاً من العمل على القصائد لأنه كان جهداً جماعياً، أناس يجتمعون ويحاولون ابتكار شيء ما. عندما فزت بالزمالة وذهبت إلى أميركا في العام 1958، وددت، وعلى نحو مشابه تماماً لعضوية منظمة “أكتورز استديو” للممثلين، امتلاك مكان حيث يستطيع ممثلو الهند الغربية، من دون الانتماء إلى أية شركة، الاجتماع ليحاولوا إيجاد أشياء بسيطة مثل كيف يمكننا التحدث بطريقة تشبهنا من دون أن نبدو متكلفين أو متنافرين، كيف نتعامل مع اللهجة باحترام كما لو أننا نقدم شكسبير أو تشيخوف، وما هي نفسيتنا الداخلية كأفراد، وسط أناس معينين، كجزء من هؤلاء الناس. واجهنا خلال السنوات القليلة الأولى وقتاً صعباً للغاية، قلة من الناس حضرت. لم نكن نعرف ما الذي نفعله، كنا نرتجل ونستكشف ونجرب الأشياء. وكنت مصمماً على عدم الإنتاج لحين اعتقادي بأن صار لدينا فرقة إلى حد ما. لم تكن لدي أية نية لإنشاء شركة. في ذلك الوقت، كل ما أردت عمله هو جمع الممثلين وحثهم على العمل معاً. واستغرق هذا وقتاً طويلاً. إلا أننا في نهاية المطاف، نجحنا في تقديم مسرحية ولمدة سبعة عشرة عاماً، كان لدي شركة رائعة. وبدأت تشتمل أيضاً على راقصين وممثلين رائعين. وأذكر تيري هاندز عندما جاء مرة (هو الآن من المخرجين المكرّسين لشركة “رويال شكسبير”) لأداء مسرحية “جوكر إشبيلية”The Joker of Seville، والتي اقترحت تقديمها مارغريت، التي أصبحت لاحقاً زوجتي. كان لدينا هذا الفضاء الصغير، والذي يشبه حلبة مصارعة الثيران، أو حلبة صراع الديكة، وقدمنا الشطائر والقهوة وعصير البرتقال وغيرها، وبدأت الجموع في ذلك الوقت تألف الأغاني وكانوا يغنون مع الممثلين. وقال تيري لي: “ديريك، أنت تقوم بما حاول بريشت القيام به”. حسناً، لقد انتابني شعور رائع ذلك أنني أدركت أنه يقصد فكرة بريشت المتمثلة بإشراك الجمهور، لقد أصبحت حقيقة فكرة تحويل حلبة المصارعة إلى خشبة مسرح أو خشبة المسرح إلى مدرّج. ولكن بعد مرور بضع سنوات من التفكك والصراع ولمّ الشمل، في النهاية، ولكافة الأسباب، توقفنا عن العمل. بالرغم من أنني لا زلت أستعين بممثلي الشركة بشكل منفرد، لكني لم أعد أدير الشركة. ولكن سبعة عشرة عاماً وقت طويل لإدارة شركة مسرحية.

هيرش:

كتبت بأنك بدأت أولاً بكتابة الدراما “إيماناً بأن المرء لا يبتكر مسرحية فحسب، وإنما مسرحاً، وليس مسرحاً فحسب، وإنما بيئته”. ولكن مع مرور الوقت، بدأت بكتابة مقدمة مسرحية “حلم” Dream في جبل مونكي عام 1970، وتمت الاستعاضة عن الشعور بالفخر بمشاعر من الإرهاق بشكل أساسي وبدا شعور البراءة وقد حل محله اليأس. ماذا جرى؟

والكوت:

حسناً، في الوقت الحالي، أعكف على كتابة مسرحية تحمل اسم “فرع من النيل الأزرق”A Branch of the Blue Nile  والتي تدور حول مجموعة من الممثلين، شركة صغيرة من الممثلين وكيف تفرقوا. ولا أعرف حتى الآن- وسأقرر خلال فترة قصيرة جداً- إن كانت ستنتهي بطريقة سيئة. اللحظة التنويرية للأمر برمته- نهايته- تظل سؤالاً عالقاً.

هيرش:

هل تتعلق المشكلة بأكملها بمسألة وجوب دعم الدولة للفنون؟

والكوت:

أبلغ الخامسة والخمسين الآن، وحاولت طيلة حياتي الصراع والكتابة والسخرية وتشجيع فكرة أن الدولة تدين بالكثير لفنانيها. وعندما كنت شاباً، بدا الأمر رومانسياً، والآن وقد تقدم بي العمر، وأدفع الضرائب، أصبحت الفكرة حقيقة. ولكن لا أريد فقط طرقاً، أريد متعة، وأريد فناً. هذا هو الأمر المريع في الكاريبي. الطبقة الوسطى في الكاريبي عبارة عن مجتمع مرتشٍ ويهتم بذاته فقط ولا مبالٍ ويسعى لإرضاء نفسه فقط، ومتعجرف. إنه يستمتع بتقاليده العمياء. ويبدي احتراماً ضئيلاً لكتّابه وفنانيه. وهذه حقيقة يعرفها كل فنان. ويكمن بيت القصيد في قدرتك على قول ذلك ومن ثم إدارة ظهرك والقول إلى الجحيم لبقية العمر. لم أفعل ذلك ولا أعتقد بأنه بوسعي فعله. ويتجلى الخطأ في التالي: تركت الإمبراطورية البريطانية إرثاً من الهواة. والأمر الذي لم نزل نملكه كميراث هو أن الفن عبارة عن مهنة للهواة. وتأتي هذه النظرة مصحوبة مع بعض أسوأ جوانب المذهب التجاري البرجوازي، سواء كانت البرجوازية الفرنسية أو الدنماركية أو البريطانية أو الإسبانية. جميع الأشخاص من الكاريبي الذين قد يخطرون على بالي لديهم هذه اللا مبالاة العنيدة والمعاقة فكرياً لكل ما حولهم. الإحسان الموجود في الكاريبيين سخيف. المال موجود، عليك فقط أن تنظر إلى المنازل والسيارات، وترى المستوى المعيشي لسكان أي من هذه الجزر، ولكن ما من أحد يعطي شيئاً. وإن فعلوا، فلا أعرف ما الذي يعطونه، ولكن هذا التقشف صفة سائدة بين التجار البرجوازيين الصغار، تكديس المال. ودون الشعور بأدنى مرارة يمكنني القول إن أي شيء حصلت عليه، سواء كسبته أم لا، كان من أميركا وليس من الكاريبي.

هيرش:

ما الذي يشكل الجيل الفني في الكاريبي؟

والكوت:

إن عمر الجيل الفني في هذا الجزء من العالم هو خمس سنوات. خمس سنوات من التحمل. بعد ذلك، يستسلم الناس. أنا أرى خمس سنوات من الإنسانية والملل واللا جدوى. أبقي نظري دائماً على الكتاب الأصغر عمراً، وبدأت أرى النوع نفسه من اليأس يتشكل، والرغبة نفسها بقول إلى الجحيم لكل ذلك، سأخرج من هنا. ثمة مشكلة أيضاً في دعم الحكومة. ووصلنا إلى نوع من التفكير الآلي ومفاده أن الحكومة تشغل نفسها بالإسكان والطعام وأي شيء. هناك أولويات دائماً من حيث الصرف الصحي والكهرباء. لو أن الحكومة فقط تستطيع تشكيل فكرة بأن أي إنسان حساس يحتاج ليس فقط إلى المياه الجارية، وإنما أيضاً لكتاب في يده، ولوحة على الحائط أيضاً. هذا هو نوع الحكومة الذي تخيلته في الكاريبي عندما كنت في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة من العمر. في عمر الخامسة والخمسين، رأيت فقط زيادة في الفساد، زيادة في الأنانية، والأسوأ من ذلك، تحظى الفنون بنوع سطحي من الخدمة. أشعر بمرارة كبيرة إزاء التمسك الأعمى بالتقاليد في الكاريبي. من الصعب رؤية أناس يرتكزون على نقطة قوة واحدة فقط وهي ثقافتهم. ربما ترينيداد تعتبر المثال الأوضح للثقافة التي أنتجت آلاف مؤلفة من الحرفيين في الكرنفال. ويحظى الكرنفال الآن بدعم الحكومة، ولكن هذا نوع موسمي من التفكير. أنا أتحدث عن شيء متوطن ومتجذر بشكل أكبر، ويرتبط بشكل عضوي أعمق بفكرة الكاريبي. ونظراً إلى أننا كنا مستعمرات، فقد ورثنا كل شيء، والشيء الذي اعتدنا التفكير فيه على أنه إمبراطوري، تم تكراره بسبب عنادنا نحن وغباؤنا وعمانا.

هيرش:

“البرولوغ” الذي كتبته في مسرحية “حلم على جبل القردة” فجرت أيضاً التسليع البدائي المدعوم من قبل الحكومة للثقافة الشعبية. وتجلى أحد المواضيع التي طرحتها في كل من شعرك ومقالاتك في الأثر السلبي للسياحة على الهند الغربية “ويست آنديز”. هل لك أن تتناول ذلك؟

والكوت:

في فترة ما، نظرت إلى السياحة كخطر داهم على الثقافة. أما الآن فقد تغيرت نظرتي، ربما لأنني آتي إلى هنا في أغلب الأحيان، وأنني نفسي ربما وبشكل حَرفي سائح، جاء من أميركا. ولكن الثقافة معرضة للخطر فقط في حال سمحت لنفسها بأن تكون في بؤرة الخطر. للجميع الحق بالمجيء خلال الشتاء والاستمتاع بالشمس. لا يملك أحد الحق بمعاملة أي شخص على نحو سيء، ولذلك فلا أعتقد بأنني لو كنت أمريكياً فإن شخصاً ما يملك الحق في أن يقول لي، رجاءً لا تأتِ إلى هنا لأن هذا الشاطئ ملك لنا، أو أي شيء من هذا القبيل. وخلال الفترة التي أتحدث عنها، كان الخنوع بالتأكيد جزءاً من الصفقة برمتها، كان يتعين على النوادل الابتسام، وكان علينا فعل هذا وهلم جرا. كانت السياحة فعلياً مجرد امتداد لثنائية سيد/خادم. ولا أعتقد أن الأمر الآن على هذه الشاكلة. لدينا هنا جيل نجح في تقوية نفسه ليتجاوز ذلك. في الواقع، قد يتجاوز الأمر التوازن، وثمة تجهم وحسن ضيافة إزاء الأشخاص الذين يحلون ضيوفاً عليك. يمكن للأمر أن يجنح بعيداً جداً أيضاً. لكن مجدداً، لا يكفي وضع فرقة نحاسية وتواجد أناس يقضون وقتاً ممتعاً في الفنادق، وربما تقديم عرض بسيط في مكان ما لجعلهم يشعرون بما يعتقدون أنه راحة بال وسعادة ولا مبالاة وغيرها. إن كان هذا الرأي هو الرأي المكون لدى الحكومة أو الثقافة، عندها يستحق الاستهجان. ولكن إن كانت السياحة تقوم بشيء أكثر تجذراً من حيث الفنون، من حيث كتّابها، ورساميها، ومؤديها، وإن كان هناك فخر أكبر بذلك، وليس نوعاً من الأشياء التي نراها وتظهر شباناً يدورون حول المدينة والملل يقتلهم، ويأملون بحدوث شيء ما… لست من النوع الذي يقول إنك لا تستطيع فعل الأشياء لنفسك لأنني حتماً قضيت عمري بأكمله في المسرح الكاريبي وحتماً سبعة عشرة عاماً مضنياً في ورشة العمل، وأقول- أجل، انهض وقم بالأمر بنفسك وتوقف عن الاعتماد على الحكومة. ولكن هناك نقطة ما، يتعين عليك فيها الالتفات إلى الوضع والقول، انظر يا هذا، إن الوضع سخيف. أنا أدفع الضرائب المستحقة علي، أنا مواطن. ليس لدي متحف، وليس عندي مكتبة جيدة، وليس عندي مكان لأقدم فيه أدائي، وليس هناك مكان حيث يمكنني أن أرقص. هذا إجرامي. إنه تأجيل للشيء نفسه الذي قلته حول الهند الغربية وحول تعرضها للمصادرة والضمور على يد عقلية البرجوازية الصغيرة الموجودة في المدينة والتي تم تبنيها من قبل فكرة الكريولية Careole للحياة، والتي تقضي ببساطة بالاستمتاع بوقت لعين جيد وهذا كل ما في الأمر، بشكل أساسي. أقصد أن هذا هو الجانب الأسوأ في حياة الهند الغربية: قضاء وقت ممتع، نقطة انتهى.

هيرش:

ما المآخذ التي لديك ضد الفلكلوريين وعلماء دراسة الإنسان؟ ينظر البعض إليهم على أنهم مجموعة تحظى باحترام فكري.

والكوت:

لا أثق بهم. فهم إما خجلون أو متكبرون جداً. يمكنهم إسداء خدمة جيدة لو أنهم فقط يصمتون ويتنحون جانباً. ولكن عندما يبدأون بإخبار الناس عمن يكونون وماذا يفعلون، فإنهم مروعون. لقد حضرت ندوات حيث كان هناك أناس من بين الجمهور ينطبق عليهم الكلام الذي يتحدث عنه الفلكلوريون، وقد أصابهم الذهول جراء نظرياتهم.

هيرش:

تختم إحدى أشهر قصائدك الأولى “صرخة بعيدة من إفريقيا” “A Far Cry from Africa،” بسؤال: “كيف يمكنني أن أحيا إن ابتعدت عن إفريقيا ؟” ولكن، بحلول العام 1970، تمكنت من كتابة أن “الانبعاث الإفريقي أفضى إلى بهاء آخر”. وأنه “بمجرد نفقد رغبتنا بأن نكون من البيض، نطور توقاً بأن نصبح سوداً، قد يختلفا، إلا أنهما مسيرتان”. كما تجزم بأن ادعاء المرء بأنه إفريقي ليس مما نرثه بل مما نورّثه. “فاتورة ندفعها لقاء وصولنا عبيداً”. هذه مسائل مثيرة للجدل. ما الشعور الذي ينتابك حالياً حيال العلاقة بين كتاب الهند الغربية وإفريقيا؟

والكوت:

ثمة مهمة تقع على عاتق كل ابن ليمسي رجلاً لذاته. ويخدم الابن نفسه من الأب. ويرفض الكاريبي غالباً قطع الحبل السري لمواجهة وضعه الخاص. ولذلك فالكثير من الناس يستغلون فكرة أن إفريقيا تقع خارج النوع الخاطئ من الاعتزاز والنوع الخاطئ من المثالية البطولية. ما اعتدت فعله، وقد دفعت ثمناً فادحاً جراءه وتعرضت للكثير للنقد، هو محاولة الإشارة إلى أنه يوجد خطر كبير في العاطفية التاريخية. ونميل غالباً لهذا بدافع المعاناة والعبودية. ثمة إحساس بتخطي الجزء المتعلق بالعبودية، والعودة مباشرة إلى نوع يشبه عظمة جنة عدن، صيد الأسود، وأشياء من هذا النوع. بينما ما أقوله هو تقبل فكرة العبودية، إن كنت قادراً على ذلك، من دون مرارة، لأن المرارة ستؤدي إلى موت التفكير بالأمور التي تتعلق بالانتقام. ويعتمد الكثير من الفتور الكاريبي على هذا التجهم التاريخي. إنه قائم على شعور بـ “انظر ما الذي فعلته بي”. حسناً “انظر ما الذي فعلته أنت بي”. هذا تصرف غير ناضج، صحيح؟ وكذلك “انظر ما الذي سأفعله بك” خطأ أيضاً. فكر في اللا شرعية في الكاريبي! يمكن لقلة من الناس أن تزعم بأنها وجدت أسلافها بطريقة متسلسلة. الوضع برمته في الكاريبي هو وضع غير شرعي. إن اعترفنا من البداية أنه لا يوجد عار في تلك الحالة التاريخية المتمثلة في إنجاب الأولاد بطريقة غير شرعية، عندها يمكننا أن نصبح رجالاً. ولكن إن واصلنا تقطيب الجبين والقول “انظر ما الذي فعله مالكو العبيد، وهلم جرا، فلن ننضج أبداً. وفي الوقت الذي نجلس فيه ونفكر بأمور محزنة، أو نكتب شعراً أو روايات كئيبة تمجد ماضٍ غير موجود، فسيمر الوقت ويمضي. نواصل في مزاج واحد، وهذا ما يسود الكتابة الكاريبية: ذلك النوع الذي ينكأ جرحاً قديماً ويفركه. ليس لأن المرء يود أن ينسى، بل العكس، تقبل الأمر كما يقبل أي شخص آخر الجرح كجزء من جسده. ولكن هذا لا يعني أن تظل تعتني به طيلة حياتك.

هيرش:

مجموعتك الشعرية “المسافر المحظوظ” The Fortunate Traveller الذي كتبته مليء بالقصائد التي تجري في مجموعة كبيرة من الأماكن. عنوان القصيدة نفسه يشرح أزمة مسافر محظوظ يذهب من بلد نامٍ إلى آخر. وفي قصيدة “الجنوب والشمال” “North and South”، كتبت “أقبل وظيفتي/ كمحدث نعمة استعماري في أفول الإمبراطورية/ قمر صناعي وحيد متشرد يدور”. هل أخلى المنبوذ المكان للمسافر؟ هل لا تزال تشعر بالصراع بين الوطن وخراجه؟

والكوت:

لم أشعر قط بالانتماء إلى أي مكان سوى إلى سانت لوسيا. الثبات الجغرافي والروحي هناك. لكن ثمة واقع هنا أيضاً. في فترة العصر من هذا اليوم، سألت نفسي إن كنت أود البقاء هنا لبقية عمري لو كان هناك فرصة أمامي للمغادرة. الجواب في الواقع هو، أعتقد، كلا. لا أعرف إن كنت حزيناً لهذا. يتحتم على المرء الشعور بالفرق بين هذه المنازل الفقيرة المظلمة والصغيرة جداً، الناس في الشوارع، وبينك أنت، لأن أمامك الفرصة دائماً لأن تستقل طائرة وتمضي. بشكل أساسي أنت مسافر محظوظ، زائر، ويتجلى حظك الجيد في قدرتك الدائمة على المغادرة. ومن الصعب تخيل أنه يوجد أناس حولك غير قادرين وعاجزين عن المغادرة، سواء بسبب المال أو بسبب وجود أي نوع من الارتباطات. وبرغم ذلك، كلما زاد عدد المرات التي أجيء فيها إلى هنا، كلما تضاءل شعوري بأني ضال أو منبوذ عائد. ومن الممكن أنه مع التقدم في العمر، تصبح مسجوناً أكثر بماهية حياتك ومن أين أتيت وما هي الأشياء التي تسيء فهمها والأشياء التي كان يتعين عليك فهمها وما الذي تحاول فهمه وهكذا. سأواصل عودتي لأعرف إن كان ما كتبته لا يتجوز التجربة الحقيقية للشخص الذي يقف بجانبي في الحافلة- ليس من حيث التحدث بدونية إلى ذلك الشخص، وإنما مشاركة ذلك الشخص ألمه وقوته أمر ضروري في تلك الظروف القاسية المثيرة للشفقة حيث يجد الناس أنفسهم يتبعون دمار الاستعمار.

هيرش:

ما الذي دفعك لتجزم، كما فعلت في قصيدة “منتصف الصيف” Midsummer، بأن “لعن مكان ولادتك هو الشر الأخير”؟

والكوت:

أعتقد أنه الشر الأخير. أعتقد أن الأرض التي جئت منها هي أمك، وإن انقلبت على أعقابك ولعنتها، فإنك بذلك تلعن والدتك.

هيرش:

كتبت العديد من القصائد عن مدينة نيويورك، وبوسطن ونيو إنجلاند القديمة وجنوب الولايات المتحدة. وأفكر على وجه الخصوص بالقسم الأول من “المسافر المحظوظ”The Fortunate Traveller حيث تحمل إحدى القصائد عنوان “ملهمة أميركية” “American Muse”، فيما تؤكد قصيدة أخرى “أنا أقع في غرام أمريكا”. ما هي مشاعرك إزاء العيش في الولايات المتحدة؟ هل تعتقد أنك تأمركت بطريقة ما؟

والكوت:

إن كان الأمر كذلك، طوعاً. لا أعتقد بأنني تعرضت لغسيل دماغ. لا أعتقد أنني وقعت تحت إغواء الجوائز والمكافآت. لقد كانت أمريكا سخيّة معي إلى حدٍ كبير- ليس بمعنى الإحسان على وجه الدقة، لقد استحقيت بجدارة ذلك السخاء. ولكنها قدمت لي الكثير من المساعدة. الشيء الحقيقي الذي يمكن أخذه بعين الاعتبار هو إن كان ذلك المقطع الشعري المتعلق بالوقوع في حب أمريكا حقيقياً. لقد قلت هذا لأنني كنت مسافراً بالحافلة من مكان إلى آخر، على طريق سفر طويل أبحث عن مناظر طبيعية في أمريكا. إن وقعت في حب المناظر الطبيعية لمكان ما، فإن الشيء التالي الذي ستحبه هو الناس، صحيح؟ المواطن الأميركي العادي ليس مثل المواطن الروماني العادي أو البريطاني العادي. الأميركي العادي لا يفكر بأنه أو بأنها تملك العالم، الأمريكيون لا يمتلكون نزعة إمبريالية في رؤسهم. لقد لمست نبلاً وكياسة فيهم. ولديهم مثلاً عليا. لقد سافرت على نطاق واسع في كافة أرجاء أميركا، ورأيت أشياء في أميركا لا أزال أؤمن بها، أشياء أحبها كثيراً.

هيرش:

ما هي مشاعرك إزاء بوسطن، التي أطلقت عليها اسم “مدينة المنفى”؟

والكوت:

لطالما قلت لنفسي إنه علي التوقف عن استخدام كلمة منفى. المنفى الحقيقي يعني فقداناً كاملاً للوطن. جوزيف برودسكي في المنفى، لست بالفعل في المنفى. يمكنني الذهاب إلى وطني. إن أخذنا بعين الاعتبار التوتر والحنين الكافيين، يمكنني دائماً الحصول على المال الكافي للعودة إلى بلدي وأجدد نشاطي مع البحر والسماء وأي شيء. لقد كنت عدائياً بشدة إزاء بوسطن في البداية، ربما لأنني أحب نيويورك. وعلى سبيل المزاح، كنت دائماً أقول إن بوسطن يجب أن تكون عاصمة كندا، لكنها مدينة  تحبها تدريجياً. والمكان الذي أعيش فيه مريح للغاية. إنه قريب من الجامعة، وأعمل جيداً هناك، وأستمتع بالتعليم إلى حدٍ كبير. لا أفكر في نفسي بأن لدي وطنين، لدي وطن واحد، لكن مكانين.

هيرش:

كان لروبرت لويل تأثير كبير عليك. أفكر بقصيدتك التذكارية “آر تي إس إل” “RTSL”، بالإضافة إلى قصيدة “منتصف الصيف” حيث جزمت بأن “غزارة أعمال كال تطارد الصفوف التي أدرسها”. هلاّ حدثتنا عن علاقتك مع لويل؟

والكوت:

كان لويل وإليزابيث هاردويك في رحلة إلى البرازيل وتوقفا في ترينيداد. أتذكر أنني التقيتهم في فندق كوينز بارك وقد كنت مرتبكاً للغاية حتى أنني اعتقدت أن إليزابيث هاردويك هي إدنا سانت فنسنت ميلاي. فقالت: “لم أصبح بذلك العمر بعد”. لقد كنت مذهولاً بالفعل. ومن ثم أصبحنا أصدقاء مقربين. اصطحبناهما أنا وزوجتي مارغريت إلى الشاطئ. ابنتهما، هاريت، كانت هناك. أذكر أنني جئت إلى هذا الشاطئ مع لويل. أعتقد أن ابنته وزوجته قد خلدتا إلى النوم. كان لدينا فوانيس غازية. وتحدثنا عن المحاكاة وأذكر أنه أطلعني على محاكاته لهوغو وريلكه وسألني عن رأيي. سألته إن كان هناك مقطعين شعريين قد أخذهما من ريلكه، وقال: “كلا، هذا شعري”. شعرت بالإطراء الكبير بأن يسألني هذا الرجل اللطيف صاحب السمعة العظيمة عن رأيي، لقد كان شعوراً دافئاً. فعل هذا مع الكثير من الناس، بطريقة صادقة ومتواضعة ومباشرة إلى حدٍ بعيد. أحب هذه الذكرى كثيراً. عندما عدنا إلى نيويورك، أقام كال وليزي حفلة كبيرة على شرفنا وبحضور العديد من الناس، وأصبحنا مقربين جداً. كان كال رجلاً كبيراً من حيث غزارة الإنتاج ونبيلاً إلى حدٍ كبير، شخص عاطفي، وخفيف الظل للغاية. لا أعتقد أن أياً من السير الذاتية قد صورت بالضبط كم كان نبيلاً ومسلياً وجميلاً عندما كان هادئاً. احتفظ بصورة لابني بيتر وهاريت لمدة طويلة في محفظته، وكان يخرجها ويظهرها لي. كان مندفعاً بشكل جميل. ذهبت في إحدى المرات لزيارته وقال: “دعنا نتصل بآلن غينسبرغ ونطلب منه القدوم إلى هنا”. إنه أمر غالٍ على قلبي كثيراً ومن الصعب جداً علي أن أفكر به وبغيابه. بطريقة ما، لا أستطيع فصل عواطفي تجاه لويل عن تأثيره علي. أفكر في شخصيته ونبله، البداهة التي كانت جزءاً من معرفته. أحببت انفتاحه وقبوله التأثر بالآخرين. لم يكن شاعراً من النوع الذي يقول أنا شاعر أميركي، سأكون خاصاً، وسيكون لدي صوتي الخاص الذي يختلف عن صوت أي شخص. كان شاعراً من النوع الذي يقول سأنهل من كل شيء. كان لديه نوع من الخيال متعدد الوجوه، لم يكن يشعر بالحرج من الاعتراف بأنه تأثر حتى وهو كهل بوليام كارلوس وليامز، أو بفرانسوا فيلون أو ببوريس باسترناك، جميعهم في الوقت ذاته. كان هذا رائعاً.

هيرش:

ماذا عن التأثير الشعري المحدد؟

والكوت:

من الأشياء التي قالها لي: “يتوجب عليك أن تظهر جوانب أكثر من نفسك في قصائدك”. كما اقترح الاستغناء عن الأحرف الكبيرة في السطر المميز، واستخدام الأحرف الصغيرة. قمت بهذا وشعرت بأنني متجدد للغاية، وجعلني هذا مسترخياً. كان اقتراحاً بسيطاً، ولكنه واحد من الأشياء التي يمكن لشاعر عظيم أن يخبرك إياها ويكون استثنائياً- افتتاحية صغيرة. باعتقادي أن تأثير لويل على الجميع يكمن في صدقه الوحشي، محاولته اضفاء نفوذ خيالي لم يكن موجوداً من قبل على الشعر، كما لو أن حياتك كانت فصلاً من رواية- ليس لأنك بطل الرواية، وإنما لأن بعض الأشياء التي لم تكن في القصائد، بعض التفاصيل العادية السخيفة جداً، يمكن لها أن تكون تنويرية. ويؤكد لويل على التفاهة، بمعنى أن الإبقاء على التفاهة كما هي وجعلها في الوقت ذاته شعرية لا يزال إنجازاً عظيماً. أعتقد أن هذا من أعظم الأشياء التي قام بها، من حيث مباشرته ومواجهته للأمور العادية.

هيرش:

هل تود الحديث عن قصة إلقاء باكورة أشعارك في الولايات المتحدة؟ لا بد وأن سماع مقدمة لويل الغارقة في المديح كان أمراً مجزياً.

والكوت:

حسناً، لم أكن أعرف ما الذي قاله لأنني كنت وراء الستارة، أعتقد أنني ألقيت الشعر في متحف غاغينهايم. كنت أقيم في فندق تشيلسي، وشعرت في ذلك اليوم بأنني محتاج لقص شعري، ولذلك قمت بتصرف أخرق وذهبت إلى مكان قريب من الفندق وجلست. أخذ الحلاق الموس الكهربائي وقدم لي إحدى أغرب قصات الشعر الجريئة التي حظيت فيها بعمري كله. أثار حنقي لكن لا يمكنك استعادة شعرك كما كان، حتى أنني فكرت في ارتداء قبعة. لكني ذهبت على أي حال، وبدا رأسي شنيعاً. كنت قد قطعت شوطاً في الإلقاء- كنت أقرأ قصيدة “صرخة بعيدة من إفريقيا”- عندما علا فجأة صوت تصفيق من القاعة. لم أسمع من قبل أبداً تصفيقاً لأحد يلقي الشعر. لم أكن أعتقد أنني قدمت إلقاء شعرياً رسمياً من قبل، وفكرت لسبب ما أن التصفيق يدعوني للتوقف عن الإلقاء، وأنهم اعتقدوا أنني انتهيت. لذلك ترجلت عن المنصة. وانتابتني حالة من الصدمة. في الواقع، نزلت وأنا يخالجني شعور بأن التصفيق كان طريقتهم بالقول، حسناً، شكراً، لقد كان أمراً لطيفاً. وطلب مني شخص مسؤول عن الأمسية العودة وإنهاء القراءة، لكنني رفضت. لا بد وأنني بدوت مغروراً للغاية، ولكني شعرت أنني لو عدت إلى المنصة، فسيبدو الأمر تعجرفاً. وعدت إلى ترينيداد. ونظراً إلى أنني لم أسمع تقديم لويل، فقد طلبت من شخص ما في المبنى الاتحادي أن يزودني به، حيث أنهم يؤرشفون الأشرطة الإذاعية من برنامج صوت أميركا. قلت إنني أرغب بسماع شريط لويل، وقال الشاب: “أعتقد أننا قمنا بمحيه”. واستغرق الأمر مني بضع سنوات لأسمع بالفعل ما قاله كال، وشعرت بإطراء غامر.

هيرش:

كيف أصبحت صديقاً لجوزيف برودسكي؟

والكوت:

حسناً، من سخريات القدر أنني التقيت برودسكي في جنازة لويل. ذهبت بصحبة روجر ستراوس وسوزان سونتاغ إلى بوسطن لحضور الجنازة. انتظرنا جوزيف في مكان ما، ربما في المطار، ولكنه تأخر لسبب ما. خلال مراسم التأبين، وبينما أنا جالس على أحد المقاعد، جاء رجل وجلس بجانبي. لم أعرفه. عندما وقفت كما تمليه المراسم، نظرت إليه وفكرت، إن لم يبك هذا الرجل، فأنا لن أبكي أيضاً. بقيت أسترق النظر إليه لأرى إن كان هناك شيئاً ما يشي بأنه سيبكي، لكن وجهه اعتلته نظرة صارمة جداً. ساعدني هذا في كبح دموعي. بالطبع كان هذا الشخص برودسكي. التقينا لاحقاً، وذهبنا إلى منزل إليزابيث بيشوب، وتمكنت من التعرف عليه بشكل أفضل قليلاً. تطور الود بعد ذلك بشكل سريع جداً، وأعتقد أن الود كان دائماً موجوداً- من الصعب أن أحدد بالضبط العاطفة التي نمت حينها. أنا معجب بجوزيف وبصناعته، وشجاعته وذكائه. إنه مثال رائع على الشخص الذي يعد شاعراً متكاملاً، والذي لا ينظر إلى الشعر إلا على أنه عمل شاق جداً، ولإنجازه عليه بذل قصارى جهده. عمل لويل بجدٍ أيضاً، ولكن في حالة جوزيف، تشعر بأنه قد كرّس جلّ حياته للشعر. بمعنى يشابه تكريس أي منا حياته من أجل شيء ما أو يأمل بأن يكرّس حياته من أجله. إن صناعة جوزيف مثال أقدره حق تقدير.

هيرش:

متى أصبحت صديق شيموس هيني للمرة الأولى؟

والكوت:

قدم ألفريد ألفاريز مراجعة لكتاب شيموس، كانت مراجعة مزعجة للغاية- لنكن معتدلين في وصفها- وكان يصف هيني كشخص مدلل من قبل السلطات. ثمة دائماً في الأدب الإنجليزي شخص ما مدلل. أثارت المراجعة حنقي الشديد وأرسلت من خلال المحرر الذي أعمل معه ملاحظة إلى شيمون، واشتملت الملاحظة على تعبير خادش للحياء. فقط من باب التشجيع. احتسينا شراباً معاً لاحقاً في منزل أحدهم في نيويورك. وتطورت علاقتنا منذ ذلك الوقت. أقابله كثيراً عندما يكون في بوسطن في جامعة هارفرد. وأشعر بأنني محظوظ جداً لأن لدي أصدقاء مثل جوزيف وشيموس. نحن الثلاثة خارج التجربة الأميركية. شيموس إيرلندي، جوزيف روسي وأنا من الهند الغربية. ولا نخوض نقاشات حول من يكون الشاعر الرقيق والشاعر الصعب، من الشاعر الذي يكتب شعراً حراً، ومن ليس شاعراً، وكل هذه الأحاديث. من الجيد أن نكون على حافة هذه المشاجرة. نحن على حدود المشهد الأدبي الأميركي. يمكننا أن نطفو هنا بسعادة، دون أن نلتزم بأي نوع من المدارس الشعرية المحددة أو بأي شخص أو حماسة أو نقد.

هيرش:

بدا أسلوبك عبر السنوات أكثر وضوحاً ومباشرة، أقل بؤساً، أكثر طبيعية، وإلى حد ما أهدأ وأعنف في الوقت ذاته. هل هذا تقييم دقيق للأسلوب الشعري الذي اتبعته وأنت في أواسط العمر؟ لا يمكنني تخيل أن كتاباً مثل “منتصف الصيف” قد كتبه الشاب ديريك والكوت.

والكوت:

اختلف أسلوبي الشعري بالتأكيد. عندما أنهيت “حياة أخرى”، شعرت وكأنني كنت أكتب قصائد قصيرة، تهتم بالقضايا الجوهرية بشكل أكبر، تصيب بيت القصيد، أشياء كانت مككثفة. لم تكن تناسب مقايس كتاب ضخم وغير ذلك. تمضي متأرجحة، كحركة البندول. في قصيدة “منتصف الصيف”، شعرت وللمرة الأولى أنني لا أرغب بكتابة قصائد أخرى، بالرغم من أن هذا الشعور يبدو متعجرفاً. كل ما شعرت به هو أنني كنت أجهد نفسي. كنت سأركز بشكل صرف على محاولة تطوير رسمي. وخلال الرسم، كانت مقاطع من الشعر تخطر على بالي. كنت على وشك تدميرها تدميراً ذاتياً. فقلت، حسناً، سأدونها… ولكن بحماسة غير شعرية. إن لم ينجح الأمر فسأنساه تماماً. وما حدث باستمرار هو أن الأبيات كانت تأتي على كل الأحوال، ربما بسبب ذلك الاستفزاز بالذات، وكنت بعدها أقوم بصياغتها بشكل اعتباطي على طريقة الكولاج، لأجد أنها تأخذ شكلاً فضفاضاً نوعاً ما. وتحاول لا محالة بالطبع جمع الأجزاء، كما في الحياكة. كنت أحاول فعل شيء ما، أعتقد أن هذا كان ضد المخيلة، لم يكن الشعر يأتي على شكل متسلسل أو غنائي أو سلس أو موسيقي- وإنما على شكل غير موسيقي. بالنسبة لقصيدة، إن قمت بإعطائها شخصية محددة، هذا هو الجزء الأكثر تشويقاً- لتشعر بأنها أصبحت بلا موسيقا. تصبح المفردات تحدياً أكبر، والوزن ممتعاً أكثر، وهكذا. لذا ما حدث هو أنه من خلال الرغبة في عدم الكتابة، أو الرغبة بكتابة قصيدة ضد فكرة كتابة القصائد، أصبح الأمر خصباً أكثر ومتناقضاً على نحو أكبر ومعقداً أكثر. تدريجياً، بدأ الكتاب بالبزوغ. وعلى نحو لا مفر منه، كان من غير الممكن الإبقاء على ما حولي مبعثراً من دون أشكال ملتئمة، شذرات أو غير ذلك. بدأت بلملمة كل شيء وجمعه- لأحافظ على ما شعرت بأنه جدير بالبقاء. فكرت، حسناً، سواء كان هذا أمراً عادياً أم لا، فإنه يمتلك كامل الحق لأخذه بعين الاعتبار كشيء أكثر عظمة. وهذا باعتقادي ما حدث في كتاب “منتصف الصيف”.

هيرش:

ما شعورك إزاء نشر قصائدك المختارة؟

والكوت:

تدرك حقيقة أنك بلغت مرحلة معينة في حياتك. كما تدرك أنك خنت مخيلتك إلى درجة ما، وخنت طموحاتك. هذا وقت صعب جداً بالنسبة لي. أنا خائف للغاية. ليس لأنه يراودني شعور يماثل شعور  سالنجر حيال الهرب من الشهرة. إنها الرغبة حقاً برؤية نفسي أبدو بهذه الطريقة. لا أعتقد أن هذا ما أراده الصبي الذي أعرفه على الإطلاق- الصبي الذي بدأ كتابة الشعر، ليس سعياً للثناء والشهرة. الأمر مربك. أتذكر قول ديلان توماس في مناسبة ما إنه أحب حياته أكثر قبل الشهرة. كل ما أستطيع قوله هو التالي: أعكف على كتابة كتاب آخر وهو على وشك الانتهاء، وآمل أن يكون تعويضاً عن جميع النواقص الموجودة في القصائد المختارة، شيء ما بمثابة إصلاح الضرر الذي نجم عن القصائد المختارة.

*****

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: