الرحلة الأخيرة
العدد 242 | 17 آذار 2019
تيم الكردي


لن تفوتني هذه الرحلة أيضاً.

كانت واحدةً من الليالي التي يبدو العالم وكأنه مكوّن من لبّ تحيطه ستائر سوداء رقيقةٌ متتاليةٌ تكفيه حتى آخر فردٍ سيلقي نظرة عليه، القمر المتواري خلف مكانٍ ما في التّلال أو الغيوم، مكانٌ يمنعني من إيجاد درجةٍ أكثر قسوةً من السّواد الليلة، وفي أماكن متراميةٍ أعتقد أنّ الكلاب البريّة كانت تحتفي به، نباحها كان أكثر شاعريةً من الكلاب الجّائعة، كان فرحاً بظهور ما هو أكبر منّا في العالم.

عادةً ما كان السّير في مثل هذا الوقت من الليل يجعلني أشعر بأن هناك من قام بفتح مرطبانٍ من ديدان الأرض داخل رأسي، دودةٌ لكلّ ذكرى سيّئةٍ، تصعد تباعاً ببطءٍ إلى الخارج، وتبدأ بالزّحف داخل رأسي بلزوجةٍ مرهقةٍ، لأبدأ أنا بالزّحف خارج إحساسي بالوقت الذي يمرّ على ترامي خطواتي فوق الطريق، لكن هذه المرّة كان الأمر مختلفاً، هذه المرّة خرجت للبحث.

لا تحتاج النظر لو أنك عرفت ذلك الطريق التّرابيّ بالشّكل الذي عرفته فيه أنا، كما الأسطورة الحديثة التي تروي عن معرفة الحمير لطرق عودتها إلى منزلها الذي كبرت فيه، كان ذلك الطريق ينتظرني.

 كلّ صورةٍ تخرج من ذاكرتي فجأةً تذكّرني أنّ الأشياء لا تختفي بمجرد أن تتوقف عن النظر إليها، بل ربما الأشياء تكون عندما تنظر إليها وقد لا تتلاشى بعدها أبداً، ثمّ هناك مزيج الروائح الذي يكوّن ما تبتلعه رئتاك داخل منزلك، مزيجٌ يجعلك تتأكّد من أنّك تقيم في بقعتك من الوجود، هذا أمرٌ سيتغيّر من الآن إلى السّطر الأخير من قصّتي، وحتّى الآن لم أنجح في تجاهله تماماً، يمكن أن نجد الدرجة صفر للكثير من الأشياء، لكن من المؤكّد أنّه لا يوجد درجة صفرٍ للرائحة هنا.

أنفاسٌ برائحةٍ قويةٍ في أسفل الخيمة وبالقرب من شحمة أذني، تتسلّل منها رائحة التبغ غالباً، كلّ من همس في مسامعي كان يطمئنني أنّ رحلة الفقد هي الجزء الأصّعب من الرّحلة، “بعدها ستعتاد الأمر إلى حدٍّ ما”، الآن كان من المفيد أن أتذكّر أنفاسهم السّاخنة على أذني بينما البرد يقبض جسدي إلى داخلي، أمّا في الليالي التي كان الفقد فيها مؤلماً حقّاً، فإنّني كلّ ما أعدت اكتشاف وحدتي أبحث بنصل السّكين عن مصدر الألم فيّ، ولكنّني فجأةً أدركت أنّني أشعر بالألم في أقصى نقطةٍ داخلي، عظامي غارقةٌ في حزنها، لا يمكنك استئصال عظامك، حينها لم يكن من المجدي أن أتذكّر أياً من كلماتهم، هذه المرّة خرجت للبحث وأنا أحمل مجرفة بيدي، اخترت أكثر الأوقات حلكةً لأعيش في الجانب الأكثر دفئاً من حزني.

ليلتها تحرّك القمر أسرع من أي وقتٍ مضى، ظهر من خلف المكان الذي اختبأ فيه إلى قلب السّماء، وعوضاً عن لون الزبدة كان لونه أزرق مبتذلاً كما لو أنّه مصباح نيون لملهىً رخيصٍ، أمّا في الأسفل حيث يمكث الباب الوهميّ للمقبرة بين أشجارٍ كثيفةٍ في أسفل الهضبة، وفي النّقطة التي يسقط القمر فيها على الطّريق كانت بداية حكايتي.

في تلك النّقطة كان سوادٌ أقصى ينتظر، كأنّها نقطة عماءٍ للضوء، أو نقطةٌ للعماء داخل عقلي، لم أكن أملك طريقاً مختلفاً للعبور، رحلتي للبحث كانت تمرّ من هناك بالضّرورة، أغمضت عينيّ لأتأكد من أنّني أرى الأمر بشكلٍ صحيحٍ، وبعدها حين حاولت فتح عينيّ كنتّ في الداخل.

لم يكن عماءً اعتياديّاً، بل كأنّك تسبح داخل فضاءٍ أسوداً شديد اللزوجة بينما تعجز عن القيام بأيّ حركةٍ، لا شيء أمامك إلّا الانتظار، في قلب العماء ظهرت أمّي المتوفّاة وقد عادت إلى شبابها، ظهرت بحجمٍ هائلٍ أمامي كأنّني أرى المشهد على شاشة سينما أكبر من أيّ شاشةٍ قد رأيتها، تجلس على كنبتها المعتادة وقد أرخت وجهها على راحة يدها، كانت تنتظر حدوث أمرٍ ما، أو لا تبالي ببساطة، مرّ الدّخان عبر صورتها، رائحةٌ لأخشابٍ خضراء تصارع للاحتراق، لم أرَ الأخشاب لكن شعرت بالرّائحة تغلّف وجهي بالكامل، عندما خطر على بالي أن الرّائحة قد تخنقني في هذا الفراغ بينما لست قادراً على أيّ فعلٍ، بدا كأنّ أحدهم قد أعلن نهاية المشهد، عدنا إلى الدرجة صفر.

بدأت هذه المرّة بسماع صوتٍ لسعالٍ أعرفه جيداً، تكرر السّعال مرّةً بعد أخرى، كنت دائماً ما أحاول أن أتلافى سماع صوت السّعال فهو يجعلني أشعر بضيقٍ لا حدود له، لكنّني هائمٌ هنا بلا معنىً لي، أنا مجرد مشاهدٍ لهذا العماء الغريب، بدأ المشهد هذه المرّة برؤيتي لطربوشٍ أحمرٍ في قلب السّواد يطير في الهواء ثم ظهر معلّقاً على بقعةٍ صغيرةٍ من الحائط، عندما بدأ صوت السّعال بالغياب ظهر صوت حركةٍ فوق سريرٍ معدنيٍّ، بعدها انتقل إلى نظري الجزء السّفلي من السّرير، وحركة أقدام رجلٍ بالقرب منه، حين تحرّك الطربوش عن الحائط كانت اليد التي التقطته هي يد والدي وظهر وقد ارتدى بدلته الرّسمية التي يذهب فيها إلى العمل، هذه المرّة كان يحدّق داخلي بوضوحٍ، كنت قطعةً ساكنةً من المشهد الذي أراه، مدّ يده إلى بقعةٍ مظلمةٍ لتظهر قبضة باب، عندما تحرّكتْ كان باباً ضخماً من الضوء قد انفتح للتّو، أشار بعكازه باتّجاه الباب، تحرّك جسدي وحده إلى بقعةٍ هي مقلوب العماء الذي كنت فيه.

بينما الضّوء يخفت ببطءٍ كانت صحراءٌ ممتدّةٌ تترامى أمامي، صوت صيحاتٍ تتداخل بعبثيّةٍ هائلةٍ، يتّضح منها صوت رجلٍ أكثر جهوريةً من كلّ الأصوات ينادي إليهم بالتحرّك إلى الأمام، ومن حولي أقدامٌ ترتدي أحذيةً عسكريّةً تتحرك بعشوائيّةٍ، يبدو أنّه لا أحد يدرك أين الأمام في هذا المدى الذي لا يمكن أن تجد نقطةً مميزةً فيه، وبينما أرقد في وسط كلّ هذا بدأت أصوات الرصاص تنطلق من بعيدٍ، حينها أدركت أنّ لمرتدي هذه الأحذية وجوهاً بلا ملامح بشريّةٍ تتهاوى على التّراب، وجوهٌ تشبه قمر الزبدة، كلّما تهاوى وجهٌ من حولي كان الضّوء يقلّ سطوعاً، كنت أدور على التّراب بلا أيّ قدرةٍ على التّحكم بنفسي أو التّوقف، الضوء ازداد خفوتاً بسرعةٍ كبيرةٍ، وبينما لم يبقَ الكثير من الرّؤية كانت آخر شرارةٍ للضوء تنطلق من بعيدٍ باتجاهي، شعرت بحرارةٍ هائلةٍ داخل رأسي، الأصوات انطلقت بقوّةٍ، لكن هذه المرّة من بعيدٍ، بدت كأنّها أصواتٌ لأشخاصٍ لم يدخلوا عالم الكلمات بعد، كانت الأصوات تقترب منّي ولكنها تقلّ حماساً، حينما شعرت بالأقدام تحيط بي أدركنا درجة الصّفر للصوت.

ومن جهة آخر شرارةٍ للضوء اشتعل فتيل شمعةٍ وحيدٌ، بدأت غرفة نومي التي تركتها للتّو تظهر من حول الشّمعة، وفي أقصى الغرفة عند النافذة التي تطلّ على السّفح الجّبليّ ظهرت زوجتي تجول بعينيها إلى الخارج و على الرغم من برودة الطقس الشديدة وقفت مرتديةً الفستان الصّيفيّ الذي كانت ترتديه عندما رأيتها للمرة الأولى في حياتي منذ ثلاثين عاماً ، كان ما يشبه الغيمة الصّغيرة تغطي الجّزء الأعلى من وجهها، تحرّكتْ باتجاه سريرنا، استلقت أسفل الغطاء الصّوفيّ، بدأَتْ بالبكاء الخافت، اعتدتُ هذا الصوت إلى أقصى حدٍّ على الرّغم من شعوري بالارتباك دوماً لبكائها، عادةً ما كانت تنتظر وقتاً على الوسادة عندما ترغب بترك نفسها تنجرف بنوبتها الهادئة من الدموع، – أعتقد – رغبةً منها في أن أكون نائماً، وقد أصبحتُ أتقن دوري بناءً على هذا الاعتقاد، كنت أتصرّف كما لو أنّي نائمٌ طالما اضطراب أنفاسها يصل إلى مسامعي، هذه المرة كان صوت بكائها يبدو وكأنّه نوطةٌ وحيدةٌ تتكرّر بانتظام، لا تنويع عليها، الصوت نفسه يعاد بلا نهاية، هذه الأشياء تفقد الكثير من قيمتها لنا عندما تتكرّر بانتظام، وبالفعل هذه المرة كنت أقلّ ارتباكاً، وبإحدى اللحظات من استغراقي هذا خرجتْ نقاطٌ حمراء تتطاير كما الفراشات من أسفل الغطاء الصوفيّ، رأيت اللقطات تتتابع بسرعةٍ مضاعفةٍ عدّة مراتٍ كما لو أنّ أحدهم عبث بالزّمن، ليلقيني حيث يجب أن أكون، في أعلى الهضبة بين القبور التي لا تحوي أسماءً، تحرّكتْ النقاط الحمراء إلى أحد شواهد القبور وهبطت عليها، لحظتها وصلني أول خيطٍ من أشعّة الشّمس من خلف التلال، لم أكن أحمل مجرفةً بيدي، لكنّني منذ ذلك الوقت أكرر على مسامعي أنّني وجدت ما كنت أبحث عنه، منذ ذلك الوقت عرفت أين يرقد تراب ولدي.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية.