الديناصورات
العدد 258 | 17 تموز 2020
إيتالو كاليفنو


ما زال فناء الديناصورات بطريقة سريعة قضيّة غامضة. فقد تطوّروا وكبروا خلال العصر الترياسي والجوراسي، حتّى إنّهم سيطروا مدّة 150 مليون سنة على القارّات جميعها دون منازع. لكنّهم ماتوا جميعهم في نهاية ذلك الزمان، ربّما لأنّهم كانوا غير قادرين على التلاؤم مع تغيّرات الطقس والمرعى التي جرت خلال العصر الطباشيريّ.

ثمّ أكّد كفوفاغ قائلاً: – لم أنجُ من بينهم إلّا أنا، لأنّي كنت ديناصوراً أيضاً خلال زمن معيّن، ولنقل على مدى خمسين مليون سنة تقريباً، ولست نادماً على هذا، وخاصّة أنّ الديناصور كان يشعر وقتها أنّه في الجانب الصحيح وأنّه كائن محترم.

ثمّ تغيّرت الأحوال، ومن غير المجدي أن أخبركم بالتفاصيل، عندها بدأت جميع أنواع المصائب تتوالى، من هزائم، وأخطاء، وشكوك، وخيانات، وأمراض طاعون. بينما بدأت مخلوقات جديدة تنشأ على الأرض، لكنّها كانت من أعدائنا. كانوا يهاجموننا من جميع الأنحاء، ولم نكن ننجح في أيّ أمر. بل إنّ هناك من يقول اليوم: إنّ محبّة الأفول، والميل إلى تحطيم الذات كانت ميولاً متأصّلة في نفوسنا نحن الديناصورات منذ ردح من الزمن. لا أدري عن هذا شيئاً، لأنّه لم يسبق لي أن شعرت بمثل هذه الأحاسيس، وإذا كان آخرون منّا قد شعروا بها، فلأنّهم كانوا يعلمون أنّها كانت نهايتهم.

لكنّي أفضّل الآن ألّا أعود بذاكرتي إلى حقبة الهلاك العظيم.

لم أكن لأصدّق أبداً أنّي سأنجو. وخاصّة أنّي طلبت النجاة بالهجرة عبر رحلة طويلة عبرتُ خلالها مقابر مليئة بجثث مهترئة، ليس عليها سوى قشرةٍ أو قرنٍ أو لوحِ درعٍ أوقطعة جلدٍ ممزّقة، لكنّها تذكّر بروعةٍ قديمة كانت تزيّن ما كان يوماً ما كائناً حيّاً. وقد انهالت الآن على هذه البقايا مناقير ومناسر ومخالب ومصّاصات سادةِ الكوكب الجدد. لكنّي توقّفت عندما لم أعد أجد أثراً لحيّ أو لميَت.

قضيت فوق تلك المرتفعات القاحلة سنين وسنين كثيرة جدّاً. وتمكّنت من البقاءعلى قيد الحياة، على الرغم من أنّي كنت وحيداً في مجابهة أنواع المصائب والأوبئة والمجاعات والصقيع. لكنّ لم يكن لي أن أبقى إلى الأبد هناك في الأعلى، فبدأت بالهبوط إلى الأسفل.

هناك وجدت أنّ العالم قد تغيّر، ولم أتمكّن من معرفة الجبال أو الأنهار أو النباتات. لذلك فقد اختبأت بمجرّد أن رأيت أمامي بعض الكائنات الحيّة. وكانوا عبارة عن قطيع من الجدد، كانوا صغاراً لكن أقوياء.

ما كان من هؤلاء إلّا أن أوقفوني وهم يصيحون: – أنت، هناك! فشعرت حالاً بالدهشة من هذا النوع العائليّ في الهجوم، وعندما هربت، لحقوا بي. كنت قد اعتدت منذ آلاف السنين على بثّ الرعب حولي، وعلى الشعور بالخوف من ردود فعل الآخرين على الرعب الذي كنت أثيره فيهم. أمّا الآن فلا شيء من هذا كلّه. بل مجرّد: – أنت، هناك!

 كانوا يقتربون منّي كأنّ شيئاً لم يكن، لا بعداوة ولا خوف.

– لماذا تهرب؟ ما الذي خطر على بالك؟ – كانوا لا يريدون منّي إلّا أن أدلّهم على طريق يقود إلى… ولا أعرف إلى أيّ جهة! فتمتمت قائلاً: إنّي لست من هذا المكان. – ولماذا هربت إذاً؟ قال لي أحدهم: – لقد هربت كما لو أنّك رأيت… ديناصوراً! فضحك الآخرون. لكنّي شعرت في تلك الضحكة ولأوّل مرّة علامة خوف. كانت ضحكة قسريّة نوعاً ما، بل إنّ أحدهم نفخ أوداجه وأضاف: – لا تقل مثل هذا ولا حتّى من قبيل المزاح. أنت لا تعرف من هم…

هذا يعني أنّ الخوف من الديناصورات ما زال قائماً بين الجدد، لكنّهم لم يروا أحداً منهم منذ عدّة أجيال على الأرجح، لذلك فلم يكونوا قادرين على التعرّف إليهم. تابعت سيري، محترساً وبشيء من الترقّب كي لا تتكرّر تلك التجربة. ثمّ رأيت صبيّةً من الجدد تشرب على النبع، كانت وحدها. فاقتربت منها ببطء شديد، وأطلت عنقي لأشرب أنا أيضاً إلى جانبها، وكنت قد تنبّأت بأنّها ستطلق صرخة يأس عندما تراني، وأنّها ستهرب على عجل، بل لابدّ أنّها ستطلق إنذاراً، ولابدّ أن يصل الجدد لمطاردتي…

في تلك اللحظة شعرت بالندم على ما بدر منّي، وفكّرت أنّه إذا أردت أن أنجو، فما عليّ إلّا الفرار والبدء من جديد…

لكنّ الصبيّة التفتت وقالت: – ألا ترى أنّ الماء بارد؟ ثمّ بدأت الحديث بودّ وبعبارات مناسبة كتلك التي تستخدم عادة مع الغرباء، وسألتني فيما إذا كنت قد جئت من بعيد؟ وفيما إذا كان الجوّ ماطراً أو صحواً في الطريق؟. لكنّي لم أكن أتخيّل أنّه يمكن الحديث بهذه الطريقة مع غير الديناصورات، لذلك فقد شعرت بالتوتّر والتزمتُ الصمت.

قالت لي: – أنا أشرب دائما من هذا النبع، من نبع الديناصور…

شعرت برعشة أصابت رأسي، وفنجلتُ عينيّ.

– أجل، أجل، هذا هو اسم النبع منذ زمن بعيد، نبع الديناصور.

إذ يقال إنّ ديناصوراً من آخر الديناصورات اختبأ هنا ذات مرّة، وكان يهاجم كلّ من يأتي ليشرب هنا ثمّ يقطّعه إرباً، يا أمّي!

كنت سأغطّي وجهي خجلاً. وفكّرت: «لابدّ أن تفهم الآن من أنا، ستمعن النظر فيّ وستعرف ذلك». لذلك فقد فعلت كما يفعل من يريد ألّا ينظر إليه الآخرون، أي أنّي خفضت بصري ولويت ذيلي كما لو أنّي أريد إخفاءه. وبذلتُ لذلك جهداً عظيماً، حتى إنها ما أن ألقت عليّ التحيّة مبتسمة ثمّ ذهبت لتتابع طريقها، حتّى شعرتُ بتعب وإنهاك كبيرين وكأنّي خضت معركة حامية الوطيس، من تلك المعارك التي كانوا يستعملون فيها الأظافر والأسنان. وأدركت بعد ذلك أنّي لم ألق عليها حتّى تحيّة الوداع.

وصلتُ إلى ضفّة نهر، حيث أقام الجدد. وبما أنّهم كانوا يقتاتون بالسمك، فقد بنوا سدّاً من أغصان الشجر كي تنعطف المياه وتنخفض سرعتها فتنحجز الأسماك. ما أن رأوني حتّى رفعوا رؤوسهم عن أعمالهم وتوقّفوا، وبعد أن نظروا إليّ نظر بعضهم إلى بعضهم الآخر، وكأنّهم يتساءلون فيما بينهم بصمت وسكون. لذلك فقد قلت في نفسي: «ها قد وصلنا، لم يبق لي إلّا أن أبيع جلدي الغالي»، ثمّ تهيّأت للقفز.

لكنّي تمكّنت لحسن الحظّ من التوقّف في اللحظة المناسبة. فلم يكن لدى أولئك الصيّادين أيّ شيء ضدّي، بل إنّهم عندما رأوا ضخامة جسمي، أرادوا أن يطلبوا منّي العمل لديهم، لأساعدهم في نقل الأخشاب.

– المكان هنا آمن – أكّدوا لي بعد أن شاهدوا التردّد الذي بدر منّي. كما أنّ أحداً لم يشاهد ديناصورات هنا منذ زمن الأجداد وأجداد الأجداد…

لم يشعر أحد بأيّ شكّ حول من أكون. لذلك فقد قبلتُ. كان الطقس هناك رائعاً، وإذا كان الطعام لا يناسب أذواقنا، فإنّه كان مقبولاً. ولم يكن العمل، بالنظر إلى قوّتي، مرهقاً بشكل كبير. كانوا ينادونني بلقب «القبيح» لأنّي كنت مختلفاً عنهم وليس لأيّ سبب آخر. كان هؤلاء الجدد، ولا أعلم ماذا تسمّونهم أنتم، عبارة عن ثدييّات أحفوريّة أو حيوانات طباشيريّة أو غير ذلك، كانوا في طور التشكّل، وقد انحدرت عنهم في الواقع البقيّة من هذا النوع، بل كانت هناك في ذلك الزمان فروق بين الأفراد تمرّ عبر تشابهات واختلافات عدة، وقد اقتنعت في نهاية الأمر أنّه لم تكن هناك فروق ذات معنى بيني وبينهم.

هذا لا يعني أنّي تعوّدت بصورة كاملة على تلك الفكرة، فمازلت أشعر أنّني ديناصورموجود وسط الأعداء، لذلك فقد كنت أنسحب إلى الظلّ بأعصاب متوتّرة، في كلّ مرّة كانوا يبدؤون فيها برواية قصص عن الديناصورات، توارثوها جيلاً بعد جيل.

كانت قصصاً مروّعة. وكان المستمعون ينطلقون بين الفينة والأخرى بصرخات رعب تحاكي تلك التي تخرج من بين شفتّي الراوي، والذي كان صوته يشفّ بدوره عن مشاعر فزع لا تقلّ عن مشاعرهم.

سرعان ما تبيّن لي أنّ تلك القصص كانت معروفة لدى الجميع (على الرغم من أنّها كانت ذات حجم واسع)، لكنّ الرعب الذي تثيره كان يتجدّد كلّما سمعوها. كانت الديناصورات تبدو في تلك القصص نوعاً من الوحوش الكاسرة، وتوصف بتفاصيل لا تسمح بتمييز أفرادها، وكان جلّ همّها إيذاء الجدد، كما لو أنّهم كانوا أهمّ سكّان الأرض منذ البداية، ولا شغل يشغلنا عن الجري وراءهم من الصباح حتّى المساء. أمّا بالنسبة إليّ، فإنّ التفكير بالديناصورات يتطلّب التوجّه بالذهن نحو سلسلة من المحن وآلام النزْع والحِداد. كما كانت القصص التي كان الجدد يروونها عنّا مختلفة عن تجربتي، وكان بوسعها لذلك أن تجبرني على عدم المبالاة، كما لو أنّها تحكي عن مخلوقات مجهولة وغريبة عنّا. ومع هذا فقد أدركت بينما كنت أسمعها أنّي لم أكن أفكّر البتّة في الصورة التي كنّا نظهر بها أمام الآخرين، وأنّ تلك القصص كانت تمتّ بكثير من الصلة إلى الحقيقة، وخاصّة في بعض تفاصيلها التي يرونها من وجهة نظرهم.. كما أنّ قصص الرعب التي ارتكبناها تختلط في ذهني مع ذكرياتي عن الرعب الذي قاسيناه: فكنت أرتجف بمقدار ما كنت أسمع عمّا فعلناه لنخيف الآخرين.

كان كلّ منهم يروي قصّة، الواحد تلو الآخر، وفي لحظة ما قالوا: – وماذا يخبرنا هذا القبيح؟ أليس عندك قصص ترويها لنا؟ ألم تحدث في عائلتك مغامرات مع الديناصورات؟

– بلى، لكن… بدأت أتلعثم… مرّ على ذلك زمن طويل… هه، لو تعلمون…

لكنّ صبيّة النبع، واسمها زهرة السرخس، كانت أكبر عون لي خلال تلك الصعوبات التي كنت أجابهها في العادة. فكانت تقول لهم: – دعوه في سلام… إنّه غريب، لم يتعود بعد على الحياة بيننا، ولا يتحدّث بلغتنا كما يجب…

وهكذا فقد كنت أتنفّس الصعداء عندما ينتهي الأمر بتغيير الحديث.

وكان نوع من الثقة قد قام بيني وبين زهرة السرخس.

لكن لم يصل الأمر إلى أيّة حميميّة: ولم أجرؤ البتّة على لمسها. لكنّنا كنّا نتحدّث لوقت طويل، أو بالأحرى فإنّها كانت تحدّثني عن أمور من حياتها، أمّا أنا فكنت أخشى أن أفصح عن خباياي وأن أثير شكوكها حول هويّتي، لذلك كنت لا أتكلّم إلّا في العموميّات. كانت زهرة السرخس تحدّثني عن أحلامها وما رأته في منامها: رأيت هذه الليلة ديناصوراً ضخماً، مخيفاً، وكان ينفث النار من منخريه، اقترب وأمسك بي من عنقي، وجرّني وراءه، وكان يريد أن يلتهمني وأنا حيّة. كان حلماً مروّعاً، مخيفاً، لكنّ الغريب أنّي لم أكن خائفة، أبداً، بل كان هذا، وكيف أقول، يعجبني…

كان عليّ أن أفهم من ذلك الحلم أشياء كثيرة، أهمّها أنّ زهرة السرخس لم تكن ترغب إلّا في أن يتمّ الاعتداء عليها. كانت تلك اللحظة المناسبة كي أعانقها. لكنّ الديناصور الذي كانوا يتخيّلونه يختلف جدّاً عن الديناصور الذي هو أنا، وكان هذا الرأي يجعلني أشدّ اختلافاً وحياء. وهكذا فقد أضعت فرصة مناسبة. لأنّ أخا زهرة السرخس عاد بعد ذلك من موسم الصيد في السهول، فخضعت الصبيّة لحراسة مشدّدة، ممّا جعل أحاديثنا نادرة الوقع.

وكان هذا الأخ، واسمه زهن، قد اعتراه الشكّ منذ اللحظة الأولى التي رآني فيها. وأخذ يسأل الآخرين وهو يشير إليّ: – من هو ذاك؟ من أين جاء؟

فأجابوه: – إنّه القبيح، وهو غريب يعمل بالأخشاب، لماذا تسأل؟ ما الغرابة في الأمر؟

فقال زهن بلهجة غاضبة: – هذا ما أريد أن أعرفه منه بالذات. أنت، هناك، ما الغريب في أمرك؟

فماذا كان عليّ أن أجيب: – أنا؟ لا شيء…

– وبرأيك، هل تظن أنه لايوجد فيك شيء غريب؟ هيا أجبْ! ثمّ ضحك. وانتهى الأمر وقتها عند هذا الحدّ، وإن كنت لم أتوقّع بعدها أيّ خير من ورائه.

كان زهن هذا من أشدّ سكّان القرية حزماً. كان قد جاب حول العالم، وكان يبدو أنّه يعرف الأمور أكثر من غيره.

عندما كان يستمع إلى قصص الديناصورات كان كثيراً ما يفقد صبره. وقد قال مرّة: – هراء، إنّكم تحكون قصصاً خياليّة، بودّي أن أرى وجوهكم لو جاءكم الآن ديناصور حقيقيّ.

لكنّ أحد الصيّادين أجابه: – لقد مرّ وقت طويل منذ أن اختفوا.

ضحك زهن وقال: – ليس هناك وقت قد يكون طويلاً جدّاً، ولابدّ أنّ هناك قطيعاً منهم مازال يجوب في الأرياف… في السهول، وهم يتناوبون على الحراسة في الليل والنهار، ولا يصطحبون معهم أنواعاً لا يعرفونهم… هذا بعد أن ثبّت نظراته عليّ عن قصد وتصميم.

كان من غير المجدي أن يمتدّ الأمر إلى أطول من ذلك، ومن الأفضل أن يبوح بكلّ ما لديه. لذلك فد قمت بالخطوة الأولى، وسألته؟ – هل أنت غاضب منّي؟

– إنّي غاضب ممّن لا نعرف منشأه، ولا المكان الذي جاء منه، مع أنّه يريد أن يأكل من طعامنا، ويغازل أخواتنا…

لكنّ أحد الصيّادين وقف مدافعاً عنّي: – إنّ القبيح يكسب عيشه بالعمل، وهو يعمل بكلّ جدّ وإخلاص…

فأصرّ زهن وقال: – لا أنكر أنّه قادر على حمل الجذوع على ظهره، لكن من يضمن لنا أنّه سيسلك السبيل القويم في لحظات الخطر؟ وإذا ما توجّب علينا أن ندافع عن أنفسنا بالأظافر والأسنان؟

وهنا بدأ نقاش عامّ. والغريب أنّ إمكانيّة أني ديناصور لم تؤخذ البتّة بعين الاعتبار. والذنب الوحيد الذي كان يعزى إليّ هو أنّي أجنبيّ غريب، أي مارق مخادع، ونقطة الخلاف كانت تدور حول كيف يمكن لوجودي بينهم أن يزيد من خطر إمكانيّة عودة الديناصورات.

ثمّ تابع زهن استفزازي باحتقار: – أودّ أن أراه ساعة المعركة، وهو بذلك الفم الشبيه بأفواه السحالي.

وهنا اقتربت منه ووقفت بعنف إزاءه وجهاً لوجه: – يمكن لك أن تراني في الحال إذا شئت وإذا لم تهرب.

لم يكن ينتظر هذا منّي. لذلك فقد نظر إلى الآخرين، بينما التفّوا حوله.

لم يبق الآن إلّا العراك.

تقدّمتُ، وتجنّبت عضّته بأن لويت عنقه، بعد أن ناولتُه ركلةً قلبتْه على ظهره فجثمتُ فوقه. لكنّ تلك كانت حركة خاطئة. كان عليّ أن أعرف، أن أتذكّر عدد الديناصورات الذين رأيتهم يموتون بسبب العضّ والخدش بالأظافر، والتي نالت منهم في صدورهم وبطونهم، ذلك وهم يظنّون أنّهم أفلحوا في شلّ العدوّ عن الحركة.

لكنّي مازلت أحسن استعمال ذيلي، وقد استعملته لأثبت في مكاني. لم أكن أريد أن أنقلب بدوري، لذلك فقد ارتكزت عليه، لكنّي كنت أشعر أنّي سأقع…

عندها صاح أحد الحاضرين: – هيّا، تشجّع أيّها الديناصور! – لقد أصبح سواء عليّ الآن إن هم اكتشفوا أمري أو عدت كما كنت في السابق، أي إنّها خسارة في خسارة، فمن الأفضل لي أن أجعلهم يشعرون بالخوف القديم. لذلك فقد ضربت زهن ضربة ثم ضربتين فثلاث ضربات…

جاؤوا وفرّقوا بيننا. – لقد حذّرناك يا زهن، إنّ عضلات القبيح قويّة.

لا مزاح مع القبيح! وكانوا يتضاحكون ويهنّئونني، ويضربونني بحوافرهم على كتفي. وبما أنّي ظننت أنّهم قد اكتشفوا أمري، فإنّي لم أفهم من الأمر شيئاً. غير أنّي فهمت بعد شيء من الوقت أنهم كانوا يستعملون لفظ «الديناصور» لتشجيع المتنافسين في المسابقات، أي كأنّهم يقولون: «هيّا، أنت الأقوى!»، لكنّه لم يتّضح لي فيما إذا كان الهتاف موجّهاً لي أم لزهن.

منذ ذلك اليوم زاد احترامي بينهم. بل كان زهن أيضاً يشجّعني، وكان يتعقّبني ليشاهد مظاهر قوّتي. وعليّ أن أعترف أيضاً أنّ أحاديثهم عن الديناصورات قد تغيّرت أيضاً وإلى حدّ معيّن، ذلك كما يحدث عندما نشعر بالملل من الحكم على الأمور دائماً بالطريقة نفسها، فتبدأ الموضة بالدوران إلى طريقة أخرى. وهكذا فإذا كانوا يريدون الآن أن ينتقدوا أمراً ما في القرية، فقد بدأوا يعتادون على القول إنّ مثل هذه الأمور لا يمكن أن تحدث بين الديناصورات. أو أنّ الديناصورات هم المثل الأعلى في مثل هذه الأمور، أو لا شيء يعاب على سلوك الديناصورات في هذا الأمر أو ذاك، وهكذا إلى ما هنالك. الخلاصة أنّ نوعاً من الإعجاب اللاحق بدا أنّه يحيط الآن بهؤلاء الديناصورات الذين لا يعرف أحد شيئاً عنهم على وجه الدقّة.

بل إنّي قلت سهواً ذات يوم: – علينا ألّا نبالغ، ماذا تظنّون؟ وهل هو ديناصور؟

أجابوني في الحال بالقافية نفسها: – اسكت، وماذا تعرف أنت عن الديناصورات، وأنت لم تشاهدهم في حياتك؟

ربّما كانت هذه اللحظات المناسبة لتسمية الأمور بأسمائها. فقلت: – أنا الذي أعرف، ويمكن لي إذا رغبتم أن أشرح لكم كيف كانوا!

لم يصدّقوني بالطبع، بل ظنّوا أنّي أريد أن أسخر منهم. غير أنّي كنت لا أطيق طريقتهم الجديدة في الحديث عن الديناصورات، بل أمقتها أكثر من طريقتهم السابقة. لأنّه، وإلى جانب الآلام التي كنت أشعر بها بسبب المصير القاسي الذي أصاب النوع الذي أنتمي إليه– فإنّي كنت أعرف حياة الديناصورات من الداخل، وكنت أعرف العقليّة المحدودة التي كانت تسود بيننا، والتي كانت مليئة بأحكام مسبقة وغير قادرة على التلاؤم مع الأوضاع الجديدة. ثمّ عليّ الآن رؤية هؤلاء الجدد وهم يتّخذون مثالاً لهم من عالمنا الوضيع والمتأخّر، بل ولنقل، المملّ أيضاً! كان عليّ أن أقبل منهم بالذات الواجبَ المقدّس باحترام النوع الذي أنتمي إليه، وهو شعور لم أشعر به البتّة قبل الآن!

من ناحية أخرى كان من العدل أن تسير الأمور بهذه الطريقة: فماذا عند هؤلاء الجدد من أمور جديدة يمتازون بها عن ديناصورات تلك الأيّام الجميلة؟ إنّهم يشعرون بالأمان والاطمئنان في قريتهم، خاصّة بوجود سدودهم ومصائد أسماكهم، التي ساعدتهم على تأسيس مظاهر التكبّر والغطرسة. وهذا ممّا دفعني أنا أيضاً إلى الشعور أنّي لا أطيقهم، كما كنت لا أطيق أهل بيئتي. بل إنّ ازدرائي لهم، وللديناصورات، كان يزداد كلّما سمعتهم يتحدّثون بإعجاب عن الديناصورات.

قالت لي زهرة السرخس: – هل تعرف أنّي رأيت في الحلم هذه الليلة أنّ ديناصوراً سيمرّ أمام بيتي، كان ديناصوراً رائعاً، وهو أمير أو ملك الديناصورات. وكنت أتجمّل له، وأضع شريطاً حول رأسي، بينما كنت أطلّ على النافذة لأحاول لفت انتباهه، وألقي عليه تحيّاتي. لكنّه بدا أنّه لم ينتبه حتّى لوجودي هناك، ولم يتنازل بالتفضّل عليّ بنظرة واحدة…

قدّم لي هذا الحلم مفتاحاً جديداً لأفهم نفسيّة زهرة السرخس تجاهي. فلابدّ أنّ الصبيّة فسّرت خجلي منها على أنّه ازدراء وتعال عليها. والآن بعد أن أمعنت التفكير في الأمر، أرى أنّه من المناسب لي الإصرار لفترة أخرى على موقفي وعلى حيادي المتكبّر، وبهذا أستولي نهائيّا على قلبها. غير أنّ ذلك التصريح أثار مشاعري، فسقطتُ عند قدميها والدموع في عينيّ. وأنا أقول: – لا، لا يا زهرة السرخس، ليس الأمر كما تظنّين، لأنّك أنتِ أفضل من أيّ ديناصور، بل أفضل مئة مرّة، وأنا أشعر أنّي أدنى منك بكثير…

تخشّبت زهرة السرخس وتراجعت إلى الوراء. – لكن ما الذي تقوله؟ – لم يكن هذا ما كانت تتوقّعه، وبدت مشتّتة بعد أن وجدت أنّ ذلك المشهد كان مؤسفاً وغير ملائم. فهمت هذا بصورة متأخّرة جدّاً، لكنّي لممت شعثي بسرعة، على الرغم من أنّ جوّاً من عدم الارتياح بقي يجثم فوقنا.

لم أجد بعد ذلك وقتاً لمزيد من التفكير بعد أن حدث ما حدث. ذلك أنّ مجموعة من الرسل وصلوا منهكين إلى القرية وهم يحذّروننا: – لقد عادت الديناصورات! وقد شوهد قطيع من وحوش مجهولين يجرون بغضب عبر السهول. وإذا سارت الأمور على ما هي عليه، فإنّ القطيع لابدّ أن يغزو القرية في الغداة عند الفجر. ولذلك فقد تمّ إطلاق جرس الإنذار.

بوسعكم أن تتخيّلوا عاصفة المشاعر التي انفجرت في صدري عند سماع الخبر. فالنوع الذي أنتمي إليه لم يفن. وبوسعي الآن أن ألتحق بإخوتي وأستأنف حياتي القديمة! لكنّ ذكرياتي عن الحياة القديمة والتي جالت في مخيّلتي اقتصرت على سلسلة غيرمتناهية من الهزائم والفرار والمخاطر. وإن الاستئناف لن يعني إلّا إضافة مؤقّتة لآلام النزع والاحتضار، والعودة إلى مرحلة كنت أتوهّم أنّي أنهيتها. أمّا الآن فقد بلغت هنا في هذه القرية نوعاً من الاطمئنان الجديد والسلام، وإنّه ليسوؤني أن أفقدها.

كانت نفوس الجدد منقسمة أيضاً بين مشاعر متباينة. فهناك من جهة الفزع، ومن جهة أخرى الرغبة بالانتصار على العدوّ القديم، ومن جهة ثالثة فكرة أنّ الديناصورات إذا ما زالوا على قيد الحياة، وإذا كانوا يتقدّمون نحو الانتقام، فهذه إشارة إلى أنّ أحداً لن يتمكّن من صدّهم، ولذلك فإنّه لا يُستبعد أن يصبح انتصارهم مفيداً للجميع، على الرغم من كلّ ما فيه من بأس وقسوة. أي أنّ الجدد كانوا يطمعون بالانتصار، ويريدون في الوقت نفسه الهرب وإبادة الأعداء وكذلك أن يتعرضوا للهزيمة. وقد ظهر هذا التردّد واضحاً في الفوضى التي سادت عمليّات تحضيرهم للدفاع عن أنفسهم.

صرخ زهن قائلاً: – هناك واحد بيننا لا ثاني له قادر على استلام القيادة، إنّه أقوانا جميعاً، إنّه القبيح!

فأجاب الآخرون في جوقة واحدة: – أجل، لا بدّ أن يكون القبيح.

– بلى، بلى، القبيح هو القائد! وهكذا فقد وضع جميع هؤلاء أنفسهم تحت قيادتي.

– لكن، لا، كيف يمكن لي، أنا الأجنبيّ، لا، لست على مستوى القيادة…

أخذت أتهّرب. لكن لم تكن هناك وسيلة لإقناعهم.

ماذا كان عليّ أن أفعل؟ لم أتمكّن في تلك الليلة أن أغلق جفناً. إذ كان صوت الدم يحثّني على الفرار لألتحق بإخوتي، لكنّ إخلاصي للجدد الذين حضنوني واستضافوني وأولوني ثقتهم كان ممّا يدعوني إلى عكس ذلك، أي إلى أن أرى نفسي إلى جانبهم. ومن جهة أخرى كنت على ثقة أنّه لا يوجد من يستحق تحريك إصبع من أجله سواء الديناصورات أوالجدد منهم. فإذا كانت الديناصورات يريدون تثبيت سيطرتهم بوساطة الغزو والمذابح، فهذا يدلّ على أنّهم لم يتعلّموا شيئاً من تجربة أنّهم لم يتمكّنوا من البقاء على قيد الحياة إلّا لوجود خطأ ما. وكذلك فمن الواضح أنّ الجدد لجأوا إلى أسهل الحلول بتسليمهم القيادة لي. أي أنّهم تركوا كلّ المسؤوليّات تقع على عاتق أجنبيّ، يمكن له أن يكون منقذاً لهم، أو مجرّد كبش فداء يسلّمونه للعدوّ إذا ما هزموا، فيطيّبون بذلك خاطر أعدائهم، كما أنّهم سيحّققون أحلامهم غير المعلنة في الخضوع للديناصورات، عندما يظهرون أنّه أصبح خائناً لهم. الخلاصة أنّي أردت تجنّب طرفين يقتتلان فيما بينهما ويتذابحان على التوالي. كنت لا أهتمّ بأيّ منهما. لهذا كان عليّ أن أهرب بأسرع ما يمكن، وأن أتركهم ينسلقون في مرقهم، وأن أتجنّب الانغماس في تلك القصص القديمة.

في تلك الليلة بالذات تسلّلت عبر الظلام وهجرت القرية، وكانت أولى رغباتي هي أن أبتعد ما أمكنني ذلك عن مكان المعركة، وأن أعود إلى ملاجئي السرّيّة. غير أنّ فضولي غلب رغبتي، فأردت أن أجتمع بأشباهي، وهم من نوعي، وأن أعرف أنّهم قد انتصروا. وهكذا فد اختبأت على قمّة مجموعة من الصخور تطلّ على منعطف النهر، وهناك انتظرت شروق الفجر.

مع ظهور الضوء بانت في الأفق هيئاتٌ وصور. كانوا يتقدّمون بالهجوم، فرأيت حتّى قبل أن أميّز أشكالهم، أنّه لا يمكن للديناصورات أن تسير بمثل هذا الابتذال. ولم أعرف عندما تعرّفت إليهم فيما إذا كان عليّ أن أضحك من الأمر أوأن أخجل بسببه. كانوا عبارة عن قطيع من أوائل حيوانات وحيد القرن، حيوانات ضخمة الأجسام تسير بتردّد وكيفما اتّفق، لها قرون قرنيّة غير مؤذية. وكان القطيع منكبّاً على قضم الأعشاب أمامه: هذا هو العدوّ الذي ظنّوه قطيعاً من سادة الأرض القدامى!

كان قطيعاً من حيوانات وحيد القرن يجرون محدثين ضوضاء كهدير الرعد، ولا يتوقّفون إلّا ليلعقوا بعض الشجيرات، قبل أن يستأنفوا جريهم نحو الأفق، غير آبهين، بل إنّهم لم ينتبهوا إلى مكان تمركز الصيّادين.

عدت بسرعة إلى القرية. وأعلنت لهم: – إنّكم لم تفهموا شيئاً من الأمر! هؤلاء ليسوا ديناصورات، بل مجرّد حيوانات وحيد القرن، وقد ذهبوا في طريقهم! وزال كلّ خطر! ثمّ أضفت سعياَ إلى تبرير فراري خلال الليل: – لقد خرجت لأستطلع الأمر وأتحسّس منهم لأعود وأخبركم!

انبرى زهن ليقول بكلّ هدوء: – لا يمكن لنا أن نكون قد غفلنا عن أنّهم ليسوا ديناصورات، لكنّنا فهمنا أنّك لست البطل الذي كنّا نظنّ. ثمّ أدار لي ظهره.

لقد خاب أملهم بكلّ تأكيد، خاب منّي ومن الديناصورات، ولابدّ أن تصبح القصص التي سيقصّونها عن الديناصورات مجرّد نكت، تبدو فيها تلك الوحوش الرهيبة بأشكال مضحكة. لكنّي لم أكن ألتفت إلى دعاباتهم البائسة تلك. كما أنّي بدأت أدرك عظمة المشاعر التي جعلتنا نفضّل الاختفاء والزوال عوضاً عن السكنى في عالم لم يعد عالمنا. أمّا أنّي قد بقيت وحدي، فهذا لأنّي ديناصور حافظ على إحساسه أنّه ديناصور، يعيش وسط حثالة تخفي المخاوف التي ما زالت تسيطر عليها تحت ستار من الهزل الرخيص. لكن ما هي الخيارات التي بقيت للجدد إن لم تكن خيارات تتراوح بين السخرية والخوف؟

لقد كشفت زهرة السرخس عن موقف مختلف من خلال حلم قصّته عليّ: – كان يا ما كان، كان هناك ديناصور مضحك بلون أخضرأخضر، وكان الجميع يسخرون منه ويشدّون له الذنب. لذلك فقد تقدّمت ودافعت عنه وأبعدته عنهم وأنا أداعبه. فأدركت أنّه مضحك بالفعل، لكنّه كان أشدّ المخلوقات حزناً، بل كان هناك نهر من الدموع يسيل من عينيه الصفراوين الحمراوين.

ماذا حلّ بي عند سماع تلك الكلمات؟ هل كان شعوراً بالاشمئزاز الشديد من تشبيهي بشخصيّة ذلك الحلم، أو أنّه رفضٌ لمشاعر حسِبْتُها مشاعرَ عطفٍ وشفقة، أو عدم تحمّل الأفكار والتخيّلات التي كوّنها جميعهم عن قلّة شأن الديناصورات؟ وهكذا غلبتني مشاعر الكبرياء فتصلّبتُ ورميتُها بعبارات ازدراء قاسية. لماذا تُضجريني بمثل هذه الأحلام التي تزداد صبيانيّة؟ أو لا تعرفين أن تحلمي إلّا أحلاماً حمقاء غبيّة؟

انفجرت زهرة السرخس بالبكاء، وابتعدت عنها بينما أهزّ كتفيّ.

حدث هذا قرب السدّ، ولم نكن وحدنا، وإذا كان الصيّادون لم يسمعوا الكلام، فهم قد لاحظوا ولابدّ انفجاري في وجهها ثمّ بكاء الصبيّة.

لذلك فقد شعر زهن أنّ عليه التدخّل. فقال لي بصوت حادّ: – ومن تظنّ نفسك حتّى تعامل أختي بقلّة الاحترام تلك؟

وقفت ولم أجب، أمّا إذا أراد أن يقاتل فقد كنت مستعدّاً للأمر. غير أنّ أسلوب الحياة في القرية قد تغيّر في الفترة الأخيرة، إذ كانوا يسخرون من كلّ أمر. وهكذا فقد صاح بعض من مجموعة الصيّادين في جوقة واحدة:

هيّا بنا، هيّا بنا أيّها الديناصور! وكنت أعرف كلّ المعرفة أنّ هذا تعبير ساخر دخل في عاداتهم، ولا يعني إلّا:

– «اخفض صوتك ولا تبالغ» وأشياء من هذا النوع، لكنّي شعرت بدمي يغلي عندما سمعتها.

– أجل، إنّي كذلك، إذا أردتم أن تعرفوا. وصرخت بصوت مرتفع: – ديناصور! أجل إنّي كذلك! وإذا لم يسبق لكم أن رأيتم ديناصوراً من قبل، فها أنذا، انظروا إليّ إذا شئتم!

وهنا انفجرت قهقهة جماعيّة.

وقال أحد المسنّين: – لقد رأيت البارحة واحداً منهم، وكان قد خرج لتوّه من بين الثلج. فأطبق الصمت وساد المكان.

كان العجوز عائداً من رحلة بين الجبال. فرأى الجليد يذوب ويتكشّف عن هيكل عظميّ لديناصور قديم متجمّد.

ذاع الكلام في أنحاء القرية، فقال الجميع: – هيّا بنا لنشاهد الديناصور! وجروا جميعاً نحو الجبل، وأنا معهم.

تجاوزنا ركاماً من الأحجار والجذوع المقطوعة وهياكل الطيور، فانفتح بعدها أمامنا واد على شكل الصدفة، ورأينا خماراً أخضر من الإشنيّات يغطّي الصخور التي تحرّرت من الجليد. كان هناك في وسطها هيكل عظميّ لديناصور ضخم وكان مستلقياً كما لو أنّه نائم، وقد استطالت رقبته بسبب الفواصل الموجودة بين الفقرات، كما انتشر ذيله على شكل خطّ أفعوانيّ طويل. أمّا القفص الصدري فقد تقوّس على شكل شراع، وعندما كانت الرياح تعصف بين أضلاعه المسطّحة كان يبدو أنّ هناك بينها قلباً غير مرئيّ ما زال ينبض. وقد استدارت الجمجمة بطريقة معوجّة، وبقي الفم مفتوحاً، كأنّما أراد أن يطلق صرخته الأخيرة.

جرى الجدد إلى هناك وهم يتصايحون من شدّة البهجة. وقد شعروا بوجودهم أمام الجمجمة أنّ العينين الفارغتين تحملقان بهم، لذلك فقد وقفوا بصمت على بضع خطوات منها، ثمّ التفتوا واستأنفوا حماقاتهم الغبيّة. كان يكفي أن ينقّل أحدهم بصره بين الهيكل العظميّ وبيني وأنا أتأمّل المنظر، حتى يكتشف أنّنا متشابهان. لكنّ أحداً لم يفعل ذلك، فقد كانت تلك العظام، وتلك المخالب، وتلك الأطراف القاتلة، تتحدّث بلغة لا يفهمها أي مخلوق الآن، ولا تعني شيئاً بالنسبة لأيّ كان، إلّا ذلك الاسم الغامض الذي لم تعد له علاقة بتجربة الحاضر.

واصلت النظر إلى الهيكل العظميّ، رأيت فيه الأب، والأخ الشبيه بي، والأنا بالذات. رأيت فيه أطرافي المقضومة المفرّغة، وملامحي المحفورة في الصخر، رأيت كلّ ما كنّا عليه، ثم لم نعد كما كنا، رأيت جلالتنا وأخطاءنا، ورأيت سقوطنا وزوالنا.

أمّا الآن فسيستخدم هذه البقايا شاغلو الكوكب المشتّتون الجدد، وسيستعملونها كعلامة تدلّ على هذا المكان، وسيتابعون مصير اسم «الديناصور» الذي أصبح الآن مجرّد صوت غامض لا معنى له. لكنه ليس لي أن أسمح بهذا. فكلّ ما له علاقة بطبيعة الديناصورات الحقيقيّة يجب أن يبقى مستوراً وخفيّاً. لذلك، فما أن نام الجدد في الليل حول الهيكل العظميّ المنشور، حتّى أخذت بنقل شبيهي الميّت ودفنه فقرة بعد أخرى.

عند الصباح لم يجد الجدد أثراً للهيكل العظميّ. لكنّهم لم ينشغلوا طويلاً بالأمر. كان بالنسبة إليهم سرّاً غامضاً أضيف إلى أسرار أخرى كثيرة تتعلّق بالديناصورات، وهكذا فسرعان ما طردوا الفكرة من أذهانهم.

لكنّ ظهور الهيكل العظميّ ترك أثراً، لأنّ فكرة الديناصورات بقيت مرتبطة لديهم جميعاً بالنهاية الحزينة، وهكذا فقد بدأت القصصَ التي يقصّونها تنصبغ بلهجة شفقة بسبب ما عانيناه من آلام. لكنّي لم أكن لأهتمّ بشفقتهم تلك. الشفقة على ماذا؟ فإذا كان هناك أيّ تطوّر كامل وغنيّ قد جرى في أيّ وقت مضى، وإذا ظهرت أيّة مملكة طويلة العمر وسعيدة، فقد كنّا نحن. أمّا انقراضنا فلم يكن إلّا خاتمة عظيمة، جديرة بماضينا العظيم. لكن ماذا يمكن لهؤلاء الحمقى أن يفهموا من هذا الأمر؟ وهكذا، فقد كنت أشعر بالحاجة لأن أسخر منهم كلمّا سمعتهم يبذلون مشاعر رقيقة حول مصير الديناصورات المساكين، وكنت آخذ باختراع قصص غريبة لا أساس لها وأقصّها عليهم. على كلّ فإنّ حقيقة الديناصورات لن يفهمها أحد بعد الآن، فهي سرّ سأحتفظ به لنفسي.

توقّفت مجموعة من الرُحّل في القرية. كان هناك بينهم صبيّة جزعتُ لمرآها. فإذا لم يخدعني البصر، فإنّ تلك الصبيّة لا تحمل في عروقها دماء الجدد فقط، بل كانت خلاسيّة. كانت أنثى ديناصور هجينة. فهل كانت تعلم هي ذلك؟ لا بالتأكيد، ذلك إذا حكمنا على مدى لا مبالاتها. ربّما لم يكن أحد والديها ديناصوراً، بل ربما كان أحد الأجداد أوأجداد الأجداد، أو أحد الأسلاف. وهكذا فهاهي تظهر الآن ببعض صفات سلالتنا وحركاتها، وها هي تعود فيها بشيء من الإصرار، وإن لم يكن للكثيرين أن يدركوا ذلك. كانت مخلوقةً جميلة مرحة، لذلك ما لبث أن أحاطت بها مجموعة من المعجبين، وكان زهن أكثرهم إعجاباً بها، بل وهائماً بجمالها.

عندما بدأ الصيف أقام الفتية حفلات على النهر. – تعال معنا! دعاني زهن، الذي بدأ يحاول شدّ أواصر الصداقة معي بعد الخصومات الكثيرة التي جرت بيننا، ثمّ استأنف السباحة إلى جانب الخلاسيّة.

اقتربتُ من زهرة السرخس، فلربّما حان وقت الإفصاح عمّا في النفوس والوصول إلى تفاهم. – بماذا حلمتِ الليلة؟ سألتها كي أبدأ حديثاً معها.

حنت رأسها وقالت: – رأيت ديناصوراً جريحاً يتلوّى ألماً في سكرات الموت. حنى رأسه الناعم النبيل وهو يتألّم ويتعذّب… كنت أنظر إليه، ولم أعرف كيف أكفّ عن النظر إليه، لكنّي أدركت أنّي أشعر بشيء من اللذّة برؤية عذابه…

كانت شفتا زهرة السرخس قد التوتا بطريقة سيّئة لم ألاحظها من قبل. كان بودّي أن أشرح لها أنّه لا علاقة لي بلعبة مشاعرها الغامضة والقاتمة، فأنا أحبّ الحياة وسليل نَسَب سعيد. لذلك فقد أخذت أرقص حولها، ثمّ حرّكت ذيلي فرشمتُها بمياه النهر.

قلت لها بخفّة: – أنت لا تقدرين إلّا على التحدّث بكلام حزين، دعي عنك هذا، وتعالي لنرقص!

لم تفهم شيئاً ممّا قلته، وكشّرت وجهها.

فقلت: – أمّا إذا لم ترقصي معي، فسأراقص أخرى! وما لبثت أن أخذت بقائمة الخلاسيّة وأبعدتها عن زهن على الرغم منه، فنظر إليها في البداية وهي تبتعد عنه، ولم يدرك شيئاً ممّا يحدث، لأنّه كان مستغرقاً في تأمّلاته الغراميّة، ثمّ تعرّض لهجمة من الغيرة هزّت كيانه. بعد قليل من الوقت رميت بنفسي أنا والخلاسيّة في النهر وسبحنا حتّى وصلنا إلى الضفّة الأخرى، ثمّ اختفينا بين الشجيرات.

ربّما أردت فقط أن أستعرض مواهبي أمام زهرة السرخس، وأن أكذّب المزاعم الخاطئة التي تشكّلت عنّي. أو ربّما كانت أحقادي القديمة على زهن هي التي حرّكتني لأن أصرّ وأعاند في ردّ تقرّبه إليّ، وطلب صداقتي من جديد. أو أنّ سلوك الخلاسيّة المألوف على الرغم مما فيه من غرابة هو الذي أثار في نفسي الرغبة بإقامة علاقة طبيعيّة معها، مباشرة، لا تنطوي على أفكار خفيّة أوعلى ذكريات.

كان من المقرّر أن تغادر قافلة الرحّل في صباح الغد. وقد قبلت الخلاسيّة بقضاء الليل بين الشجيرات. وهكذا فقد استغرقت في غراميّاتي معها حتى بزوغ الفجر.

لم تكن هذه إلّا فصولاً عابرة في حياتي، التي كانت حياة هادئة لا تقع فيها أحداث مثيرة إلّا نادراً. وقد أغرقت في صمت مطبق كلّ الحقائق المتعلّقة بي وبعهود مملكتنا. وهكذا فقد انقطع الكلام عن الديناصورات، وربّما لم يعد أحد يصدّق أنّهم وجدوا يوماً ما. بل إنّ زهرة السرخس كفّت عن رؤيتهم في أحلامها.

عندما قالت لي: – رأيت في المنام أنّه تبقّى في الكهف كائن وحيد من نوع لا أحد يذكر اسمه، ذهبت لأسأله، وكان الظلام مخيّماً، كنت على ثقة أنّه موجود هناك، لكنّي لا أتمكّن من رؤيته، وكنت أعرف كذلك من هو وكيف كان شكله، لكنّي لا أتمكّن من التعبير عن ذلك، ولم أكن أفهم أيضاً فيما إذا كان هو الذي يجيب عن أسئلتي أو أنّي أنا من يجيب عن أسئلته… عندها أدركت أنّ هذه إشارة إلى أنّ تفاهماً غراميّاً قد بدأ أخيراً فيما بيننا، وذلك وفق ما كنت أرغب وأريد عندما وقفت عند النبع أول مرة، ولم أكن أعرف حينها فيما إذا كان سيقيّد لي أن أعيش.

تعلّمت أشياء كثيرة منذ ذلك الحين، تعلّمت قبل كلّ شيء الطريقة التي تنتصر بها الديناصورات. وكنت أعتقد في السابق أنّ الاختفاء كان بالنسبة إلى إخوتي عبارة عن قبولٍ شهمٍ بهزيمتهم. لكنّي أعرف الآن أنّ الديناصورات كلّما اختفوا توسّعت سيطرتهم حتّى على غابات تمتدّ على مسافات شاسعة أكبر من تلك التي تغطّي القارّات جميعها، لأنّها تتوسّع ضمن تشابك أفكار الكائنات المتبقّيّة وتعاريج أذهانها. وتواصل هذه الكائنات الآن مدّ أعناقها ورفع قوائمها ذات المخالب، من خلف ظلال المخاوف والشكوك التي تغذّيها أجيال متعاقبة اطمأنّت الآن في غفلتها وجهلها. وما أن يُمحى آخر ظلّ من ظلال صورتها، حتّى يواصل اسمها فرض نفسه على جميع المعاني، وذلك ليخلّد وجودها وسط العلاقات القائمة بين الكائنات الحيّة. والآن إذ يُمحى حتّى اسم الديناصورات، فلا يتبقّى لهم إلّا أن يتوحّدوا مع قوالب الفكر الخرساء الغامضة، التي تأخذ منها موضوعات الفكر نفسه شكلها ومضمونها. وذلك بدءاً من الجدد، ومن أولئك الذين سيأتون بعد الجدد، بل والذين سيأتون بعدهم أيضاً.

نظرت حولي: هاهي القرية التي رأتني غريباً عندما وصلت إليها، والتي بوسعي الآن أن أقول: إنّها قريتي بالفعل، وإنّ زهرة السرخس هي لي، وذلك بمقدار ما بوسع ديناصور أن يقول ما أقوله. لذلك فقد ودّعت زهرة السرخس بإشارة صامتة، ثمّ تركت القرية وخرجت منها إلى الأبد.

نظرت على الطريق إلى الأشجار والأنهار والجبال، وعرفت أنّي لن أقدر على تمييز ما كان موجوداً منها في زمن الديناصورات وما كان بعد ذلك الزمن. كان هناك بعض الجوّالين الرحّل حول بعض الكهوف، ورأيت بينهم الصبيّة الخلاسيّة، إنّها ما زالت تثير الشهوة، وإن كانت قد سمنت بعض الشيء. لكنّي اختبأت بين أشجار الغابة كي لا تراني وأنا أتجسّس عليها.

كان هناك طفل صغير يتمايل وراءها، بعد أن أصبح قادراً على السير على قدميه. كم مضى من الوقت عليّ، دون أن أرى ديناصوراً صغيراً بمثل هذا الكمال، ديناصوراً حقيقيّاً، مع أنّه يجهل ما هو معنى اسم ديناصور؟

انتظرته في فسحة من فسحات الغابة لأشاهده وهو يلعب، وهو يجري وراء فراشة، أو وهو يضرب كوز صنوبر بالحجر ليأخذ منه الثمار.

اقتربت منه. إنّه ابني بالفعل.

نظر إليّ وسألني بفضول: – من أنت؟

فأجبت: – لا أحد. – وأنت؟ هل تعرف من تكون؟

فقال: – ما هذا السؤال؟! هذا ما يعرفه الجميع: أنا من الجدد!

هذا بالذات ما كنت أتوقّع سماعه منه. داعبت رأسه وقلت له: – شاطر، ثمّ انصرفت.

اجتزت ودياناً وسهولاً، حتّى وصلت إلى محطّة فركبت قطاراً بعد أن اختلطت بآخرين غيري.

________________

من كتاب “الهزل في قصص الأزل – جميع الهزليّات الكونيّة” الذي يصدر قريباً عن دار المدى.

*****

خاص بأوكسجين